الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 209 ] التوفيق بين الرأيين بفهم معنى التأويل

بالرجوع إلى معنى " التأويل " يتبين أنه لا منافاة بين الرأيين ، فإن لفظ التأويل ورد لثلاثة معان :

الأول : صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به ، وهذا هو اصطلاح أكثر المتأخرين .

الثاني : التأويل بمعنى التفسير ، فهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه .

الثالث : التأويل : هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام ، فتأويل ما أخبر الله به عن ذاته وصفاته هو حقيقة ذاته المقدسة وما لها من حقائق الصفات ، وتأويل ما أخبر الله به عن اليوم الآخر هو نفسه ما يكون في اليوم الآخر . وعلى هذا المعنى جاء قول عائشة : " كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " يتأول القرآن " . تعني قوله تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا .

فالذين يقولون بالوقف على قوله : وما يعلم تأويله إلا الله ، ويجعلون : والراسخون في العلم ، استئنافا ، إنما عنوا بذلك التأويل بالمعنى الثالث ، أي الحقيقة التي يؤول إليها الكلام ، فحقيقة ذات الله وكنهها وكيفية أسمائه وصفاته وحقيقة المعاد لا يعلمها إلا الله .

والذين يقولون بالوقف على قوله : والراسخون في العلم على أن الواو للعطف وليست للاستئناف ، إنما عنوا بذلك التأويل بالمعنى الثاني أي التفسير ، ومجاهد إمام المفسرين ، قال الثوري فيه : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به ، فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه فالمراد به أنه يعرف تفسيره .

وبهذا يتضح أنه لا منافاة بين المذهبين في النهاية ، وإنما الأمر يرجع إلى الاختلاف في معنى التأويل .

[ ص: 210 ] ففي القرآن ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا ، ولكن الحقيقة ليست كالحقيقة ، فأسماء الله وصفاته وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه في اللفظ والمعنى الكلي إلا أن حقيقة الخالق وصفاته ليست كحقيقة المخلوق وصفاته ، والعلماء المحققون يفهمون معانيها ويميزون الفرق بينها ، وأما نفس الحقيقة فهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى ، قالوا : " الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " ، وكذلك قال ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك قبله : " الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، ومن الله البيان ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا الإيمان " .

فبين أن الاستواء معلوم ، وأن كيفية ذلك مجهولة .

وكذلك الشأن بالنسبة إلى إخبار الله عن اليوم الآخر ، ففيها ألفاظ تشبه معانيها ما هو معروف لدينا إلا أن الحقيقة غير الحقيقة . ففي الآخرة ميزان ، وجنة ونار . وفي الجنة : أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى . فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة . . وذلك نعلمه ونؤمن به ، وندرك أن الغائب أعظم من الشاهد ، وما في الآخرة يمتاز عما في الدنيا ، ولكن حقيقة هذا الامتياز غير معلومة لنا ، وهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . . "

التالي السابق


الخدمات العلمية