الفصل الثالث : في
nindex.php?page=treesubj&link=28752معنى المعجزات
اعلم أن تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة ، هو أن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها ، وهي على ضربين : ضرب هو من نوع قدرة البشر ، فعجزوا عنه ، فتعجيزهم عنه فعل لله دل على صدق نبيه ، كصرفهم عن تمني الموت . وتعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن على رأي بعضهم ، ونحوه .
وضرب هو خارج عن قدرته ، فلم يقدروا على الإتيان بمثله ، كإحياء الموتى ، وقلب العصا حية ، وإخراج ناقة من صخرة ، وكلام شجرة ، ونبع الماء من الأصابع ، وانشقاق القمر ، مما لا يمكن أن يفعله أحد إلا الله ، فكون ذلك على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعل الله - تعالى - ، وتحديه من يكذبه أن يأتي بمثله تعجيز له .
واعلم أن المعجزات التي ظهرت على يد نبينا - صلى الله عليه وسلم - ودلائل نبوته ، وبراهين صدقه من هذين النوعين معا ، وهو أكثر الرسل معجزة ، وأبهرهم آية ، وأظهرهم برهانا ، كما سنبينه ، وهي في كثرتها لا يحيط بها ضبط ، فإن واحدا منها ، وهو القرآن لا يحصى عدد معجزاته بألف ، ولا ألفين ، ولا أكثر ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تحدى بسورة منه فعجز عنها .
قال أهل العلم : وأقصر السور
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر [ الكوثر : 1 ] . فكل آية ، أو آيات منه بعددها ، وقدرها معجزة ، ثم فيها
[ ص: 277 ] نفسها معجزات على ما سنفصله فيما انطوى عليه من المعجزات . ثم
nindex.php?page=treesubj&link=29402معجزاته - صلى الله عليه وسلم - على قسمين : قسم منها علم قطعا ، ونقل إلينا متواترا كالقرآن فلا مرية ، ولا خلاف بمجيء النبي به ، وظهوره من قبله ، واستدلاله بحجته ، وإن أنكر هذا معاند جاحد ، فهو كإنكاره وجود
محمد - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا .
وإنما جاء اعتراض الجاحدين في الحجة به ، فهو في نفسه ، وجميع ما تضمنه من معجز معلوم ضرورة .
ووجه إعجازه معلوم ضرورة ، ونظرا ، كما سنشرحه .
قال بعض أئمتنا : ويجري هذا المجرى على الجملة أنه قد جرى على يديه - صلى الله عليه وسلم - آيات ، وخوارق عادات إن لم يبلغ واحد منها معينا القطع فيبلغه جميعها ، فلا مرية في جريان معانيها على يديه ، ولا يختلف مؤمن ولا كافر أنه جرت على يديه عجائب ، وإنما خلاف المعاند في كونها من قبل الله .
وقد قدمنا كونها من قبل الله ، وإن ذلك بمثابة قوله : صدقت .
فقد علم وقوع مثل هذا أيضا من نبينا ضرورة لاتفاق معانيها ، كما يعلم ضرورة جود
حاتم ، وشجاعة
عنترة ، وحلم
أحنف ، لاتفاق الأخبار الواردة عن كل واحد منهم على كرم هذا ، وشجاعة هذا ، وحلم هذا ، وإن كان كل خبر بنفسه لا يوجب العلم ، ولا يقطع بصحته .
والقسم الثاني : ما لم يبلغ مبلغ الضرورة ، والقطع ، وهو على نوعين : نوع مشتهر منتشر ، رواه العدد ، وشاع الخبر به عند المحدثين ، والرواة ، ونقلة السير ، والأخبار ، كنبع الماء من بين الأصابع ، وتكثير الطعام .
ونوع منه اختص به الواحد ، والاثنان ، ورواه العدد اليسير ، ولم يشتهر اشتهار غيره ، لكنه إذا جمع إلى مثله اتفقا في المعنى ، واجتمعا على الإتيان بالمعجز ، كما قدمناه .
قال
القاضي أبو الفضل : وأنا أقول صدعا بالحق : إن كثيرا من هذه الآيات المأثورة عنه - صلى الله عليه وسلم - معلومة بالقطع .
أما انشقاق القمر فالقرآن نص بوقوعه ، وأخبر عن وجوده ، ولا يعدل عن ظاهر إلا بدليل ، وجاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة ، ولا يوهن عزمنا خلاف أخرق منحل عرى الدين ، ولا يلتفت إلى سخافة مبتدع يلقي الشك على قلوب ضعفاء المؤمنين ، بل يرغم بهذا أنفه ، وننبذ بالعراء سخفه .
وكذلك قصة نبع الماء ، وتكثير الطعام رواها الثقات ، والعدد الكثير عن الجماء الغفير ، عن العدد الكثير من الصحابة .
ومنها ما رواه الكافة عن الكافة متصلا
[ ص: 278 ] عمن حدث بها من جملة الصحابة ، وأخيارهم أن ذلك كان في موطن اجتماع الكثير منهم في يوم الخندق ، وفي غزوة بواط ، وعمرة
الحديبية ، وغزوة
تبوك ، وأمثالها من محافل المسلمين ، ومجمع العساكر ، ولم يؤثر عن أحد من الصحابة مخالفة للراوي فيما حكاه ، ولا إنكار لما ذكر عنهم أنهم رأوه كما رآه ، فسكوت الساكت منهم كنطق الناطق ، إذ هم المنزهون عن السكوت على باطل ، والمداهنة في كذب ، وليس هناك رغبة ، ولا رهبة تمنعهم ، ولو كان ما سمعوه منكرا عندهم ، وغير معروف لديهم لأنكروه ، كما أنكر بعضهم على بعض أشياء رواها من السنن ، والسير ، وحروف القرآن . وخطأ بعضهم بعضا ، ووهمه في ذلك ، مما هو معلوم ، فهذا النوع كله يلحق بالقطعي من معجزاته لما بيناه .
وأيضا فإن أمثال الأخبار التي لا أصل لها ، وبنيت على باطل ، لا بد بعد مرور الأزمان وتداول الناس ، وأهل البحث من انكشاف ضعفها ، وخمول ذكرها ، كما يشاهد في كثير من الأخبار الكاذبة ، والأراجيف الطارئة . وأعلام نبينا - صلى الله عليه وسلم - هذه الواردة من طريق الآحاد لا تزداد مع مرور الزمان إلا ظهورا ، ومع تداول الفرق ، وكثرة طعن العدو ، وحرصه على توهينها ، وتضعيف أصلها ، واجتهاد الملحد على إطفاء نورها إلا قوة ، وقبولا ، وللطاعنين عليها إلا حسرة ، وغليلا .
وكذلك إخباره عن الغيوب ، وإنباؤه بما يكون وكان معلوم من آياته على الجملة بالضرورة .
وهذا حق لا غطاء عليه ، وقد قال به من أئمتنا
القاضي ، والأستاذ
أبو بكر ، وغيرهما ، رحمهم الله ، وما عندي أوجب قول القائل : إن هذه القصص المشهورة من باب خبر الواحد إلا قلة مطالعته للأخبار ، وروايتها ، وشغله بغير ذلك من المعارف ، وإلا فمن اعتنى بطرق النقل ، وطالع الأحاديث ، والسير لم يرتب في صحة هذه القصص المشهورة على الوجه الذي ذكرناه .
ولا يبعد أن يحصل العلم بالتواتر عند واحد ، ولا يحصل عند آخر ، فإن أكثر الناس يعلمون بالخبر كون
بغداد موجودة ، وأنها مدينة عظيمة ، ودار الإمامة ، والخلافة ، وآحاد من الناس لا يعلمون اسمها ، فضلا عن وصفها ، وهكذا يعلم الفقهاء من أصحاب مالك بالضرورة ، وتواتر النقل عنه أن مذهبه إيجاب قراءة أم القرآن في الصلاة للمنفرد ، والإمام ، وإجزاء النية في أول ليلة من رمضان عما سواه ، وأن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي يرى تجديد النية كل ليلة ، والاقتصار في المسح على بعض الرأس ، وإن مذهبهما القصاص في القتل بالمحدد ، وغيره ، وإيجاب النية في الوضوء ، واشتراط الولي في النكاح
[ ص: 279 ] وأن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة يخالفهما في هذه المسائل ، وغيرهم ممن لم يشتغل بمذاهبهم ، ولا روى أقوالهم لا يعرف هذا من مذاهبهم فضلا عمن سواه .
وعند ذكرنا آحاد هذه المعجزات نزيد الكلام فيها بيانا إن شاء الله - تعالى - .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28752مَعْنَى الْمُعْجِزَاتِ
اعْلَمْ أَنَّ تَسْمِيَتَنَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مُعْجِزَةً ، هُوَ أَنَّ الْخَلْقَ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا ، وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : ضَرْبٌ هُوَ مِنْ نَوْعِ قُدْرَةِ الْبَشَرِ ، فَعَجَزُوا عَنْهُ ، فَتَعْجِيزُهُمْ عَنْهُ فِعْلٌ لِلَّهِ دَلَّ عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِ ، كَصَرْفِهِمْ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ . وَتَعْجِيزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ عَلَى رَأْيِ بَعْضِهِمْ ، وَنَحْوِهِ .
وَضَرْبٌ هُوَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً ، وَإِخْرَاجِ نَاقَةٍ مِنْ صَخْرَةٍ ، وَكَلَامِ شَجَرَةٍ ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنَ الْأَصَابِعِ ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ ، مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ ، فَكَوْنُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فِعْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَتَحَدِّيهِ مَنْ يُكَذِّبُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ تَعْجِيزٌ لَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَلَائِلَ نَبُّوَّتِهِ ، وَبَرَاهِينَ صِدْقِهِ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مَعًا ، وَهُوَ أَكْثَرُ الرُّسُلِ مُعْجِزَةً ، وَأَبْهَرُهُمْ آيَةً ، وَأَظْهَرُهُمْ بُرْهَانًا ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ ، وَهِيَ فِي كَثْرَتِهَا لَا يُحِيطُ بِهَا ضَبْطٌ ، فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْهَا ، وَهُوَ الْقُرْآنُ لَا يُحْصَى عَدَدُ مُعْجِزَاتِهِ بِأَلْفٍ ، وَلَا أَلْفَيْنِ ، وَلَا أَكْثَرَ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَحَدَّى بِسُورَةٍ مِنْهُ فَعُجِزَ عَنْهَا .
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : وَأَقْصَرُ السُّوَرِ
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [ الْكَوْثَرِ : 1 ] . فَكُلُّ آيَةٍ ، أَوْ آيَاتٍ مِنْهُ بِعَدَدِهَا ، وَقَدْرِهَا مُعْجِزَةٌ ، ثُمَّ فِيهَا
[ ص: 277 ] نَفْسِهَا مُعْجِزَاتٌ عَلَى مَا سَنُفَصِّلُهُ فِيمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ . ثُمَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29402مُعْجِزَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ مِنْهَا عُلِمَ قَطْعًا ، وَنُقِلَ إِلَيْنَا مُتَوَاتِرًا كَالْقُرْآنِ فَلَا مِرْيَةَ ، وَلَا خِلَافَ بِمَجِيءِ النَّبِيِّ بِهِ ، وَظُهُورِهِ مِنْ قِبَلِهِ ، وَاسْتِدْلَالِهِ بِحُجَّتِهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ هَذَا مُعَانِدٌ جَاحِدٌ ، فَهُوَ كَإِنْكَارِهِ وُجُودَ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّنْيَا .
وَإِنَّمَا جَاءَ اعْتِرَاضُ الْجَاحِدِينَ فِي الْحُجَّةِ بِهِ ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ ، وَجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ مُعْجِزٍ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً .
وَوَجْهُ إِعْجَازِهِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً ، وَنَظَرًا ، كَمَا سَنَشْرَحُهُ .
قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا : وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَاتٌ ، وَخَوَارِقُ عَادَاتٍ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ وَاحِدٌ مِنْهَا مُعَيَّنًا الْقَطْعَ فَيَبْلُغُهُ جَمِيعُهَا ، فَلَا مِرْيَةَ فِي جَرَيَانِ مَعَانِيهَا عَلَى يَدَيْهِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ أَنَّهُ جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ عَجَائِبُ ، وَإِنَّمَا خِلَافُ الْمُعَانِدِ فِي كَوْنِهَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا كَوْنَهَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ : صَدَقْتَ .
فَقَدْ عُلِمَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا أَيْضًا مِنْ نَبِيِّنَا ضَرُورَةً لِاتِّفَاقِ مَعَانِيهَا ، كَمَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً جُودُ
حَاتِمٍ ، وَشَجَاعَةُ
عَنْتَرَةَ ، وَحِلْمُ
أَحْنَفَ ، لِاتِّفَاقِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى كَرَمِ هَذَا ، وَشَجَاعَةِ هَذَا ، وَحِلْمِ هَذَا ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ خَبَرٍ بِنَفْسِهِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، وَلَا يَقْطَعُ بِصِحَّتِهِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الضَّرُورَةِ ، وَالْقَطْعِ ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ مُشْتَهِرٌ مُنْتَشِرٌ ، رَوَاهُ الْعَدَدُ ، وَشَاعَ الْخَبَرُ بِهِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ ، وَالرُّوَاةِ ، وَنَقَلَةِ السِّيَرِ ، وَالْأَخْبَارِ ، كَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ .
وَنَوْعٌ مِنْهُ اخْتُصَّ بِهِ الْوَاحِدُ ، وَالِاثْنَانِ ، وَرَوَاهُ الْعَدَدُ الْيَسِيرُ ، وَلَمْ يَشْتَهِرِ اشْتِهَارَ غَيْرِهِ ، لَكِنَّهُ إِذَا جُمِعَ إِلَى مِثْلِهِ اتَّفَقَا فِي الْمَعْنَى ، وَاجْتَمَعَا عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْمُعْجِزِ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ .
قَالَ
الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ : وَأَنَا أَقُولُ صَدْعًا بِالْحَقِّ : إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْلُومَةٌ بِالْقَطْعِ .
أَمَّا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ فَالْقُرْآنُ نَصَّ بِوُقُوعِهِ ، وَأَخْبَرَ عَنْ وُجُودِهِ ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ ظَاهِرٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ ، وَجَاءَ بِرَفْعِ احْتِمَالِهِ صَحِيحُ الْأَخْبَارِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ ، وَلَا يُوهِنُ عَزْمَنَا خِلَافُ أَخْرَقَ مُنْحَلِّ عُرَى الدِّينِ ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى سَخَافَةِ مُبْتَدِعٍ يُلْقِي الشَّكَّ عَلَى قُلُوبِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ، بَلْ يُرْغَمُ بِهَذَا أَنْفُهُ ، وَنَنْبِذُ بِالْعَرَاءِ سُخْفَهُ .
وَكَذَلِكَ قِصَّةُ نَبْعِ الْمَاءِ ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ رَوَاهَا الثِّقَاتُ ، وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ عَنِ الْجَمَّاءِ الْغَفِيرِ ، عَنِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ .
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْكَافَّةُ عَنِ الْكَافَّةِ مُتَّصِلًا
[ ص: 278 ] عَمَّنْ حَدَّثَ بِهَا مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ ، وَأَخْيَارِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَوْطِنِ اجْتِمَاعِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ ، وَفِي غَزْوَةِ بُوَاطٍ ، وَعُمْرَةِ
الْحُدَيْبِيَةِ ، وَغَزْوَةِ
تَبُوكَ ، وَأَمْثَالِهَا مِنْ مَحَافِلِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَجْمَعِ الْعَسَاكِرِ ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَةٌ لِلرَّاوِي فِيمَا حَكَاهُ ، وَلَا إِنْكَارٌ لِمَا ذُكِرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ كَمَا رَآهُ ، فَسُكُوتُ السَّاكِتِ مِنْهُمْ كَنُطْقِ النَّاطِقِ ، إِذْ هُمُ الْمُنَزَّهُونَ عَنِ السُّكُوتِ عَلَى بَاطِلٍ ، وَالْمُدَاهَنَةِ فِي كَذِبٍ ، وَلَيْسَ هُنَاكَ رَغْبَةٌ ، وَلَا رَهْبَةٌ تَمْنَعُهُمْ ، وَلَوْ كَانَ مَا سَمِعُوهُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ ، وَغَيْرَ مَعْرُوفٍ لَدَيْهِمْ لَأَنْكَرُوهُ ، كَمَا أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَشْيَاءَ رَوَاهَا مِنَ السُّنَنِ ، وَالسِّيَرِ ، وَحُرُوفِ الْقُرْآنِ . وَخَطَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَوَهَّمَهُ فِي ذَلِكَ ، مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ ، فَهَذَا النَّوْعُ كُلُّهُ يَلْحَقُ بِالْقَطْعِيِّ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ أَمْثَالَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا ، وَبُنِيَتْ عَلَى بَاطِلٍ ، لَا بُدَّ بَعْدَ مُرُورِ الْأَزْمَانِ وَتَدَاوُلِ النَّاسِ ، وَأَهْلِ الْبَحْثِ مِنِ انْكِشَافِ ضَعْفِهَا ، وَخُمُولِ ذِكْرِهَا ، كَمَا يُشَاهَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ ، وَالْأَرَاجِيفِ الطَّارِئَةِ . وَأَعْلَامُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْوَارِدَةُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ لَا تَزْدَادُ مَعَ مُرُورِ الزَّمَانِ إِلَّا ظُهُورًا ، وَمَعَ تَدَاوُلِ الْفِرَقِ ، وَكَثْرَةِ طَعْنِ الْعَدُوِّ ، وَحِرْصِهِ عَلَى تَوْهِينِهَا ، وَتَضْعِيفِ أَصْلِهَا ، وَاجْتِهَادِ الْمُلْحِدِ عَلَى إِطْفَاءِ نُورِهَا إِلَّا قُوَّةً ، وَقَبُولًا ، وَلِلطَّاعِنِينَ عَلَيْهَا إِلَّا حَسْرَةً ، وَغَلِيلًا .
وَكَذَلِكَ إِخْبَارُهُ عَنِ الْغُيُوبِ ، وَإِنْبَاؤُهُ بِمَا يَكُونُ وَكَانَ مَعْلُومٌ مِنْ آيَاتِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِالضَّرُورَةِ .
وَهَذَا حَقٌّ لَا غِطَاءَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ قَالَ بِهِ مِنْ أَئِمَّتِنَا
الْقَاضِي ، وَالْأُسْتَاذُ
أَبُو بَكْرٍ ، وَغَيْرُهُمَا ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَمَا عِنْدِي أَوْجَبَ قَوْلَ الْقَائِلِ : إِنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ الْمَشْهُورَةَ مِنْ بَابِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إِلَّا قِلَّةُ مُطَالَعَتِهِ لِلْأَخْبَارِ ، وَرِوَايَتِهَا ، وَشُغْلُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَارِفِ ، وَإِلَّا فَمَنِ اعْتَنَى بِطُرُقِ النَّقْلِ ، وَطَالَعَ الْأَحَادِيثَ ، وَالسِّيَرَ لَمْ يَرْتَبْ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْقِصَصِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ وَاحِدٍ ، وَلَا يَحْصُلُ عِنْدَ آخَرَ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ بِالْخَبَرِ كَوْنَ
بَغْدَادَ مَوْجُودَةً ، وَأَنَّهَا مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَدَارُ الْإِمَامَةِ ، وَالْخِلَافَةِ ، وَآحَادٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ اسْمَهَا ، فَضْلًا عَنْ وَصْفِهَا ، وَهَكَذَا يَعْلَمُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ بِالضَّرُورَةِ ، وَتَوَاتُرِ النَّقْلِ عَنْهُ أَنَّ مَذْهَبَهُ إِيجَابُ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ لِلْمُنْفَرِدِ ، وَالْإِمَامِ ، وَإِجْزَاءُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ عَمَّا سِوَاهُ ، وَأَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيَّ يَرَى تَجْدِيدَ النِّيَّةِ كُلَّ لَيْلَةٍ ، وَالِاقْتِصَارَ فِي الْمَسْحِ عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ ، وَإِنَّ مَذْهَبَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ ، وَغَيْرِهِ ، وَإِيجَابُ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ ، وَاشْتِرَاطُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ
[ ص: 279 ] وَأَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبَا حَنِيفَةَ يُخَالِفُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِمَذَاهِبِهِمْ ، وَلَا رَوَى أَقْوَالَهُمْ لَا يَعْرِفُ هَذَا مِنْ مَذَاهِبِهِمْ فَضْلًا عَمَّنْ سِوَاهُ .
وَعِنْدَ ذِكْرِنَا آحَادَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ نَزِيدُ الْكَلَامَ فِيهَا بَيَانًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - .