الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين

المعنى: اذهبوا إلى الأرض التي جئتم منها وتركتم أخويكم بنيامين وروبيل. "فتحسسوا"، أي: استقصوا وتفرقوا، والتحسس: طلب الشيء بالحواس، ويستعمل في الخير والشر، فمن استعماله في الخير هذه الآية، وفي الشر نهي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "ولا تحسسوا".

[ ص: 139 ] وقوله: من يوسف يتعلق بمحذوف يعمل فيه "تحسسوا"، التقدير: فتحسسوا نبأ أو حقيقة من أمر يوسف ، لكن يحذف ما يدل ظاهر القول عليه إيجازا.

وقرأت فرقة: "تيأسوا"، وقرأت فرقة: "تأيسوا" على ما تقدم، وقرأ الأعرج : "تئسوا" بكسر التاء، وخص يوسف وبنيامين بالذكر لأن روبيل إنما بقي مختارا، وهذان قد منعا الأوبة.

والروح: الرحمة، ثم جعل اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين، إذ فيه: إما التكذيب بالربوبية، وإما الجهل بصفات الله تبارك وتعالى. وقرأ الحسن ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز: "من روح الله" بضم الراء، وكأن معنى هذه القراءة: "لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه، فإن من بقي روحه فيرجى"، ومن هذا قول الشاعر:


وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع



ومن هذا قول عبيد:


وكل ذي غيبة يؤوب ...     وغائب الموت لا يؤوب



ويظهر من حديث الذي قال: (إذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في البحر [ ص: 140 ] والبر في يوم راح، فلئن قدر الله علي فليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين): إنه يئس من روح الله، وليس الأمر كذلك لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: "فغفر الله له" يقتضي أنه مات مؤمنا إذ لا يغفر الله لكافر، فبقي أن يتأول الحديث، إما على أن (قدر) بمعنى: ضيق وناقش الحساب، فذلك معنى بين، وإما أن تكون من "القدرة"، ويكون خطؤه في أن ظن في أن الاجتماع بعد السحق والتذرية محال لا يوصف الله تعالى بالقدرة عليه، فغلط في أن جعل الجائز محالا، ولا يلزمه بهذا كفر.

قال النقاش: وقرأ ابن مسعود : "من فضل"، وقرأ أبي بن كعب: "من رحمة الله".

وقوله تعالى: فلما دخلوا عليه الآية، في هذا الموضع اختصار محذوفات يعطيها الظاهر، وهي أنهم نفذوا من الشام إلى مصر ووصلوها، والضمير في "عليه" عائد على يوسف . و"الضر" أرادوا به المسغبة التي كانوا بسبيلها وأمر أخيهم الذي أهم أباهم وغم جميعهم، و "البضاعة": القطعة من المال يقصد بها شراء شيء، ولزمها عرف الفقه فيما لا حظ لحاملها من الربح، و"المزجاة" معناها: المدفوعة المتحيل لها، ومنه: إزجاء السحاب، ومنه إزجاء الإبل، كما قال الشاعر:


على زواحف تزجى مخها رير



وكما قال النابغة :


وهبت الريح من تلقاء ذي أرل ...     تزجي مع الليل من صرادها صرما



[ ص: 141 ] وقال الأعشى:


الواهب المائة الهجان وعبدها ...     عوذا تزجي خلفها أطفالها



وقال الآخر :


وحاجة غير مزجاة من الحاج



وقال حاتم:


ليبك على ملحان ضيف مدفع ...     وأرملة تزجي مع الليل أرملا



فجملة هذا أن من يسوق شيئا ويتلطف في تسييره فقد أزجاه، فإذا كانت الدراهم المدفوعة نازلة القدر تحتاج أن يعتذر معها ويشفع لها فهي مزجاة، فقيل: كان ذلك لأنها كانت زيوفا، قاله ابن عباس ، وقال الحسن : كانت قليلة، وقيل: كانت ناقصة، قاله ابن جبير ، وقيل: كانت بضاعتهم عروضا فلذلك قالوا هذا، واختلف في تلك [ ص: 142 ] العروض -ما كانت؟ فقيل: كانت السمن والصوف، قاله عبد الله بن الحارث، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كانت قديد وحش، ذكره النقاش ، وقال أبو صالح ، وزيد بن أسلم : كانت الصنوبر والحبة الخضراء.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

"وهي الفستق": وقيل: كانت المقل، وقيل: كانت القطن، وقيل: كانت الحبال والأعدال والأقتاب. وحكى مكي أن مالكا رحمه الله قال: المزجاة: الجائزة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ولا أعرف لهذا وجها، والمعنى يأباه. ويحتمل أنه صحف على مالك ، وأن لفظه بالحاء غير منقوطة وبالراء، واستند مالك رحمه الله في أن الكيل على البائع إلى هذه الآية، وذلك ظاهر منها وليس بنص.

وقولهم: وتصدق علينا معناه: بما بين الدراهم الجياد وهذه المزجاة، قاله السدي وغيره، وقيل: كانت الصدقة غير محرمة على أولئك الأنبياء، وإنما حرمت على محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله سفيان بن عيينة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا ضعيف يرده حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "نحن معاشر الأنبياء لا تحل لنا الصدقة".

وقالت فرقة: كانت الصدقة عليهم محرمة ولكن قالوا هذا تجوزا واستعطافا منهم [ ص: 143 ] في المبايعة، كما تقول لمن تساومه في سلعة: هبني من ثمنها كذا وخذ كذا، فلم تقصد أن يهبك، وإنما حسنت له الانفعال حتى يرجع معك إلى سومك. وقال ابن جريج : إنما خصوا بقولهم: وتصدق علينا أمر أخيهم (يامين)، أي: أوف لنا الكيل في المبايعة، وتصدق علينا بصرف أخينا إلى أبيه.

وقولهم: إن الله يجزي المتصدقين . قال النقاش : يقال: هو من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب، وذلك أنهم كانوا يعتقدونه ملكا كافرا على غير دينهم، ولو قالوا: "إن الله يجزيك بصدقتك في الآخرة" كذبوا، فقالوا له لفظا يوهمه أنهم أرادوه، وهم يصح لهم إخراجه منه بالتأويل.

التالي السابق


الخدمات العلمية