الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  أعمال الباطن في التلاوة وهي سبعة :

                                                                  الأول : فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله سبحانه وتعالى ولطفه بخلقه في إيصال كلامه إلى أفهام خلقه .

                                                                  [ ص: 79 ] الثاني : التعظيم للمتكلم ، فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر ، ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله ، فإذا حضر بباله العرش والكرسي والسماوات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار ، وعلم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد وأن الكل في قبضة قدرته مترددون بين فضله ورحمته ، وبين نقمته وسطوته ، إن أنعم فبفضله ، وإن عاقب فبعدله ، فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام .

                                                                  الثالث : حضور القلب وترك حديث النفس والتجرد له عند قراءته وصرف الهم إليه عن غيره ، كان بعض السلف إذا قرأ سورة لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية ، وهذه الصفة تتولد عما قبلها من التعظيم ، فإن المعظم للكلام الذي يتلوه ويستبشر به ويستأنس لا يغفل عنه ، وفي القرآن ما يستأنس به القلب إن كان التالي أهلا له فكيف يطلب الأنس بالفكر في غيره .

                                                                  الرابع التدبر : وهو وراء حضور القلب فإنه قد لا يتفكر في غير القرآن ولكنه يقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبره ، والمقصود من القراءة التدبر ، ولذلك سن فيه الترتيل لأن الترتيل في الظاهر ليتمكن من التدبر بالباطن ، قال " علي " رضي الله عنه : " لا خير في عبادة لا فقه فيها ولا في قراءة لا تدبر فيها " ، وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بترديد فليردد إلا أن يكون خلف إمام ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بآية يرددها .

                                                                  الخامس : التفهم وهو أن يستوضح عن كل آية ما يليق بها ، إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله عز وجل وذكر أفعاله ، وذكر أحوال الأنبياء وأحوال المكذبين لهم ، وأنهم كيف أهلكوا ، وذكر أوامره وزواجره ، وذكر الجنة والنار ، أما صفات الله عز وجل فكقوله : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) [ الشورى : 11 ] وكقوله تعالى : ( الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ) [ الحشر : 23 ] فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لينكشف له أسرارها .

                                                                  وأما أفعاله تعالى فكذكره خلق السماوات والأرض وغيرها ، فليفهم التالي منها صفات الله عز وجل جلاله إذ الفعل يدل على الفاعل فتدل عظمته على عظمته ، فينبغي أن يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل ، فمن عرف الحق رآه في كل شيء ولهذا ينبغي إذا قرأ التالي قوله عز وجل : ( أفرأيتم ما تحرثون ) [ الواقعة : 63 ] ( أفرأيتم ما تمنون ) [ الواقعة : 58 ] ( أفرأيتم الماء الذي تشربون ) [ الواقعة : 68 ] ( أفرأيتم النار التي تورون ) [ الواقعة : 71 ] فلا يقصر نظره على الماء والنار والحرث والمني بل يتأمل في المني وهو نطفة متشابهة الأجزاء ، ثم ينظر في كيفية انقسامها إلى اللحم والعظم والعروق والعصب ، وكيفية تشكل أعضائها بالأشكال المختلفة : من الرأس ، واليد ، والرجل ، والكبد ، والقلب ، وغيرها ، ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات الشريفة : من السمع ، والبصر ، والعقل ، وغيرها ، ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات المذمومة : من الغضب ، والشهوة ، والكبر ، والجهل ، والتكذيب ، والمجادلة كما قال تعالى : ( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) [ ص: 80 ] [ يس : 77 ] فيتأمل هذه العجائب ليترقى منها إلى أعجب العجائب وهو الصنعة التي منها صدرت هذه الأعاجيب ، فلا يزال ينظر إلى الصنعة ويرى الصانع .

                                                                  وأما أحوال الأنبياء عليهم السلام فإذا سمع منها أنهم كذبوا وضربوا وقتل بعضهم ثم سمع نصرتهم في آخر الأمر فهم قدرة الله عز وجل وإرادته لنصرة الحق .

                                                                  وأما أحوال المكذبين كعاد وثمود وما جرى عليهم فليكن فهمه منه استشعار الخوف من سطوته ونقمته ، وليكن حظه منه الاعتبار في نفسه .

                                                                  السادس : التخلي عن موانع الفهم : فإن أكثر الناس منعوا عن فهم القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن .

                                                                  ومن حجب الفهم أن يكون الهم منصرفا إلى تحقيق الحروف بإخراجها عن مخارجها وهذا يتولى حفظه شيطان وكل بالقراء ليصرفهم عن فهم معاني كلام الله عز وجل ، فلا يزال يحملهم على ترديد الحروف يخيل إليهم أنه لم يخرج من مخرجه ، فهذا يكون تأمله مقصورا على مخارج الحروف فأنى تنكشف له المعاني ، وأعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعا لمثل هذا التلبيس .

                                                                  السابع التخصيص : وهو أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن ، فإن سمع أمرا أو نهيا قدر أنه المنهي والمأمور ، وإن سمع وعدا أو وعيدا فكذلك ، وإن سمع قصص الأولين والأنبياء علم أن السمر غير مقصود وإنما المقصود أن تعتبر به وتأخذ من بضاعته ما تحتاج إليه ، فما من قصة في القرآن إلا وسياقها لفائدة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، ولذلك قال تعالى : ( ما نثبت به فؤادك ) [ هود : 120 ] فليقدر العبد أن الله ثبت فؤاده بما قصه عليه من أحوال الأنبياء وصبرهم على الإيذاء وثباتهم في الدين لانتظار نصر الله تعالى .

                                                                  وكيف لا يقدر هذا والقرآن ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله خاصة بل هو شفاء وهدى ورحمة ونور للعالمين ، ولذلك أمر الله تعالى الكافة بشكر نعمة الكتاب فقال تعالى : ( واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ) [ البقرة : 231 ] وإذا قصد بالخطاب جميع الناس فقد قصد الآحاد كما قال تعالى : ( لأنذركم به ومن بلغ ) [ الأنعام : 19 ] .

                                                                  قال " محمد القرظي " : من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله " وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه ، ولذلك ، قال بعض العلماء : " هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده نتدبرها في الصلوات وننفذها في الطاعات "

                                                                  الثامن التأثر : وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره ، ومهما تمت معرفته [ ص: 81 ] كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه فإن التضييق غالب على آيات القرآن ، فلا ترى ذكر المغفرة والرحمة إلا مقرونا بشروط يقصر العارف على نيلها كقوله عز وجل : ( وإني لغفار ) [ طه : 82 ] ثم أتبع ذلك بأربعة شروط ( لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) [ طه : 82 ] وقوله تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) [ العصر : 1 - 3 ] ذكر أربعة شروط وحيث اقتصر ذكر شرطا جامعا فقال تعالى : ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ) [ الأعراف : 56 ] فالإحسان يجمع الكل ، وهكذا من يتصفح القرآن من أوله إلى آخره .

                                                                  ومن فهم ذلك فجدير بأن يكون حاله الخشية والحزن ، وإلا كان حظه من التلاوة حركة اللسان مع صريح اللعن على نفسه في قوله تعالى : ( ألا لعنة الله على الظالمين ) [ هود : 18 ] وفي قوله تعالى : ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) [ الصف : 3 ] وفي قوله : ( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ) [ النجم : 29 ] وفي قوله تعالى : ( ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) [ الحجرات : 11 ] إلى غير ذلك من الآيات ، فالقرآن يراد للعمل به ، وأما مجرد حركة اللسان فقليل الجدوى وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب ، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل ، وحظ العقل تفسير المعاني ، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار ، فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية