الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
والتوحيد اسم لستة معان : توحيد الفلاسفة ، وتوحيد الجهمية ، وتوحيد القدرية الجبرية ، وتوحيد الاتحادية ، فهذه الأربعة أنواع من التوحيد جاءت الرسل بإبطالها ، ودل على بطلانها العقل والنقل ، فأما توحيد الفلاسفة فهو إنكار ماهية الرب الزائدة على وجوده ، وإنكار صفات كماله ، وأنه لا سمع له ولا بصر ، ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة ولا كلام ولا وجه ولا يدين ، وليس فيه معينان يتميز أحدهما عن الآخر البتة ، قالوا : لأنه لو كان كذلك لكان مركبا وكان جسيما مؤلفا ، ولم يكن واحدا من كل وجه ، فجعلوه من جنس الجوهر الفرد الذي لا يحس ولا يرى ولا يتميز منه جانب عن جانب ، بل الجوهر الفرد يمكن وجوده ، وهذا الواحد الذي جعلوه حقيقة رب العالمين يستحيل وجوده .

فلما اصطلحوا على هذا المعنى في التوحيد وسمعوا قوله : ( وإلهكم إله واحد ) ، وقوله : ( وما من إله إلا الله ) نزلوا لفظ القرآن على هذا المعنى الاصطلاحي ، وقالوا : لو كان له صفة أو كلام أو مشيئة ، أو علم ، أو حياة [ ص: 136 ] وقدرة ، أو سمع أو بصر ، لم يكن واحدا ، وكان مركبا مؤلفا ، فسموا أعظم التعطيل بأحسن الأسماء ، وهو التوحيد ، وسموا أصح الأشياء وأحقها بالثبوت ، وهو صفات الرب ، بأقبح الأسماء ، وهو التركيب والتأليف ، فتولد من بين هذه التسمية الصحيحة للمعنى الباطل جحد حقائق أسماء الرب وصفاته ، بل وجحد ماهيته وذاته وتكذيب رسله ، ونشأ من نشأ على اصطلاحه مع إعراضه عن استفادة الهدى والحق من الوحي ، فلم يعرف سوى الباطل الذي اصطلحوا عليه فجعلوه أصلا لدينه ، فلما رأى أن ما جاءت به الرسل يعارضه قال : إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل .

التوحيد الثاني توحيد الجهمية : وهو مشتق من توحيد الفلاسفة ، وهو نفي صفات الرب كعلمه ، وكلامه ، وسمعه ، وبصره وحياته ، وعلوه على عرشه ونفي وجهه ، ويديه ، وقطب رحى هذا التوحيد جحد حقائق أسمائه وصفاته .

التوحيد الثالث : توحيد القدرية والجبرية ، وهو إخراج أفعال العباد أن تكون فعلا لهم ، وأن تكون واقعة بإرادتهم وكسبهم ، بل هي نفس فعل الله تعالى ، فهو الفاعل لها دونهم ، ونسبتها إليهم ، فعلها ينافي التوحيد عندهم .

الرابع : توحيد القائلين بوحدة الوجود ، وأن الوجود عندهم واحد ، ليس عندهم وجودان : قديم وحادث ، وخالق ومخلوق ، وواجب وممكن ، بل الوجود عندهم واحد بالعين ، والذي يقال له : الخلق المنزه والكل من عين واحدة ، بل هو العين الواحدة .

فهذه الأنواع الأربعة سماها أهل الباطل توحيدا واعتصموا بالاسم من إنكار المسلمين عليهم ، وقالوا : نحن الموحدون ؟ وسموا التوحيد الذي بعث الله به رسله : تركيبا وتجسيما وتشبيها ، وجعلوا هذه الألقاب لهم سهاما وسلاحا يقاتلون بها أهله ، فتترسوا بما عند أهل الحق من الأسماء الصحيحة وقابلوهم بالأسماء الباطلة ، وقد قال جابر في الحديث الصحيح في حجة الوداع : فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " ، فهذا توحيد الرسول صلى الله عليه وسلم المتضمن لإثبات صفات الكمال التي يستحق عليها الحمد ، ولإثبات الأفعال التي يستحق بها أن يكون منعما ، ولإثبات القدرة والمشيئة والإرادة والتصرف والغضب والرضى والغنى والجود الذي هو حقيقة ملكه ، وعند الجهمية والمعطلة والفلاسفة لا حمد له في الحقيقة ولا نعمة ولا ملك ، والله [ ص: 137 ] يعلم أنه لا نجازف في نسبة ذلك إليهم ، بل هو حقيقة قولهم ، فأي حمد لمن لا يسمع ولا يبصر ، ولا يعلم ولا يتكلم ولا يفعل ، ولا هو في العالم ولا خارج عنه ولا متصل به ولا منفصل عنه ، ولا فوقه ولا تحته ، ولا عن يمينه ولا عن يساره ؟ وأي نعمة لمن لا يقوم به فعل البتة ؟ وأي مالك لمن لا وصف له ولا فعل ؟ فانظر إلى توحيد الرسل وتوحيد من خالفهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية