الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 542 ] سئل شيخ الإسلام مفتي الأنام أوحد عصره فريد دهره : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية - رحمه الله ورضي عنه - عن الرجل : إذا قطع الطريق وسرق أو أكل الحرام ونحو ذلك هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له أم لا ؟ أفتونا مأجورين .

                التالي السابق


                فأجاب - الحمد لله : ليس هذا هو الرزق الذي أباحه الله له ولا يحب ذلك ولا يرضاه . ولا أمره أن ينفق منه . كقوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } وكقوله تعالى : { وأنفقوا من ما رزقناكم } ونحو ذلك لم يدخل فيه الحرام بل من أنفق من الحرام فإن الله تعالى يذمه ويستحق بذلك العقاب في الدنيا والآخرة بحسب دينه . وقد قال الله : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } وهذا أكل المال بالباطل .

                ولكن هذا الرزق الذي سبق به علم الله وقدره كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل [ ص: 543 ] ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد } فكما أن الله كتب ما يعمله من خير وشر وهو يثيبه على الخير ويعاقبه على الشر فكذلك كتب ما يرزقه من حلال وحرام مع أنه يعاقبه على الرزق الحرام .

                ولهذا كل ما في الوجود واقع بمشيئة الله وقدره كما تقع سائر الأعمال لكن لا عذر لأحد بالقدر بل القدر يؤمن به وليس لأحد أن يحتج على الله بالقدر بل لله الحجة البالغة ومن احتج بالقدر على ركوب المعاصي فحجته داحضة ومن اعتذر به فعذره غير مقبول كالذين قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } والذين قالوا : { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } كما قال تعالى : { أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين } { أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين } . وأما الرزق الذي ضمنه الله لعباده فهو قد ضمن لمن يتقيه أن يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وأما من ليس من المتقين فضمن له ما يناسبه بأن يمنحه ما يعيش به في الدنيا ثم يعاقبه في الآخرة كما قال عن الخليل : { وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر } - قال الله - : { ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } . [ ص: 544 ] والله إنما أباح الرزق لمن يستعين به على طاعته لم يبحه لمن يستعين به على معصيته ; بل هؤلاء وإن أكلوا ما ضمنه لهم من الرزق فإنه يعاقبهم كما قال : { ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } وقال تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم } فإنما أباح الأنعام لمن يحرم عليه الصيد في الإحرام .

                وقال تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين } فكما أن كل حيوان يأكل ما قدر له من الرزق فإنه يعاقب على أخذ ما لم يبح له سواء كان محرم الجنس أو كان مستعينا به على معصية الله ولهذا كانت أموال الكفار غير مغصوبة بل مباحة للمؤمنين وتسمى فيئا إذا عادت إلى المؤمنين ; لأن الأموال إنما يستحقها من يطيع الله لا من يعصيه بها فالمؤمنون يأخذونها بحكم الاستحقاق والكفار يعتدون في إنفاقها كما أنهم يعتدون في أعمالهم فإذا عادت إلى المؤمنين فقد فاءت إليهم كما يفيء المال إلى مستحقه .




                الخدمات العلمية