الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        5017 حدثنا عمرو بن عباس حدثنا ابن مهدي حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال عروة بن الزبير لعائشة ألم تري إلى فلانة بنت الحكم طلقها زوجها البتة فخرجت فقالت بئس ما صنعت قال ألم تسمعي في قول فاطمة قالت أما إنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث وزاد ابن أبي الزناد عن هشام عن أبيه عابت عائشة أشد العيب وقالت إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( سفيان ) هو الثوري .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( قال عروة ) أي ابن الزبير ( لعائشة : ألم تري إلى فلانة بنت الحكم ) نسبها إلى جدها ، وهي بنت عبد الرحمن بن الحكم كما في الطريق الأولى .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فقالت بئس ما صنعت ) في رواية الكشميهني " ما صنع " أي زوجها في تمكينها من ذلك ، أو أبوها في موافقتها ، ولهذا أرسلت عائشة إلى مروان عمها وهو الأمير أن يردها إلى منزل الطلاق .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ألم تسمعي قول فاطمة ) يحتمل أن يكون فاعل " قال " هو عروة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( قالت : أما إنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث ) في رواية مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه " تزوج يحيى بن سعيد بن العاص بنت عبد الرحمن بن الحكم فطلقها وأخرجها ، فأتيت عائشة فأخبرتها فقالت : ما لفاطمة خير في أن تذكر هذا الحديث " كأنها تشير إلى ما تقدم وأن الشخص لا ينبغي له أن يذكر شيئا عليه فيه غضاضة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وزاد ابن أبي الزناد عن هشام عن أبيه : عابت عائشة أشد العيب وقالت : إن فاطمة كانت في مكان وحش ، فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم ) وصله أبو داود من طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد بلفظ " لقد عابت " وزاد " يعني فاطمة بنت قيس " وقوله " وحش " بفتح الواو وسكون المهملة بعدها معجمة أي خال لا أنيس به ، ولرواية ابن أبي الزناد هذه شاهد من رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة لكن قال " عن أبيه عن فاطمة بنت قيس قالت : قلت يا رسول الله إن زوجي طلقني ثلاثا فأخاف أن يقتحم علي ، فأمرها فتحولت " وقد أخذ البخاري الترجمة من مجموع ما ورد في قصة فاطمة فرتب الجواز على أحد الأمرين : إما خشية الاقتحام عليها وإما أن يقع منها على أهل مطلقها فحش من القول ، ولم ير [ ص: 390 ] بين الأمرين في قصة فاطمة معارضة لاحتمال وقوعهما معا في شأنها . وقال ابن المنير : ذكر البخاري في الترجمة علتين وذكر في الباب واحدة فقط ، وكأنه أومأ إلى الأخرى إما لورودها على غير شرطه وإما لأن الخوف عليها إذا اقتضى خروجها ، فمثله الخوف منها ، بل لعله أولى في جواز إخراجها ، فلما صح عنده معنى العلة الأخرى ضمنها الترجمة . وتعقب بأن الاقتصار في بعض طرق الحديث على بعضه لا يمنع قبول بعض آخر إذا صح طريقه ، فلا مانع أن يكون أصل شكواها ما تقدم من استقلال النفقة ، وأنه اتفق أنه بدا منها بسبب ذلك شر لأصهارها واطلع النبي صلى الله عليه وسلم عليه من قبلهم وخشي عليها إن استمرت هناك أن يتركوها بغير أنيس فأمرت بالانتقال . قلت : ولعل البخاري أشار بالثاني إلى ما ذكره في الباب قبله من قول مروان لعائشة " إن كان بك شر " فإنه يومئ إلى أن السبب في ترك أمرها بملازمة السكن ما وقع بينها وبين أقارب زوجها من الشر . وقال ابن دقيق العيد : سياق الحديث يقتضي أن سبب الحكم أنها اختلفت مع الوكيل بسبب استقلالها ما أعطاها ، وأنها لما قال لها الوكيل لا نفقة لك سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأجابها بأنها لا نفقة لها ولا سكنى ، فاقتضى أن التعليل إنما هو بسبب ما جرى من الاختلاف لا بسبب الاقتحام والبذاءة ، فإن قام دليل أقوى من هذا الظاهر عمل به . قلت : المتفق عليه في جميع طرقه أن الاختلاف كان في النفقة ، ثم اختلفت الروايات : ففي بعضها " فقال لا نفقة لك ولا سكنى " وفي بعضها أنه لما قال لها " لا نفقة لك " استأذنته في الانتقال فأذن لها ، وكلها في صحيح مسلم ، فإذا جمعت ألفاظ الحديث من جميع طرقه خرج منها أن سبب استئذانها في الانتقال ما ذكر من الخوف عليها ومنها ، واستقام الاستدلال حينئذ على أن السكنى لم تسقط لذاتها وإنما سقطت للسبب المذكور . نعم كانتفاطمة بنت قيس تجزم بإسقاط سكنى البائن ونفقتها وتستدل لذلك كما سيأتي ذكره ، ولهذا كانت عائشة تنكر عليها .

                                                                                                                                                                                                        " تنبيه " :

                                                                                                                                                                                                        طعن أبو محمد بن حزم في رواية ابن أبي الزناد المعلقة فقال : عبد الرحمن بن أبي الزناد ضعيف جدا ، وحكم على روايته هذه بالبطلان ، وتعقب بأنه مختلف فيه ، ومن طعن فيه لم يذكر ما يدل على تركه فضلا عن بطلان روايته ، وقد جزم يحيى بن معين بأنه أثبت الناس في هشام بن عروة ، وهذا من روايته عن هشام ، فلله در البخاري ما أكثر استحضاره وأحسن تصرفه في الحديث والفقه . وقد اختلف السلف في نفقة المطلقة البائن وسكناها : فقال الجمهور لا نفقة لها . ولها السكنى ، واحتجوا لإثبات السكنى بقوله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولإسقاط النفقة بمفهوم قوله تعالى وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن مفهومه أن غير الحامل لا نفقة لها وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر معنى ، والسياق يفهم أنها في غير الرجعية ، لأن نفقة الرجعية واجبة لو لم تكن حاملا . وذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه لا نفقة لها ولا سكنى على ظاهر حديث فاطمة بنت قيس ، ونازعوا في تناول الآية الأولى المطلقة البائن ، وقد احتجت فاطمة بنت قيس صاحبة القصة على مروان حين بلغها إنكاره بقولها : بيني وبينكم كتاب الله ، قال الله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن - إلى قوله - يحدث بعد ذلك أمرا قالت هذا لمن كانت له مراجعة ، فأي أمر يحدث بعد الثلاث ؟ وإذا لم يكن لها نفقة وليست حاملا فعلام يحبسونها ؟ وقد وافق فاطمة على أن المراد بقوله تعالى يحدث بعد ذلك أمرا المراجعة قتادة والحسن والسدي والضحاك أخرجه الطبري عنهم ولم يحك عن أحد غيرهم خلافه ، وحكى غيره أن المراد بالأمر ما يأتي من قبل الله تعالى من نسخ أو تخصيص أو نحو ذلك فلم [ ص: 391 ] ينحصر ذلك في المراجعة ، وأما ما أخرجه أحمد من طريق الشعبي عن فاطمة في آخر حديثها مرفوعا " إنما السكنى والنفقة لمن يملك الرجعة " فهو من أكثر الروايات موقوف عليها ، وقد بين الخطيب في " المدرج " أن مجالد بن سعيد تفرد برفعه وهو ضعيف ، ومن أدخله في رواية غير رواية مجالد عن الشعبي فقد أدرجه ، وهو كما قال ، وقد تابع بعض الرواة عن الشعبي في رفعه مجالدا لكنه أضعف منه . وأما قولها " إذا لم يكن لها نفقة فعلام يحبسونها " ؟ فأجاب بعض العلماء عنه بأن السكنى التي تتبعها النفقة هو حال الزوجية الذي يمكن معه الاستمتاع ولو كانت رجعية ، وأما السكنى بعد البينونة فهو حق لله تعالى بدليل أن الزوجين لو اتفقا على إسقاط العدة لم تسقط بخلاف الرجعية فدل على أن لا ملازمة بين السكنى والنفقة . وقد قال بمثل قول فاطمة أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأتباعهم . وذهب أهل الكوفة من الحنفية وغيرهم إلى أن لها النفقة والكسوة ، وأجابوا عن الآية بأنه تعالى إنما قيد النفقة بحالة الحمل ليدل على إيجابها في غير حالة الحمل بطريق الأولى ، لأن مدة الحمل تطول غالبا . ورده ابن السمعاني بمنع العلة في طول مدة الحمل ، بل تكون مدة الحمل أقصر من غيرها تارة وأطول أخرى فلا أولوية ; وبأن قياس الحائل على الحامل فاسد ، لأنه يتضمن إسقاط تقييد ورد به النص في القرآن والسنة .

                                                                                                                                                                                                        وأما قول بعضهم إن حديث فاطمة أنكره السلف عليها كما تقدم من كلام عائشة ، وكما أخرج مسلم من طريق ، أبي إسحاق " كنت مع الأسود بن يزيد في المسجد فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ، فأخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به وقال : ويلك تحدث بهذا ؟ قال عمر : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت ، قال الله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن فالجواب عنه أن الدارقطني قال : قوله في حديث عمر " وسنة نبينا " غير محفوظ والمحفوظ " لا ندع كتاب ربنا " وكأن الحامل له على ذلك أن أكثر الروايات ليست فيها هـذه الزيادة ، لكن ذلك لا يرد رواية النفقة ، ولعل عمر أراد بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ما دلت عليه أحكامه من اتباع كتاب الله ، لا أنه أراد سنة مخصوصة في هذا ، ولقد كان الحق ينطق على لسان عمر ، فإن قوله " لا ندري حفظت أو نسيت " قد ظهر مصداقه في أنها أطلقت في موضع التقييد أو عممت في موضع التخصيص كما تقدم بيانه ، وأيضا فليس في كلام عمر ما يقتضي إيجاب النفقة وإنما أنكر إسقاط السكنى . وادعى بعض الحنفية أن في بعض طرق حديث عمر " للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة " ورده ابن السمعاني بأنه من قول بعض المجازفين فلا تحل روايته ، وقد أنكر أحمد ثبوت ذلك عن عمر أصلا ، ولعله أراد ما ورد من طريق إبراهيم النخعي عن عمر لكونه لم يلقه ، وقد بالغ الطحاوي في تقرير مذهبه فقال : خالفت فاطمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عمر روى خلاف ما روت ، فخرج المعنى الذي أنكر عليها عمر خروجا صحيحا ، وبطل حديث فاطمة فلم يجب العمل به أصلا ، وعمدته على ما ذكر من المخالفة ما روى عمر بن الخطاب ، فإنه أورده من طريق إبراهيم النخعي عن عمر قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لها السكنى والنفقة " وهذا منقطع لا تقوم به حجة .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية