الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب قول الله تعالى للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم فإن فاءوا رجعوا

                                                                                                                                                                                                        4984 حدثنا إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان عن حميد الطويل أنه سمع أنس بن مالك يقول آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وكانت انفكت رجله فأقام في مشربة له تسعا وعشرين ثم نزل فقالوا يا رسول الله آليت شهرا فقال الشهر تسع وعشرون

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( باب قول الله تعالى للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) كذا للأكثر ، وساق في رواية كريمة إلى سميع عليم . ووقع في " شرح ابن بطال " : باب الإيلاء قوله تعالى إلخ . ووقع لأبي ذر والنسفي بعد قوله فإن فاءوا : رجعوا وهذا تفسير أبي عبيدة قاله في هذه الآية قال : فإن فاءوا أي رجعوا عن [ ص: 336 ] اليمين ، فاء يفيء فيئا وفيوءا اهـ . وأخرج الطبري عن إبراهيم النخعي قال : الفيء الرجوع باللسان ، ومثله عن أبي قلابة ، وعن سعيد بن المسيب والحسن وعكرمة : الفيء الرجوع بالقلب واللسان لمن به مانع عن الجماع ، وفي غيره بالجماع . ومن طريق أصحاب ابن مسعود منهم علقمة مثله ، ومن طريق سعيد بن المسيب أيضا : إن حلف أن لا يكلم امرأته يوما أو شهرا فهو إيلاء ، إلا إن كان يجامعها وهو لا يكلمها فليس بمول . ومن طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس : الفيء الجماع ، وعن مسروق وسعيد بن جبير والشعبي مثله ، والأسانيد بكل ذلك عنهم قوية . قال الطبري : اختلافهم في هذا من اختلافهم في تعريف الإيلاء ، فمن خصه بترك الجماع قال : لا يفيء إلا بفعل الجماع ، ومن قال : الإيلاء الحلف على ترك كلامها أو على أن يغيظها أو يسوءها أو نحو ذلك لم يشترط في الفيء الجماع ، بل رجوعه بفعل ما حلف أن لا يفعله . ونقل عن ابن شهاب : لا يكون الإيلاء إلا أن يحلف المرء بالله فيما يريد أن يضار به امرأته من اعتزالها ، فإذا لم يقصد الإضرار لم يكن إيلاء . ومن طريق علي وابن عباس والحسن وطائفة لا إيلاء إلا في غضب ، فإذا حلف أن لا يطأها بسبب كالخوف على الولد الذي يرضع منها من الغيلة فلا إيلاء . ومن طريق الشعبي : كل يمين بين الرجل وبين امرأته فهي إيلاء ، ومن طريق القاسم وسالم فيمن قال لامرأته إن كلمتك سنة فأنت طالق : إن مضت أربعة أشهر ولم يكلمها طلقت ، وإن كلمها قبل سنة فهي طالق . ومن طريق يزيد بن الأصم أن ابن عباس قال له : ما فعلت امرأتك ، لعهدي بها سيئة الخلق ؟ قال : لقد خرجت وما أكلمها . قال : أدركها قبل أن يمضي أربعة أشهر فإن مضت فهي تطليقة . ومن طريق أبي بن كعب أنه قرأ للذين يؤلون من نسائهم يقسمون ، قال الفراء : التقدير على نسائهم ، و " من " بمعنى على . وقال غيره بل فيه حذف تقديره : يقسمون على الامتناع من نسائهم ، والإيلاء مشتق من الألية بالتشديد وهي اليمين ، والجمع ألايا بالتخفيف وزن عطايا ، قال الشاعر :

                                                                                                                                                                                                        قليل الألايا حافظ ليمينه فإن سبقت منه الألية برت

                                                                                                                                                                                                        فجمع بين المفرد والجمع . ثم ذكر البخاري حديث أنس " آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه " الحديث ، وإدخاله في هذا الباب على طريقة من لا يشترط في الإيلاء ذكر الجماع ، ولهذا قال ابن العربي : ليس في هذا الباب - يعني من المرفوع - سوى هذه الآية وهذا الحديث . اهـ ، وأنكر شيخنا في " التدريب " إدخال هذا الحديث في هذا الباب فقال : الإيلاء المعقود له الباب حرام يأثم به من علم بحاله فلا تجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم اهـ ، وهو مبني على اشتراط ترك الجماع فيه ، وقد كنت أطلقت في أوائل الصلاة والمظالم أن المراد بقول أنس " آلى " أي حلف ، وليس المراد به الإيلاء العرفي في كتب الفقه اتفاقا ، ثم ظهر لي أن فيه الخلاف قديما فليقيد ذلك بأنه على رأي معظم الفقهاء ، فإنه لم ينقل عن أحد من فقهاء الأمصار أن الإيلاء ينعقد حكمه بغير ذكر ترك الجماع إلا عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ، وإن كان ذلك قد ورد عن بعض من تقدمه كما تقدم . وفي كونه حراما أيضا خلاف ، وقد جزم ابن بطال وجماعة بأنه صلى الله عليه وسلم امتنع من جماع نسائه في ذلك الشهر ، ولم أقف على نقل صريح في ذلك ، فإنه لا يلزم من ترك دخوله عليهن أن لا تدخل إحداهن عليه في المكان الذي اعتزل فيه ، إلا إن كان المذكور من المسجد فيتم استلزام عدم الدخول عليهن مع استمرار الإقامة في المسجد العزم على ترك الوطء لامتناع الوطء في المسجد ، وقد تقدم في النكاح في آخر حديث عمر مثل حديث أنس في أنه آلى من نسائه شهرا ، ومن حديث أم سلمة أيضا آلى من نسائه شهرا ، ومن حديث ابن عباس أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا ، ومن حديث جابر عند مسلم اعتزل نساءه شهرا . وأخرج الترمذي من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت " آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 337 ] من نسائه وحرم فجعل الحرام حلالا " ورجاله موثقون ، لكن رجح الترمذي إرساله على وصله . وقد يتمسك بقوله " حرم " من ادعى أنه امتنع من جماعهن ، لكن تقدم البيان الواضح أن المراد بالتحريم تحريم شرب العسل أو تحريم وطء مارية سريته فلا يتم الاستدلال لذلك بحديث عائشة ، وأقوى ما يستدل به لفظ " اعتزل " مع ما فيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( حدثنا إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه ) هو أبو بكر بن عبد الحميد بن أبي أويس عبد الله بن عبد الله الأصبحي ابن عم مالك ، وسليمان هو ابن بلال ، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد بالنسبة لحميد درجتين ، لأنه أخرج في كتابه عن بعض أصحابه بلا واسطة كمحمد بن عبد الله الأنصاري ، ودرجة بالنسبة لسليمان بن بلال فإنه أخرج عنه الكثير بواسطة واحد فقط ، وقد تقدم في هذا الحديث بعينه في الصيام وفي النكاح كذلك ، والنكتة في اختيار هذا الإسناد النازل التصريح فيه عن حميد بسماعه له من أنس ، وقد تقدم بيان قوله " آلى من نسائه شهرا " وشرحه في أواخر الكلام على شرح حديث عمر في المتظاهرتين في النكاح ، ووقع في حديث أنس هذا في أوائل الصلاة زيادة قصة مشهورة سقوطه صلى الله عليه وسلم عن الفرس وصلاته بأصحابه جالسا ، وتقدم شرح الزيادة هناك . ومن أحكام الإيلاء أيضا عند الجمهور أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا فإن حلف على أنقص منها لم يكن موليا ، وقال إسحاق إن حلف أن لا يطأ على يوم فصاعدا ثم لم يطأ حتى مضت أربعة أشهر كان إيلاء ، وجاء عن بعض التابعين مثله وأنكره الأكثر ، وصنيع البخاري ثم الترمذي في إدخال حديث أنس في باب الإيلاء يقتضي موافقة إسحاق في ذلك ، وحمل هؤلاء قوله تعالى تربص أربعة أشهر على المدة التي تضرب للمولي ، فإن فاء بعدها وإلا ألزم بالطلاق . وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء " إذا حلف أن لا يقرب امرأته - سمى أجلا أو لم يسمه - فإن مضت أربعة أشهر " يعني ألزم حكم الإيلاء . وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن البصري " إذا قال لامرأته : والله لا أقربها الليلة ، فتركها أربعة أشهر من أجل يمينه تلك فهو إيلاء " وأخرج الطبري من حديث ابن عباس " كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين ، فوقت الله لهم أربعة أشهر ، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء " .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية