الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وللناس قولان في هذا العالم : هل هو مخلوق من مادة أم لا ؟ [ ص: 112 ] واختلفوا في أول هذا العالم ما هو ؟ وقد قال تعالى : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ( هود : 7 ) .

وروى البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه ، قال : قال أهل اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئناك لنتفقه في الدين ، ولنسألك عن أول هذا الأمر ، فقال : " كان الله ولم يكن شيء قبله " ، وفي رواية : " ولم يكن شيء معه " ، وفي رواية " غيره " ، " وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السماوات والأرض " ، وفي لفظ : " ثم خلق السماوات والأرض " . فقوله : " كتب في الذكر " ، يعني اللوح المحفوظ ، كما قال تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ( الأنبياء : 105 ) سمى ما يكتب في الذكر ذكرا ، كما يسمى ما يكتب في الكتاب كتابا .

والناس في هذا الحديث على قولين : منهم من قال : إن المقصود إخباره بأن الله كان موجودا وحده ولم يزل كذلك دائما ، ثم ابتدأ إحداث جميع الحوادث ، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم ، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان ، وأن الله صار فاعلا بعد أن لم يكن يفعل شيئا من الأزل إلى حين ابتداء الفعل كان الفعل ممكنا .

[ ص: 113 ] والقول الثاني : المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم الموجود الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش ، كما أخبر القرآن بذلك في غير موضع ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : قدر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء . فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كان قبل خلقه السماوات بخمسين ألف سنة ، وأن عرش الرب تعالى كان حينئذ على الماء .

دليل صحة هذا القول الثاني من وجوه : أحدها : أن قول أهل اليمن جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر ، وهو إشارة إلى حاضر مشهود موجود ، والأمر هنا بمعنى المأمور ، أي الذي كونه الله بأمره . وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم عن بدء هذا العالم الموجود ، لا عن جنس المخلوقات ، لأنهم لم يسألوه عنه ، وقد أخبرهم عن خلق السماوات والأرض حال كون عرشه على الماء ، [ ص: 114 ] ولم يخبرهم عن خلق العرش ، وهو مخلوق قبل خلق السماوات والأرض . وأيضا فإنه قال : كان الله ولم يكن شيء قبله . وقد روي ( معه ) ، وروي ( غيره ) ، والمجلس كان واحدا ، فعلم أنه قال أحد الألفاظ والآخران رويا بالمعنى ، ولفظ القبل ثبت عنه في غير هذا الحديث . ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقول في دعائه : اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ، الحديث . واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر ، ولهذا كان كثير من أهل الحديث إنما يرويه بلفظ القبل ، كالحميدي والبغوي وابن الأثير . وإذا كان كذلك لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث ، ولا لأول مخلوق . [ ص: 115 ] وأيضا : فإنه يقال : كان الله ولم يكن شيء قبله أو معه أو غيره ، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء . فأخبر عن هذه الثلاثة بالواو ، و خلق السماوات والأرض روي بالواو وبثم ، فظهر أن مقصوده إخباره إياهم ببدء خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام ، لا ابتداء خلق ما خلقه الله قبل ذلك ، وذكر السماوات والأرض بما يدل على خلقهما ، وذكر ما قبلهما بما يدل على كونه ووجوده ، ولم يتعرض لابتداء خلقه له . وأيضا : فإنه إذا كان الحديث قد ورد بهذا وهذا ، فلا يجزم بأحدهما إلا بدليل ، فإذا رجح أحدهما فمن جزم بأن الرسول أراد المعنى الآخر فهو مخطئ قطعا ، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة ما يدل على المعنى الآخر ، فلا يجوز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث ، ولم يرد ( كان الله ولا شيء معه ) مجردا ، وإنما ورد على السياق المذكور ، فلا يظن أن معناه الإخبار بتعطيل الرب تعالى دائما عن الفعل حتى خلق السماوات والأرض . وأيضا : فقوله صلى الله عليه وسلم : كان الله ولا شيء قبله ، أو معه ، أو غيره ، وكان عرشه على الماء ، لا يصح أن يكون المعنى أنه تعالى موجود وحده لا مخلوق معه أصلا ، لأن قوله : وكان عرشه على الماء . يرد ذلك ، فإن هذه الجملة وهي : وكان عرشه على الماء إما حالية ، أو معطوفة ، وعلى كلا التقديرين فهو مخلوق موجود [ ص: 116 ] في ذلك الوقت ، فعلم أن المراد ولم يكن شيء من هذا العالم المشهود .

قوله : ( له معنى الربوبية ولا مربوب ، ومعنى الخالق ولا مخلوق ) .

ش : يعني أن الله تعالى موصوف بأنه الرب قبل أن يوجد مربوب ، وموصوف بأنه خالق قبل أن يوجد مخلوق . قال بعض المشايخ الشارحين : وإنما قال : له معنى الربوبية ومعنى الخالق دون الخالقية ، لأن الخالق هو المخرج للشيء من العدم إلى الوجود لا غير ، والرب يقتضي معاني كثيرة ، وهي : الملك والحفظ والتدبير والتربية وهي تبليغ الشيء كماله بالتدريج ، فلا جرم أتى بلفظ يشمل هذه المعاني ، وهي الربوبية . انتهى . وفيه نظر ، لأن الخلق يكون بمعنى التقدير أيضا .

قوله : ( وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل إحيائهم ، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم ) .

ش : يعني : أنه سبحانه وتعالى موصوف بأنه محيي الموتى قبل إحيائهم ، فكذلك يوصف بأنه خالق قبل خلقهم ، إلزاما للمعتزلة ومن قال بقولهم ، كما حكينا عنهم فيما تقدم . وتقدم تقرير أنه تعالى لم يزل يفعل ما يشاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية