nindex.php?page=treesubj&link=18648أعمال الباطن في التلاوة وهي سبعة :
الأول : فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله سبحانه وتعالى ولطفه بخلقه في إيصال كلامه إلى أفهام خلقه .
[ ص: 79 ] الثاني : التعظيم للمتكلم ، فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر ، ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله ، فإذا حضر بباله العرش والكرسي والسماوات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار ، وعلم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد وأن الكل في قبضة قدرته مترددون بين فضله ورحمته ، وبين نقمته وسطوته ، إن أنعم فبفضله ، وإن عاقب فبعدله ، فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام .
الثالث : حضور القلب وترك حديث النفس والتجرد له عند قراءته وصرف الهم إليه عن غيره ، كان بعض السلف إذا قرأ سورة لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية ، وهذه الصفة تتولد عما قبلها من التعظيم ، فإن المعظم للكلام الذي يتلوه ويستبشر به ويستأنس لا يغفل عنه ، وفي القرآن ما يستأنس به القلب إن كان التالي أهلا له فكيف يطلب الأنس بالفكر في غيره .
الرابع التدبر : وهو وراء حضور القلب فإنه قد لا يتفكر في غير القرآن ولكنه يقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبره ، والمقصود من القراءة التدبر ، ولذلك سن فيه الترتيل لأن الترتيل في الظاهر ليتمكن من التدبر بالباطن ، قال "
علي " رضي الله عنه : " لا خير في عبادة لا فقه فيها ولا في قراءة لا تدبر فيها " ، وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بترديد فليردد إلا أن يكون خلف إمام ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بآية يرددها .
الخامس : التفهم وهو أن يستوضح عن كل آية ما يليق بها ، إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله عز وجل وذكر أفعاله ، وذكر أحوال الأنبياء وأحوال المكذبين لهم ، وأنهم كيف أهلكوا ، وذكر أوامره وزواجره ، وذكر الجنة والنار ، أما صفات الله عز وجل فكقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) [ الشورى : 11 ] وكقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=23الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ) [ الحشر : 23 ] فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لينكشف له أسرارها .
وأما أفعاله تعالى فكذكره خلق السماوات والأرض وغيرها ، فليفهم التالي منها صفات الله عز وجل جلاله إذ الفعل يدل على الفاعل فتدل عظمته على عظمته ، فينبغي أن يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل ، فمن عرف الحق رآه في كل شيء ولهذا ينبغي إذا قرأ التالي قوله عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=63أفرأيتم ما تحرثون ) [ الواقعة : 63 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=58أفرأيتم ما تمنون ) [ الواقعة : 58 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=68أفرأيتم الماء الذي تشربون ) [ الواقعة : 68 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=71أفرأيتم النار التي تورون ) [ الواقعة : 71 ] فلا يقصر نظره على الماء والنار والحرث والمني بل يتأمل في المني وهو نطفة متشابهة الأجزاء ، ثم ينظر في كيفية انقسامها إلى اللحم والعظم والعروق والعصب ، وكيفية تشكل أعضائها بالأشكال المختلفة : من الرأس ، واليد ، والرجل ، والكبد ، والقلب ، وغيرها ، ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات الشريفة : من السمع ، والبصر ، والعقل ، وغيرها ، ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات المذمومة : من الغضب ، والشهوة ، والكبر ، والجهل ، والتكذيب ، والمجادلة كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=77أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين )
[ ص: 80 ] [ يس : 77 ] فيتأمل هذه العجائب ليترقى منها إلى أعجب العجائب وهو الصنعة التي منها صدرت هذه الأعاجيب ، فلا يزال ينظر إلى الصنعة ويرى الصانع .
وأما أحوال الأنبياء عليهم السلام فإذا سمع منها أنهم كذبوا وضربوا وقتل بعضهم ثم سمع نصرتهم في آخر الأمر فهم قدرة الله عز وجل وإرادته لنصرة الحق .
وأما أحوال المكذبين
كعاد وثمود وما جرى عليهم فليكن فهمه منه استشعار الخوف من سطوته ونقمته ، وليكن حظه منه الاعتبار في نفسه .
السادس : التخلي عن موانع الفهم : فإن أكثر الناس منعوا عن فهم القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن .
ومن حجب الفهم أن يكون الهم منصرفا إلى تحقيق الحروف بإخراجها عن مخارجها وهذا يتولى حفظه شيطان وكل بالقراء ليصرفهم عن فهم معاني كلام الله عز وجل ، فلا يزال يحملهم على ترديد الحروف يخيل إليهم أنه لم يخرج من مخرجه ، فهذا يكون تأمله مقصورا على مخارج الحروف فأنى تنكشف له المعاني ، وأعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعا لمثل هذا التلبيس .
السابع التخصيص : وهو أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن ، فإن سمع أمرا أو نهيا قدر أنه المنهي والمأمور ، وإن سمع وعدا أو وعيدا فكذلك ، وإن سمع قصص الأولين والأنبياء علم أن السمر غير مقصود وإنما المقصود أن تعتبر به وتأخذ من بضاعته ما تحتاج إليه ، فما من قصة في القرآن إلا وسياقها لفائدة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، ولذلك قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=120ما نثبت به فؤادك ) [ هود : 120 ] فليقدر العبد أن الله ثبت فؤاده بما قصه عليه من أحوال الأنبياء وصبرهم على الإيذاء وثباتهم في الدين لانتظار نصر الله تعالى .
وكيف لا يقدر هذا والقرآن ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله خاصة بل هو شفاء وهدى ورحمة ونور للعالمين ، ولذلك أمر الله تعالى الكافة بشكر نعمة الكتاب فقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=231واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ) [ البقرة : 231 ] وإذا قصد بالخطاب جميع الناس فقد قصد الآحاد كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=19لأنذركم به ومن بلغ ) [ الأنعام : 19 ] .
قال "
محمد القرظي " : من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله " وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه ، ولذلك ، قال بعض العلماء : " هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده نتدبرها في الصلوات وننفذها في الطاعات "
الثامن التأثر : وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره ، ومهما تمت معرفته
[ ص: 81 ] كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه فإن التضييق غالب على آيات القرآن ، فلا ترى ذكر المغفرة والرحمة إلا مقرونا بشروط يقصر العارف على نيلها كقوله عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=82وإني لغفار ) [ طه : 82 ] ثم أتبع ذلك بأربعة شروط (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=82لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) [ طه : 82 ] وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=1والعصر nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=2إن الإنسان لفي خسر nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=3إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) [ العصر : 1 - 3 ] ذكر أربعة شروط وحيث اقتصر ذكر شرطا جامعا فقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=56إن رحمة الله قريب من المحسنين ) [ الأعراف : 56 ] فالإحسان يجمع الكل ، وهكذا من يتصفح القرآن من أوله إلى آخره .
ومن فهم ذلك فجدير بأن يكون حاله الخشية والحزن ، وإلا كان حظه من التلاوة حركة اللسان مع صريح اللعن على نفسه في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=18ألا لعنة الله على الظالمين ) [ هود : 18 ] وفي قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=3كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) [ الصف : 3 ] وفي قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=29فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ) [ النجم : 29 ] وفي قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=11ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) [ الحجرات : 11 ] إلى غير ذلك من الآيات ، فالقرآن يراد للعمل به ، وأما مجرد حركة اللسان فقليل الجدوى وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب ، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل ، وحظ العقل تفسير المعاني ، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار ، فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ .
nindex.php?page=treesubj&link=18648أَعْمَالُ الْبَاطِنِ فِي التِّلَاوَةِ وَهِيَ سَبْعَةٌ :
الْأَوَّلُ : فَهْمُ عَظَمَةِ الْكَلَامِ وَعُلُوِّهِ وَفَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلُطْفِهِ بِخَلْقِهِ فِي إِيصَالِ كَلَامِهِ إِلَى أَفْهَامِ خَلْقِهِ .
[ ص: 79 ] الثَّانِي : التَّعْظِيمُ لِلْمُتَكَلِّمِ ، فَالْقَارِئُ عِنْدَ الْبِدَايَةِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَ فِي قَلْبِهِ عَظَمَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَيَعْلَمَ أَنَّ مَا يَقْرَؤُهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ ، وَلَنْ تَحْضُرَهُ عَظَمَةُ الْمُتَكَلِّمِ مَا لَمْ يَتَفَكَّرْ فِي صِفَاتِهِ وَجَلَالِهِ وَأَفْعَالِهِ ، فَإِذَا حَضَرَ بِبَالِهِ الْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ وَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَشْجَارِ ، وَعَلِمَ أَنَّ الْخَالِقَ لِجَمِيعِهَا وَالْقَادِرَ عَلَيْهَا وَالرَّازِقَ لَهَا وَاحِدٌ وَأَنَّ الْكُلَّ فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِهِ مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَبَيْنَ نِقْمَتِهِ وَسَطْوَتِهِ ، إِنْ أَنْعَمَ فَبِفَضْلِهِ ، وَإِنْ عَاقَبَ فَبِعَدْلِهِ ، فَبِالتَّفَكُّرِ فِي أَمْثَالِ هَذَا يَحْضُرُ تَعْظِيمُ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ تَعْظِيمُ الْكَلَامِ .
الثَّالِثُ : حُضُورُ الْقَلْبِ وَتَرْكُ حَدِيثِ النِّفْسِ وَالتَّجَرُّدُ لَهُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ وَصَرْفُ الْهَمِّ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ ، كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا قَرَأَ سُورَةً لَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ فِيهَا أَعَادَهَا ثَانِيَةً ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ تَتَوَلَّدُ عَمَّا قَبْلَهَا مِنَ التَّعْظِيمِ ، فَإِنَّ الْمُعَظِّمَ لِلْكَلَامِ الَّذِي يَتْلُوهُ وَيَسْتَبْشِرُ بِهِ وَيَسْتَأْنِسُ لَا يَغْفُلُ عَنْهُ ، وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَسْتَأْنِسُ بِهِ الْقَلْبُ إِنْ كَانَ التَّالِي أَهْلًا لَهُ فَكَيْفَ يَطْلُبُ الْأُنْسَ بِالْفِكْرِ فِي غَيْرِهِ .
الرَّابِعُ التَّدَبُّرُ : وَهُوَ وَرَاءَ حُضُورِ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَتَفَكَّرُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَتَدَبَّرُهُ ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقِرَاءَةِ التَّدَبُّرُ ، وَلِذَلِكَ سُنَّ فِيهِ التَّرْتِيلُ لِأَنَّ التَّرْتِيلَ فِي الظَّاهِرِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ التَّدَبُّرِ بِالْبَاطِنِ ، قَالَ "
علي " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا فِقْهَ فِيهَا وَلَا فِي قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا " ، وَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّدَبُّرِ إِلَّا بِتَرْدِيدٍ فَلْيُرَدِّدْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَلْفَ إِمَامٍ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا .
الْخَامِسُ : التَّفَهُّمُ وَهُوَ أَنْ يَسْتَوْضِحَ عَنْ كُلِّ آيَةٍ مَا يَلِيقُ بِهَا ، إِذِ الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَذِكْرِ أَفْعَالِهِ ، وَذِكْرِ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ كَيْفَ أُهْلِكُوا ، وَذِكْرِ أَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ ، وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، أَمَّا صِفَاتُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) [ الشُّورَى : 11 ] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=23الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ) [ الْحَشْرِ : 23 ] فَلْيَتَأَمَّلْ مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لِيَنْكَشِفَ لَهُ أَسْرَارُهَا .
وَأَمَّا أَفْعَالُهُ تَعَالَى فَكَذِكْرِهِ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا ، فَلْيَفْهَمِ التَّالِي مِنْهَا صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ جَلَالُهُ إِذِ الْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الْفَاعِلِ فَتَدُلُّ عَظَمَتُهُ عَلَى عَظَمَتِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ فِي الْفِعْلِ الْفَاعِلَ دُونَ الْفِعْلِ ، فَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ رَآهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلِهَذَا يَنْبَغِي إِذَا قَرَأَ التَّالِي قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=63أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ) [ الْوَاقِعَةِ : 63 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=58أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ) [ الْوَاقِعَةِ : 58 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=68أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ) [ الْوَاقِعَةِ : 68 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=71أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ) [ الْوَاقِعَةِ : 71 ] فَلَّا يَقْصُرُ نَظَرُهُ عَلَى الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْحَرْثِ وَالْمَنِيِّ بَلْ يَتَأَمَّلُ فِي الْمَنِيِّ وَهُوَ نُطْفَةٌ مُتَشَابِهَةُ الْأَجْزَاءِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي كَيْفِيَّةِ انْقِسَامِهَا إِلَى اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ ، وَكَيْفِيَّةِ تَشَكُّلِ أَعْضَائِهَا بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ : مِنَ الرَّأْسِ ، وَالْيَدِ ، وَالرِّجْلِ ، وَالْكَبِدِ ، وَالْقَلْبِ ، وَغَيْرِهَا ، ثُمَّ إِلَى مَا ظَهَرَ فِيهَا مِنَ الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ : مِنَ السَّمْعِ ، وَالْبَصَرِ ، وَالْعَقْلِ ، وَغَيْرِهَا ، ثُمَّ إِلَى مَا ظَهَرَ فِيهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ : مِنَ الْغَضَبِ ، وَالشَّهْوَةِ ، وَالْكِبْرِ ، وَالْجَهْلِ ، وَالتَّكْذِيبِ ، وَالْمُجَادَلَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=77أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ )
[ ص: 80 ] [ يس : 77 ] فَيَتَأَمَّلُ هَذِهِ الْعَجَائِبَ لِيَتَرَقَّى مِنْهَا إِلَى أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ وَهُوَ الصَّنْعَةُ الَّتِي مِنْهَا صَدَرَتْ هَذِهِ الْأَعَاجِيبُ ، فَلَا يَزَالُ يَنْظُرُ إِلَى الصَّنْعَةِ وَيَرَى الصَّانِعَ .
وَأَمَّا أَحْوَالُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَإِذَا سَمِعَ مِنْهَا أَنَّهُمْ كُذِّبُوا وَضُرِبُوا وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ ثُمَّ سَمِعَ نُصْرَتَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فَهِمَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِرَادَتَهُ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ .
وَأَمَّا أَحْوَالُ الْمُكَذِّبِينَ
كَعَادٍ وَثَمُودَ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ فَلْيَكُنْ فَهْمُهُ مِنْهُ اسْتِشْعَارَ الْخَوْفِ مِنْ سَطْوَتِهِ وَنِقْمَتِهِ ، وَلْيَكُنْ حَظُّهُ مِنْهُ الِاعْتِبَارَ فِي نَفْسِهِ .
السَّادِسُ : التَّخَلِّي عَنْ مَوَانِعِ الْفَهْمِ : فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ مُنِعُوا عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ لِأَسْبَابٍ وَحُجُبٍ أَسْدَلَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَعُمِّيَتْ عَلَيْهِمْ عَجَائِبُ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ .
وَمِنْ حُجُبِ الْفَهْمِ أَنْ يَكُونَ الْهَمُّ مُنْصَرِفًا إِلَى تَحْقِيقِ الْحُرُوفِ بِإِخْرَاجِهَا عَنْ مَخَارِجِهَا وَهَذَا يَتَوَلَّى حِفْظَهُ شَيْطَانٌ وُكِّلَ بِالْقُرَّاءِ لِيَصْرِفَهُمْ عَنْ فَهْمِ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَلَا يَزَالُ يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَرْدِيدِ الْحُرُوفِ يُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَخْرَجِهِ ، فَهَذَا يَكُونُ تَأَمُّلُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَخَارِجِ الْحُرُوفِ فَأَنَّى تَنْكَشِفُ لَهُ الْمَعَانِي ، وَأَعْظَمُ ضَحِكَةٍ لِلشَّيْطَانِ مَنْ كَانَ مُطِيعًا لِمِثْلِ هَذَا التَّلْبِيسِ .
السَّابِعُ التَّخْصِيصُ : وَهُوَ أَنْ يُقَدِّرَ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِكُلِّ خِطَابٍ فِي الْقُرْآنِ ، فَإِنْ سَمِعَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا قَدَّرَ أَنَّهُ الْمَنْهِيُّ وَالْمَأْمُورُ ، وَإِنْ سَمِعَ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ سَمِعَ قَصَصَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلِمَ أَنَّ السَّمَرَ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ تَعْتَبِرَ بِهِ وَتَأْخُذَ مِنْ بِضَاعَتِهِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ ، فَمَا مِنْ قِصَّةٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا وَسِيَاقُهَا لِفَائِدَةٍ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=120مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) [ هُودٍ : 120 ] فَلْيُقَدِّرِ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ ثَبَّتَ فُؤَادَهُ بِمَا قَصَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَصَبْرِهِمْ عَلَى الْإِيذَاءِ وَثَبَاتِهِمْ فِي الدِّينِ لِانْتِظَارِ نَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَكَيْفَ لَا يُقَدِّرُ هَذَا وَالْقُرْآنُ مَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَسُولِ اللَّهِ خَاصَّةً بَلْ هُوَ شِفَاءٌ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَنُورٌ لِلْعَالَمِينَ ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَافَّةَ بِشُكْرِ نِعْمَةِ الْكِتَابِ فَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=231وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ) [ الْبَقَرَةِ : 231 ] وَإِذَا قَصَدَ بِالْخِطَابِ جَمِيعَ النَّاسِ فَقَدْ قَصَدَ الْآحَادَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=19لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) [ الْأَنْعَامِ : 19 ] .
