الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8368 ) فصل : والشعر كالكلام ; حسنه كحسنه ، وقبيحه كقبيحه . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن من الشعر لحكما } ، { وكان يضع لحسان منبرا يقوم عليه ، فيهجو من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين } . [ ص: 176 ] { وأنشده كعب بن زهير قصيدة :

                                                                                                                                            بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

                                                                                                                                            في المسجد . وقال له عمه العباس : يا رسول الله ، إني أريد أن أمتدحك . فقال : قل ، لا يفضض الله فاك
                                                                                                                                            } .

                                                                                                                                            { فأنشده :

                                                                                                                                            من قبلها طبت في الظلال     وفي مستودع حيث يخصف الورق

                                                                                                                                            } عمرو بن الشريد : { أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أمعك من شعر أمية ؟ . قلت : نعم . فأنشدته بيتا ، فقال : هيه . فأنشدته بيتا ، فقال : هيه . حتى أنشدته مائة قافية } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين : { أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب } وقد اختلف في هذا ، فقيل : ليس بشعر ، وإنما هو كلام موزون . وقيل : بل هو شعر ، ولكنه بيت واحد قصير ، فهو كالنثر .

                                                                                                                                            ويروى أن أبا الدرداء قيل له : ما من أهل بيت في الأنصار ، إلا وقد قال الشعر . قال : وأنا قد قلت :

                                                                                                                                            يريد المرء أن يعطى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا     يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا

                                                                                                                                            وليس في إباحة الشعر خلاف ، وقد قاله الصحابة والعلماء ، والحاجة تدعو إليه لمعرفة اللغة والعربية ، والاستشهاد به في التفسير ، وتعرف معاني كلام الله تعالى ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ويستدل به أيضا على النسب ، والتاريخ ، وأيام العرب . ويقال : الشعر ديوان العرب .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد قال الله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه ، خير له من أن يمتلئ شعرا } . رواه أبو داود ، وأبو عبيد . وقال : معنى يريه : يأكل جوفه ، يقال : وراه يريه ، قال الشاعر

                                                                                                                                            : وراهن ربي مثل ما قد ورينني     وأحمي على أكبادهن المكاويا

                                                                                                                                            قلنا : أما الآية ، فالمراد بها من أسرف وكذب ; بدليل وصفه لهم بقوله : { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون } .

                                                                                                                                            ثم استثنى المؤمنين ، فقال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا } . ولأن الغالب على الشعراء قلة الدين ، والكذب ، وقذف المحصنات ، وهجاء الأبرياء ، سيما من كان في ابتداء الإسلام ، ممن يهجو المسلمين ، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويعيب الإسلام ، ويمدح الكفار ، فوقع الذم على الأغلب ، واستثنى منهم من لا يفعل الخصال المذمومة ، فالآية دليل على إباحته ، ومدح أهله المتصفين بالصفات الجميلة .

                                                                                                                                            وأما الخبر ; فقال أبو عبيد : معناه أن يغلب عليه الشعر حتى يشغله عن القرآن والفقه . وقيل : المراد به ما [ ص: 177 ] كان هجاء وفحشا ، فما كان من الشعر يتضمن هجو المسلمين ، والقدح في أعراضهم ، أو التشبب بامرأة بعينها ، والإفراط في وصفها ، فذكر أصحابنا أنه محرم . وهذا إن أريد به أنه محرم على قائله ، فهو صحيح ، وأما على راويه فلا يصح ; فإن المغازي تروى فيها قصائد الكفار الذين هجوا بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك أحد .

                                                                                                                                            وقد روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يوم بدر وأحد وغيرهما ، إلا قصيدة أمية بن أبي الصلت الحائية } . وكذلك يروى شعر قيس بن الخطيم ، في التشبيب بعمرة بنت رواحة ، أخت عبد الله بن رواحة ، وأم النعمان بن بشير . وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم قصيدة كعب بن زهير ، وفيها التشبيب بسعاد . ولم يزل الناس يروون أمثال هذا ، ولا ينكر .

                                                                                                                                            وروينا أن النعمان بن بشير دخل مجلسا فيه رجل يغنيهم بقصيدة قيس بن الخطيم ، فلما دخل النعمان سكتوه من قبل أن فيها ذكر أمه ، فقال النعمان : دعوه ، فإنه لم يقل بأسا ، إنما قال :

                                                                                                                                            وعمرة من سروات النساء     تنفح بالمسك أردانها

                                                                                                                                            وكان عمران بن طلحة في مجلس ، فغناهم رجل بشعر فيه ذكر أمه ، فسكتوه من أجله ، فقال : دعوه ، فإن قائل هذا الشعر ، كان زوجها . فأما الشاعر ، فمتى كان يهجو المسلمين أو يمدح بالكذب ، أو يقذف مسلما أو مسلمة ، فإن شهادته ترد ، وسواء قذف المسلمة بنفسه أو بغيره . وقد قيل : أعظم الناس ذنبا ، رجل يهاجي رجلا ، فيهجو القبيلة بأسرها .

                                                                                                                                            وقد روينا أن أبا دلامة شهد عند قاض ، أظنه ابن أبي ليلى ، فخاف أن يرد شهادته . فقال :

                                                                                                                                            إن الناس غطوني تغطيت عنهم     وإن بحثوا عني ففيهم مباحث

                                                                                                                                            فقال القاضي : ومن يبحثك يا أبا دلامة . وغرم المال من عنده ، ولم يظهر أنه رد شهادته .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية