الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                652 684 - حدثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالك ، عن أبي حازم بن دينار ، عن سهل بن سعد الساعدي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم ، فحانت الصلاة ، فجاء المؤذن إلى أبي بكر ، فقال : أتصلي للناس فأقيم ، قال : نعم ، فصلى أبو بكر ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة ، فتخلص حتى وقف في الصف ، فصفق الناس ، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته ، فلما أكثر الناس التصفيق التفت ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك ، فرفع أبو بكر يديه ، فحمد الله على ما أمره به رسول الله من ذلك ، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف ، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ، فلما انصرف قال : ( يا أبا بكر ، ما منعك أن تثبت إذ أمرتك ؟ ) فقال أبو بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما لي أراكم أكثرتم التصفيق ؟ من نابه شيء في صلاته فليسبح ؛ فإنه إذا سبح التفت إليه ، وإنما التصفيق للنساء ) .

                                التالي السابق


                                في هذا الحديث فوائد كثيرة :

                                [ ص: 128 ] منها : أن الإمام يستحب له الإصلاح بين طائفتين من المسلمين إذا وقع بينهم تشاجر ، وله أن يذهب إليهم إلى منازلهم لذلك .

                                ومنها : أن الإمام الراتب للمسجد إذا تأخر وعلم أنه غائب عن منزله في مكان فيه بعد ، ولم يغلب على الظن حضوره ، أو غلب ولكنه لا ينكر ذلك ولا يكرهه ، فلأهل المسجد أن يصلوا قبل حضوره في أول الوقت ، وكذا إذا ضاق الوقت .

                                وأما إن كان حاضرا أو قريبا ، وكان الوقت متسعا ، فإنه ينتظر ، كما انتظروا النبي صلى الله عليه وسلم لما أخر صلاة العشاء حتى نام النساء والصبيان ، وقد سبق ذكره .

                                ومنها : أنه إنما يؤم الناس مع غيبة الإمام أفضل من يوجد من الحاضرين ، ولذلك دعي أبو بكر إلى الصلاة دون غيره من الصحابة .

                                وهذا مما يستدل به على أن الصحابة كلهم كانوا معترفين بفضل أبي بكر وتقدمه عليهم ، وعلمهم أنه لا يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم مع غيبته غيره .

                                وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في هذا اليوم أبا بكر أن يؤم الناس إذا لم يحضر .

                                فخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي هذا الحديث من طريق حماد بن زيد ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يا بلال ، إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر يصلي بالناس ) .

                                وخرجه الحاكم من طريق عمر المقدمي ، عن أبي حازم ، وفي حديثه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يا أبا بكر ، إن أقيمت الصلاة فتقدم فصل بالناس ) ، قال : نعم .

                                وعلى هذه الرواية ، فإنما تقدم أبو بكر بإذن النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك .

                                [ ص: 129 ] وفيه : دليل على أن أبا بكر كان أحق الناس بالإمامة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم عند تخلفه عن الصلاة بالناس في صحته ومرضه .

                                وهذا يشكل على قول الإمام أحمد : إنه إنما أمره في مرضه بالصلاة ؛ لأنه أراد استخلافه على الأمة ، فإن أمره بالصلاة في غيبته يدل على أنه أحق الناس بالإمامة ، وأنه أقرأ الصحابة ؛ فإنه يقرأ ما يقرأون ، ويزيد عليهم باختصاصه بمزيد الفهم والفضل ، وما اختص به من الخشوع في الصلاة وعدم الالتفات فيها ، وكثرة البكاء عند قراءة القرآن .

                                ومنها : أن شق الداخل في الصلاة الصفوف طولا حتى يقوم في الصف الأول ليس بمكروه ، ولعله كان في الصف الأول فرجة ، وقد سبق ذكر هذه المسألة في ( أبواب : المرور بين يدي المصلي ) .

                                وقد قيل : إن ذلك يختص جوازه بمن تليق به الصلاة بالصف الأول لفضله وعلمه ، وهو الذي ذكره ابن عبد البر .

                                والمنصوص عن أحمد : كراهته .

                                قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : يشق الصفوف إذا قاموا إلى الصلاة على نحو حديث المسور بن مخرمة ، كأنه لم يعجبه ، ثم قال : اللهم إلا أن يضيق الموضع بالناس ، وتؤذيهم الشمس ، فإذا أقيمت شق الصفوف ودخل ، ليس به التخطي ، إنما به ما أذاه الشمس .

                                ومنها : أن الالتفات في الصلاة لحاجة عرضت غير مكروه ، وإنما يكره لغير حاجة .

                                ومنها : أن الالتفات وكثرة التصفيق لحاجة غير مبطل للصلاة ، وكذلك التأخر والمشي من صف إلى صف .

                                ومنها : أن رفع اليدين في الصلاة ، وحمد الله تعالى عند نعمة تجددت غير مبطل للصلاة .

                                [ ص: 130 ] وقد اختلف في ذلك :

                                فقال عبيد الله بن الحسن العنبري : هو حسن .

                                وقال الأوزاعي : يمضي في صلاته .

                                وقال عطاء : ما جرى على لسان الرجل في الصلاة ما له أصل في القرآن فليس بكلام .

                                وقال إسحاق : إن تعمده فهو كلام ، يعيد الصلاة ، وإن سبق منه من غير تعمد فليس عليه إعادة .

                                وقال - مرة - : إن تعمد فأحب إلي أن يعيد ، فلا يتبين لي ، نقله عنه حرب .

                                وعن أحمد ، أنه يعيد الصلاة بذلك ، وروي عنه ما يدل على أنه لا تعاد الصلاة منه ، وقد سبق ذلك مستوفى في ( باب : ما يقول إذا سمع المؤذن ) .

                                ومنها : أن أمر الإكرام لا تكون مخالفته معصية ، ولهذا قال أبو بكر : ( ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، ولم يكن ذلك عليه .

                                وهذا مما استدل به من قال : إن أبا بكر لم يؤم النبي صلى الله عليه وسلم قط ، لا في صحته ولا في مرضه .

                                ومنها - وهو الذي قصده البخاري بتبويبه هاهنا - : أن من أحرم بالصلاة إماما في مسجد له إمام راتب ، ثم حضر إمامه الراتب ، فهل له أن يؤخر الذي أحرم بالناس إماما ويصير مأموما ويصير الإمام الإمام الراتب ، أم لا بل ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه إمام الناس على كل حال ، وقد نهى الله عن التقدم بين يديه ، ولهذا قال أبو بكر : ( ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي [ ص: 131 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ؟ في ذلك قولان :

                                أحدهما : أنه لا يجوز ذلك ، بل هو من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، وحكاه ابن عبد البر إجماعا من العلماء ، وحكاه بعض أصحابنا عن أكثر العلماء .

                                والثاني : أنه يجوز ذلك ، وتبويب البخاري يدل عليه ، وهو قول الشافعي ، وأحد الوجهين لأصحابنا ، وقول ابن القاسم من المالكية .

                                واستدل بهذا الحديث على أن الإمام إذا سبقه الحدث جاز له أن يستخلف بعض المأمومين ؛ لأنه إذا جازت الصلاة بإمامين مع إمكان إتمامها بالإمام الأول فمع عدم إمكان ذلك لبطلان صلاة الأول أولى .

                                وفي الحديث - أيضا - : أن الرجل إذا نابه شيء في صلاته ، فإنه يسبح ، ولو صفق لم تبطل صلاته ، ولكنه يكون مكروها .

                                وأما قوله : ( إنما التصفيح للنساء ) ، فاختلفوا في معناه :

                                فحمله مالك وأصحابه على أن المراد : أن التصفيح من أفعال النساء ، فيكون إخبارا عن عيبه وذمه ، وأنه لا ينبغي أن يفعله أحد في الصلاة ، رجلا كان أو امرأة .

                                وحملوا قوله : ( من نابه شيء في صلاته فليسبح ) على أنه عام ، يدخل في عمومه الرجال والنساء ، إخبار منه بمشروعيته للنساء في الصلاة .

                                وقد روى هذا الحديث حماد بن زيد ، عن أبي حازم ، عن سهل ، وقال في حديثه : ( إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال ، وليصفح النساء ) .

                                خرجه النسائي وغيره .

                                وهذا صريح في ذلك ، سيأتي الكلام على ذلك مستوفى في موضعه من [ ص: 132 ] الكتاب -إن شاء الله تعالى- ؛ فإن البخاري خرج التسبيح للرجال والتصفيق للنساء من حديث أبي هريرة وسهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وقد روي معنى حديث سهل من حديث أبي هريرة بسياق غريب .

                                خرجه الترمذي في كتاب ( العلل ) : حدثنا الحسن بن الصباح ، ثنا شبابة ، عن المغيرة بن مسلم ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة ، فأقام بلال الصلاة ، فتقدم أبو بكر ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الصلاة ، فأرادوا أن يردوا وصفقوا ، فمنعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ، فلما انفتل قال : ( التسبيح للرجال ، والتصفيق للنساء ) .

                                وقال : سألت عنه محمد بن إسماعيل - يعني : البخاري - فلم يعرفه ، وجعل يستحسنه ، وقال : المشهور عن أبي حازم ، عن سهل . انتهى .

                                وهذا يخالف ما في حديث سهل ، من أن أبا بكر تأخر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فصلى بالناس ، والصحيح : حديث سهل . والله سبحانه وتعالى أعلم .




                                الخدمات العلمية