قَالَ "
محمد القرظي " : مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا كَلَّمَهُ اللَّهُ " وَإِذَا قَدَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَتَّخِذْ دِرَاسَةَ الْقُرْآنِ عَمَلَهُ بَلْ يَقْرَؤُهُ كَمَا يَقْرَأُ الْعَبْدُ كِتَابَ مَوْلَاهُ الَّذِي كَتَبَهُ إِلَيْهِ لِيَتَأَمَّلَهُ وَيَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ ، وَلِذَلِكَ ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : " هَذَا الْقُرْآنُ رَسَائِلُ أَتَتْنَا مِنْ قِبَلِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِعُهُودِهِ نَتَدَبَّرُهَا فِي الصَّلَوَاتِ وَنُنَفِّذُهَا فِي الطَّاعَاتِ "
الثَّامِنُ التَّأَثُّرُ : وَهُوَ أَنْ يَتَأَثَّرَ قَلْبُهُ بِآثَارٍ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْآيَاتِ فَيَكُونُ لَهُ بِحَسَبِ كُلِّ فَهْمٍ حَالٌ وَوَجْدٌ يَتَّصِفُ بِهِ قَلْبُهُ مِنَ الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَغَيْرِهِ ، وَمَهْمَا تَمَّتْ مَعْرِفَتُهُ
[ ص: 81 ] كَانَتِ الْخَشْيَةُ أَغْلَبَ الْأَحْوَالِ عَلَى قَلْبِهِ فَإِنَّ التَّضْيِيقَ غَالِبٌ عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ ، فَلَا تَرَى ذِكْرَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ إِلَّا مَقْرُونًا بِشُرُوطٍ يَقْصُرُ الْعَارِفُ عَلَى نَيْلِهَا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=82وَإِنِّي لَغَفَّارٌ ) [ طه : 82 ] ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=82لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) [ طه : 82 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=1وَالْعَصْرِ nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=2إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=3إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) [ الْعَصْرِ : 1 - 3 ] ذَكَرَ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ وَحَيْثُ اقْتَصَرَ ذَكَرَ شَرْطًا جَامِعًا فَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=56إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) [ الْأَعْرَافِ : 56 ] فَالْإِحْسَانُ يَجْمَعُ الْكُلَّ ، وَهَكَذَا مَنْ يَتَصَفَّحُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ .
وَمَنْ فَهِمَ ذَلِكَ فَجَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ حَالُهُ الْخَشْيَةَ وَالْحُزْنَ ، وَإِلَّا كَانَ حَظُّهُ مِنَ التِّلَاوَةِ حَرَكَةَ اللِّسَانِ مَعَ صَرِيحِ اللَّعْنِ عَلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=18أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) [ هُودٍ : 18 ] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=3كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) [ الصَّفِّ : 3 ] وَفِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=29فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) [ النَّجْمِ : 29 ] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=11وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [ الْحُجُرَاتِ : 11 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، فَالْقُرْآنُ يُرَادُ لِلْعَمَلِ بِهِ ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ حَرَكَةِ اللِّسَانِ فَقَلِيلُ الْجَدْوَى وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ حَقَّ تِلَاوَتِهِ هُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ اللِّسَانُ وَالْعَقْلُ وَالْقَلْبُ ، فَحَظُّ اللِّسَانِ تَصْحِيحُ الْحُرُوفِ بِالتَّرْتِيلِ ، وَحَظُّ الْعَقْلِ تَفْسِيرُ الْمَعَانِي ، وَحَظُّ الْقَلْبِ الِاتِّعَاظُ وَالتَّأَثُّرُ بِالِانْزِجَارِ وَالِائْتِمَارِ ، فَاللِّسَانُ يُرَتِّلُ وَالْعَقْلُ يُتَرْجِمُ وَالْقَلْبُ يَتَّعِظُ .