الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 485 ] الفصل الثامن : رد بعض الاعتراضات

          فإن قلت : فما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث السهو الذي حدثنا به الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر حدثنا القاضي أبو الأصبغ بن سهل ، حدثنا حاتم بن محمد ، حدثنا أبو عبد الله بن الفخار ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا عبيد الله ، نا يحيى ، عن مالك ، عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد أنه قال : سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر ، فسلم في ركعتين ، فقام ذو اليدين ، فقال : يا رسول الله ، أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كل ذلك لم يكن .

          وفي الرواية الأخرى : ما قصرت ، وما نسيت . . الحديث بقصته ، فأخبره بنفي الحالتين ، وأنها لم تكن ، وقد كان أحد ذلك كما قال ذو اليدين : قد كان بعض ذلك يا رسول الله . . .

          فاعلم وفقنا الله ، وإياك أن للعلماء في ذلك أجوبة ، بعضها بصدد الإنصاف ، ومنها ما هو بنية التعسف ، والاعتساف ، وها أنا أقول :

          أما على القول بتجويز الوهم ، والغلط فيما ليس طريقه من القول البلاغ وهو الذي زيفناه من القولين فلا اعتراض بهذا الحديث ، وشبهه .

          وأما على مذهب من يمنع السهو في أفعاله جملة ، ويرى أنه في مثل هذا عامد لصورة النسيان ليسن ، فهو صادق في خبره ، لأنه لم ينس ، ولا قصرت ، ولكنه على هذا القول تعمد هذا الفعل في هذه الصورة لمن اعتراه مثله ، وهو قول مرغوب عنه ، ونذكره في موضعه .

          وأما على إحالة السهو عليه في الأقوال ، وتجويز السهو عليه فيما ليس طريقه القول كما سنذكره ففيه أجوبة ، منها :

          أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن اعتقاده ، وضميره ، أما إنكار القصر فحق ، وصدق باطنا وظاهرا . وأما النسيان فأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن اعتقاده ، وأنه لم ينس في ظنه ، فكأنه قصد الخبر عن ظنه ، وإن لم ينطق به ، وهذا صدق أيضا .

          ووجه ثان : أن قوله : ولم أنس راجع إلى السلام ، أي إني سلمت قصدا ، وسهوت عن العدد ، أي لم أسه في نفس السلام ، وهذا محتمل ، وفيه بعد .

          ووجه ثالث : وهو أبعدهما ما ذهب إليه بعضهم ، وإن احتمله اللفظ من قوله : كل ذلك لم يكن : أي لم يجتمع القصر والنسيان بل كان أحدهما . ومفهوم اللفظ خلافه مع الرواية الأخرى الصحيحة ، وهو قوله : ما قصرت الصلاة ، وما نسيت .

          هذا ما رأيت فيه لأئمتنا ، وكل من هذه الوجوه محتمل [ ص: 486 ] للفظ على بعد بعضها ، وتعسف الآخر منها .

          قال القاضي أبو الفضل - وفقه الله - : والذي أقول ، ويظهر لي أنه أقرب من هذه الوجوه كلها أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : لم أنس إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه ، وأنكره على غيره بقوله : بئس ما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا ، وكذا ، ولكنه نسي .

          وبقوله في بعض روايات الحديث الآخر : لست أنسى ، ولكن أنس . فلما قال له السائل : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ أنكر قصرها كما كان ونسيانه هو من قبل نفسه ، وأنه إن كان جرى شيء من ذلك فقد نسي حتى سأل غيره ، فتحقق أنه نسي ، وأجري عليه ذلك ليسن ، فقوله على هذا : لم أنس ، ولم تقصر ، وكل ذلك لم يكن صدق وحق ، لم تقصر ، ولم ينس حقيقة ، ولكنه نسي .

          ووجه آخر استثرته من كلام بعض المشايخ ، وذلك أنه قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسهو ، ولا ينسى ، ولذلك نفى عن نفسه النسيان قال : لأن النسيان غفلة ، وآفة ، والسهو إنما هو شغل بال ، قال : فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسهو في صلاته ، ولا يغفل عنها ، وكان يشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة ، شغلا بها لا غفلة عنها .

          فهذا إن تحقق على هذا المعنى لم يكن في قوله : ما قصرت ولا نسيت خلف في قول .

          وعندي أن قوله : ما قصرت الصلاة ، وما نسيت بمعنى الترك الذي هو أحد وجهي النسيان أراد ، والله أعلم أني لم أسلم من ركعتين تاركا لإكمال الصلاة ، ولكني نسيت ، ولم يكن ذلك من تلقاء نفسي .

          والدليل على ذلك قوله في الحديث الصحيح : إني لأنسى أو أنسى لأسن ] .

          وأما قصة كلمات إبراهيم المذكورة في الحديث أنها كذباته الثلاث المنصوصة في القرآن منها اثنتان : قوله : إني سقيم [ الصافات : 89 ] . وقوله : بل فعله كبيرهم هذا . [ الأنبياء : 63 ] ، وقوله للملك عن زوجته : إنها أختي فاعلم أكرمك الله أن هذه كلها خارجة عن الكذب ، لا في القصد ، ولا في غيره ، وهي داخلة في باب المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب .

          أما قوله : إني سقيم [ الصافات : 89 ] فقال الحسن ، وغيره : معناه سأسقم ، أي إن كل مخلوق معرض لذلك ، فاعتذر لقومه من الخروج معهم إلى عيدهم بهذا .

          وقيل : بل سقيم بما قدر علي من الموت .

          وقيل : سقيم القلب بما أشاهده من كفركم ، وعنادكم .

          وقيل : بل كانت الحمى تأخذه عند طلوع نجم [ ص: 487 ] معلوم ، فلما رآه اعتذر بعادته .

          وكل هذا ليس فيه كذب ، بل هو خبر صحيح صدق .

          وقيل : بل عرض بسقم حجته عليهم ، وضعف ما أراد بيانه لهم من جهة النجوم التي كانوا يشتغلون بها ، وأنه أثناء نظره في ذلك ، وقبل استقامة حجته عليهم في حال سقم ومرض مع أنه لم يشك هو ، ولا ضعف إيمانه ولكنه ضعف في استدلاله عليهم ، وسقم نظره ، كما يقال : حجة سقيمة ، ونظر معلول ، حتى ألهمه الله باستدلاله ، وصحة حجته عليهم بالكواكب ، والشمس ، والقمر ما نصه الله - تعالى - ، وقدمنا بيانه .

          وأما قوله : بل فعله كبيرهم هذا [ الأنبياء : 63 ] الآية . فإنه علق خبره بشرط نطقه ، كأنه قال : إن كان ينطق فهو فعله على طريق التبكيت لقومه . وهذا صدق أيضا ، ولا خلف فيه .

          وأما قوله : أختي فقد بين في الحديث ، وقال : فإنك أختي في الإسلام ، وهو صدق ، والله - تعالى - يقول : إنما المؤمنون إخوة [ الحجرات : 10 ] .

          فإن قلت : فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سماها كذبات ، وقال : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات وقال في حديث الشفاعة : ويذكر كذباته فمعناه أنه لم يتكلم بكلام صورته صورة الكذب ، وإن كان حقا في الباطن إلا هذه الكلمات .

          ولما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - من مؤاخذته بها .

          وأما الحديث : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد غزوة ، ورى بغيرها فليس فيه خلف في القول ، إنما هو ستر مقصده ، لئلا يأخذ عدوه حذره ، وكتم وجه ذهابه بذكر السؤال عن موضع آخر ، والبحث عن أخباره ، والتعريض بذكره ، لا أنه يقول : تجهزوا إلى غزوة كذا ، أو وجهتنا إلى موضع كذا خلاف مقصده ، فهذا لم يكن ، والأول ليس فيه خبر يدخله الخلف .

          فإن قلت : فما معنى قول موسى - عليه السلام - ، وقد سئل : أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا أعلم ، فعتب الله عليه ذلك ، إذ لم يرد العلم إليه - الحديث - ، وفيه قال : بل عبد لنا بمجمع البحرين أعلم منك .

          وهذا خبر قد أنبأنا الله أنه ليس كذلك .

          فاعلم أنه قد وقع في هذا الحديث من بعض طرقه الصحيحة ، عن ابن عباس : هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ .

          فإذا كان جوابه على علمه فهو خبر حق وصدق لا خلف فيه ، ولا شبهة .

          وعلى الطريق الآخر فمحمله على ظنه ومعتقده ، كما لو صرح به ، لأن حاله في النبوة ، والاصطفاء يقتضي ذلك ، فيكون إخباره بذلك أيضا عن اعتقاده ، وحسبانه صدقا لا خلف فيه .

          وقد يريد بقوله : أنا أعلم بما تقتضيه وظائف النبوة من علوم التوحيد ، وأمور الشريعة ، وسياسة الأمة ، ويكون الخضر أعلم منه بأمور أخر مما لا يعلمه أحد إلا بإعلام الله من علوم غيبه ، كالقصص المذكورة في خبرهما ، فكان موسى - عليه السلام - أعلم على الجملة بما تقدم . وهذا أعلم على الخصوص بما أعلم .

          ويدل عليه قوله - تعالى - : وعلمناه من لدنا علما [ الكهف : 65 ] .

          وعتب الله ذلك عليه فيما قاله العلماء إنكار هذا القول عليه ، لأنه لم يرد العلم إليه ، كما قالت الملائكة : [ ص: 488 ] لا علم لنا إلا ما علمتنا أو لأنه لم يرض قوله شرعا ، وذلك ، والله أعلم لئلا يقتدي به فيه من لم يبلغ كماله في تزكية نفسه ، وعلو درجته من أمته ، فيهلك لما تضمنه من مدح الإنسان نفسه ، ويورثه ذلك من الكبر ، والعجب ، والتعاطي ، والدعوى ، وإن نزه عن هذه الرذائل الأنبياء فغيرهم بمدرجة سبيلها ، ودرك ليلها إلا من عصمه الله ، فالتحفظ أولى لنفسه ، وليقتدى به ، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - تحفظا من مثل هذا مما قد علم به : أنا سيد ولد آدم ، ولا فخر .

          وهذا الحديث إحدى حجج القائلين بنبوة الخضر ، لقوله فيه : أنا أعلم من موسى . ولا يكون الولي أعلم من النبي .

          وأما الأنبياء فيتفاضلون في المعارف .

          وبقوله : وما فعلته عن أمري فدل أنه بوحي . ومن قال : إنه ليس بنبي قال : يحتمل أن يكون فعله بأمر نبي آخر .

          وهذا يضعف ، لأنه ما علمنا أنه كان في زمن موسى نبي غيره إلا أخاه هارون ، وما نقل أحد من أهل الأخبار في ذلك شيئا يعول عليه .

          وإذا جعلنا [ أعلم منك ] ليس على العموم ، وإنما هو على الخصوص ، وفي قضايا معينة لم يحتج إلى إثبات نبوة الخضر ، ولهذا قال بعض الشيوخ : كان موسى أعلم من الخضر فيما أخذ عن الله ، والخضر أعلم فيما دفع إليه من موسى .

          وقال آخر : إنما ألجئ موسى إلى الخضر للتأديب لا للتعليم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية