الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: قال الرازي : ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين.... إلخ - كون الكل في درجة واحدة؛ لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وأنه لا يجوز، بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا، وإذا أرادوا الزيادة قدروا عليه، فهذا هو المراد من هذه المعية.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: دلت الآية على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف، وهو كون الإنسان صديقا، ولذا أينما ذكر في القرآن الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1387 ] كما قال تعالى في وصف إسماعيل: إنه كان صادق الوعد [مريم: من الآية 54] وفي صفة إدريس: إنه كان صديقا نبيا [مريم: من الآية 56] وقال في هذه الآية: من النبيين والصديقين يعني إنك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة، وإن نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية، ولا متوسط بينهما، وقال في آية أخرى: والذي جاء بالصدق وصدق به [الزمر: من الآية 33] فلم يجعل بينهما واسطة.

                                                                                                                                                                                                                                      وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة حتى جعلوا الإمام بعد الرسول - عليه الصلاة والسلام - أبا بكر، على سبيل الإجماع، ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية، لا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها، أفاده الرازي .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: روى الطبري في سبب نزولها عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محزون، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا فلان! ما لي أراك محزونا؟! فقال: يا نبي الله! شيء فكرت فيه، فقال: ما هو؟ قال نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، غدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا، فأتاه جبريل بهذه الآية: ومن يطع الله والرسول إلخ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم – فبشره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق وعن عكرمة [ ص: 1388 ] وعامر الشعبي وقتادة، وعن الربيع بن أنس، وهو من أحسنها سندا: قال الطبري : حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال (في هذه الآية): إن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: قد علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - له فضله على من آمن به في درجات الجنة، ممن اتبعه وصدقه، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا؟ فأنزل الله في ذلك هذه الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم، فيجتمعون في رياضها فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعا عن عائشة ، قالت: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إنك لأحب إلي من نفسي وأحب إلي من أهلي وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت عليه: ومن يطع الله الآية، وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه في "صفة الجنة" بإسناد قال فيه: لا أرى به بأسا.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: روي في السنة في معنى هذه الآية أخبار وافرة، منها: في صحيح مسلم، عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته بوضوء وحاجته فقال لي: سل! فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة فقال: أوغير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها في مسند الإمام أحمد [ ص: 1389 ] عن عمرو بن مرة الجهني : قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الخمس وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه قال ابن كثير : تفرد به أحمد.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضا، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ ألف آية في سبيل الله تبارك وتعالى كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها ما رواه الترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: المرء مع من أحب .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1390 ] قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية عن أنس أنه قال: إني لأحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحب أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - وأرجو أن يبعثني معهم وإن لم أعمل كعملهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين أخرجاه في الصحيحين من حديث الإمام مالك ، واللفظ لمسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية