الفصل الثلاثون : تذييل ، وخاتمة
قال
القاضي أبو الفضل - رحمه الله - : قد أتينا في هذا الباب على نكت من معجزاته واضحة ، وجمل من علامات نبوته مقنعة ، في واحد منها الكفاية ، والغنية ، وتركنا الكثير سوى ما ذكرنا ، واقتصرنا من الأحاديث الطوال على عين الغرض ، وفص المقصد ، ومن كثير الأحاديث ، وغريبها على ما صح ، واشتهر إلا يسيرا من غريبه مما ذكره مشاهير الأئمة ، وحذفنا الإسناد في جمهورها ، طلبا للاختصار .
وبحسب هذا الباب لو تقصي أن يكون ديوانا جامعا يشتمل على مجلدات عدة .
nindex.php?page=treesubj&link=28752_29402ومعجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - أظهر من سائر معجزات الرسل بوجهين :
أحدهما : كثرتها ، وأنه لم يؤت نبي معجزة إلا وعند نبينا مثلها ، أو ما هو أبلغ منها .
وقد نبه الناس على ذلك ، فإن أردته فتأمل فصول هذا الباب ، ومعجزات من تقدم من الأنبياء تقف على ذلك إن شاء الله - تعالى - .
وأما كونها كثيرة فهذا القرآن وكله معجز ،
nindex.php?page=treesubj&link=28752وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض أئمة المحققين سورة :
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر [ الكوثر : 1 ] ، أو آية في قدرها .
وذهب بعضهم إلى أن كل آية منه كيف كانت معجزة .
وزاد آخرون أن كل جملة منتظمة منه معجزة ، وإن كانت من كلمة أو كلمتين .
والحق ما ذكرناه أولا ، لقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23عبدنا فأتوا بسورة من [ البقرة : 23 ] ، فهو أقل ما تحداهم به ، مع ما ينصر هذا من نظر ، وتحقيق يطول بسطه .
وإذا كان هذا ففي القرآن من الكلمات نحو من سبعة وسبعين ألف كلمة ونيف ، على عدد بعضهم ، وعدد كلمات :
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر [ الكوثر : 1 ] عشر كلمات ، فتجزئ القرآن على نسبة عدد كلمات
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر أزيد من سبعة آلاف جزء ، كل واحد منها معجز في نفسه .
ثم إعجازه كما تقدم بوجهين : طريق بلاغته ، وطريق نظمه ، فصار في كل جزء من هذا العدد معجزتان فتضاعف العدد من هذا الوجه .
ثم فيه وجوه إعجاز أخر من الإخبار بعلوم الغيب ، فقد يكون في السورة الواحدة من هذه التجزئة الخبر عن أشياء من الغيب ، كل خبر منها بنفسه معجز ، فتضاعف العدد كرة أخرى .
ثم وجوه الإعجاز الأخر التي ذكرناها
[ ص: 353 ] توجب التضعيف ، هذا في حق القرآن فلا يكاد يأخذ العد معجزاته ، ولا يحوي الحصر براهينه .
ثم الأحاديث الواردة ، والأخبار الصادرة عنه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأبواب ، وعما دل على أمره مما أشرنا إلى جمله يبلغ نحوا من هذا .
الوجه الثاني : وضوح معجزاته - صلى الله عليه وسلم - ، فإن معجزات الرسل كانت بقدر همم أهل زمانهم ، وبحسب الفن الذي سما فيه قرنه .
فلما كان
موسى غاية علم أهله السحر بعث إليهم
موسى بمعجزة تشبه ما يدعون قدرتهم عليه ، فجاءهم منها ما خرق عادتهم ، ولم يكن في قدرتهم ، وأبطل سحرهم .
وكذلك زمن
عيسى أغنى ما كان الطب ، وأوفر ما كان أهله ، فجاءهم أمر لا يقدرون عليه ، وأتاهم ما لم يحتسبوه من إحياء الميت ، وإبراء الأكمه ، والأبرص دون معالجة ، ولا طب .
وهكذا سائر معجزات الأنبياء .
ثم إن الله - تعالى - بعث
محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وجملة معارف العرب ، وعلومها أربعة : البلاغة ، والشعر ، والخبر ، والكهانة ، فأنزل عليه
nindex.php?page=treesubj&link=28752_20759_32450القرآن الخارق لهذه الأربعة ، فصول من الفصاحة ، والإيجاز ، والبلاغة الخارجة عن نمط كلامهم ، ومن النظم الغريب ، والأسلوب العجيب الذي لم يهتدوا في المنظوم إلى طريقه ، ولا علموا في أساليب الأوزان منهجه ، ومن الأخبار عن الكوائن ، والحوادث ، والأسرار ، والمخبآت ، والضمائر ، فتوجد على ما كانت ، ويعترف المخبر عنها بصحة ذلك ، وصدقه ، وإن كان أعدى العدو .
فأبطل الكهانة التي تصدق مرة ، وتكذب عشرا ، ثم اجتثها من أصلها برجم الشهب ، ورصد النجوم .
وجاء من الأخبار عن القرون السالفة ، وأنباء الأنبياء ، والأمم البائدة ، والحوادث الماضية ما يعجز من تفرغ لهذا العلم عن بعضه على الوجوه التي بسطناها ، وبينا المعجز فيها .
ثم بقيت هذه المعجزة الجامعة لهذه الوجوه إلى الفصول الأخر التي ذكرناها في معجزات القرآن ثابتة إلى يوم القيامة بينة الحجة لكل أمة تأتي ، لا يخفى وجوه ذلك على من نظر فيه ، وتأمل وجوه إعجازه .
إلى ما أخبر به من الغيوب على هذه السبيل ، فلا يمر عصر ، ولا زمن إلا يظهر فيه صدقه بظهور مخبره على ما أخبر ، فيتجدد الإيمان ويتظاهر البرهان ، وليس الخبر كالعيان كما قيل .
وللمشاهدة زيادة في اليقين ، والنفس أشد طمأنينة إلى عين اليقين منها إلى علم اليقين ، وإن كان كل عندها حقا .
وسائر
nindex.php?page=treesubj&link=25029_18626معجزات الرسل انقرضت بانقراضهم ، وعدمت بعدم ذواتها ، ومعجزة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا تبيد ، ولا تنقطع ، وآياته تتجدد ، ولا تضمحل ، ولهذا أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله فيما [ حدثنا
القاضي الشهيد أبو علي ، حدثنا
القاضي أبو الوليد ، حدثنا
أبو ذر ، حدثنا
أبو محمد ،
وأبو إسحاق ،
وأبو الهيثم ، قالوا : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=14898الفربري ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15136عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا
الليث ، عن
سعيد ، عن أبيه ] ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن
[ ص: 354 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989679ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة .
هذا معنى الحديث عن بعضهم ، وهو الظاهر ، والصحيح إن شاء الله .
وذهب غير واحد من العلماء في تأويل هذا الحديث ، وظهور معجزة نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى معنى آخر من ظهورها بكونها وحيا ، وكلاما لا يمكن التخييل فيه ، ولا التخيل عليه ، ولا التشبيه ، فإن غيرها من معجزات الرسل قد رام المعاندون لها بأشياء طمعوا في التخييل بها على الضعفاء كإلقاء السحرة حبالهم ، وعصيهم ، وشبه هذا مما يخيله الساحر ، أو يتحيل فيه .
والقرآن كلام ليس للحيلة ، ولا للسحر ، ولا التخييل فيه عمل ، فكان من هذا الوجه عندهم أظهر من غيره من المعجزات ، كما لا يتم لشاعر ، ولا لخطيب أن يكون شاعرا ، أو خطيبا بضرب من الحيل ، والتمويه .
والتأويل الأول أخلص ، وأرضى .
وفي هذا التأويل الثاني ما نغمض عليه الجفن ، ونغضي .
ووجه ثالث على مذهب من قال بالصرفة ، وأن المعارضة كانت في مقدور البشر ، فصرفوا عنها ، أو على أحد مذهبي أهل السنة من أن الإتيان بمثله من جنس مقدورهم ، ولكن لم يكن ذلك قبل ، ولا يكون بعد ، لأن الله - تعالى - لم يقدرهم عليه .
وبين المذهبين فرق بين ، وعليهما جميعا فتترك العرب الإتيان بما في مقدورهم ، أو ما هو من جنس مقدورهم ، ورضاهم بالبلاء ، والجلاء ، والسباء ، والإذلال ، وتغيير الحال ، وسلب النفوس ، والأموال ، والتقريع ، والتوبيخ ، والتعجيز ، والتهديد ، والوعيد أبين آية للعجز عن الإتيان بمثله ، والنكول عن معارضته ، وأنهم منعوا عن شيء هو من جنس مقدورهم .
وإلى هذا ذهب الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12441أبو المعالي الجويني ، وغيره قال : وهذا عندنا أبلغ في خرق العادة بالأفعال البديعة في أنفسها ، كقلب العصا حية ، ونحوها ، فإنه قد يسبق إلى بال الناظر بدارا أن ذلك من اختصاص صاحب ذلك بمزية معرفة في ذلك الفن ، وفضل علم إلى أن يرد ذلك صحيح النظر .
وأما التحدي للخلائق مئين من السنين بكلام من
[ ص: 355 ] جنس كلامهم ليأتوا بمثله فلم يأتوا ، فلم يبق بعد توفر الدواعي على المعارضة ثم عدمها إلا أن منع الله الخلق عنها بمثابة ما لو قال نبي : آيتي أن يمنع الله القيام عن الناس مع مقدرتهم عليه ، وارتفاع الزمانة عنهم ، فكان ذلك ، وعجزهم الله - تعالى - عن القيام فكان ذلك من أبصر آية ، وأظهر دلالة . وبالله التوفيق .
وقد غاب عن بعض العلماء وجه ظهور آيته على سائر آيات الأنبياء ، حتى احتاج للعذر عن ذلك بدقة أفهام العرب ، وذكاء ألبابها ، ووفور عقولها ، وأنهم أدركوا المعجزة فيه بفطنتهم ، وجاءهم من ذلك بحسب إدراكهم ، وغيرهم من
القبط ،
وبني إسرائيل ، وغيرهم لم يكونوا بهذه السبيل ، بل كانوا من الغباوة ، وقلة الفطنة بحيث جوز عليهم
فرعون أنه ربهم ، وجوز عليهم
السامري ذلك في العجل بعد إيمانهم ، وعبدوا
المسيح مع إجماعهم على صلبه
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=157وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم [ النساء : 157 ] ، فجاءتهم من الآيات الظاهرة البينة للأبصار بقدر غلظ أفهامهم ما لا يشكون فيه ، ومع هذا فقالوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=55لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم [ البقرة : 55 ] . ولم يصبروا على المن ، والسلوى ، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
والعرب على جاهليتها أكثرها يعترف بالصانع ، وإنما كانت تتقرب بالأصنام إلى الله زلفى .
ومنهم من آمن بالله وحده من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدليل عقله ، وصفاء لبه .
ولما جاءهم الرسول بكتاب الله فهموا حكمته ، وتبينوا بفضل إدراكهم لأول وهلة معجزته ، فآمنوا به ، وازدادوا كل يوم إيمانا ، ورفضوا الدنيا كلها في صحبته ، وهجروا ديارهم ، وأموالهم ، وقتلوا آباءهم ، وأبناءهم في نصرته ، وأتي في معنى هذا بما يلوح له رونق ، ويعجب منه زبرج لو احتيج إليه ، وحقق ، لكنا قدمنا من بيان معجزة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وظهورها ما يغني عن ركوب بطون هذه المسالك ، وظهورها .
وبالله أستعين . وهو حسبي ، ونعم الوكيل .
الْفَصْلُ الثَّلَاثُونَ : تَذْيِيلٌ ، وَخَاتِمَةٌ
قَالَ
الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : قَدْ أَتَيْنَا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى نُكَتٍ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ وَاضِحَةٍ ، وَجُمَلٍ مِنْ عَلَامَاتِ نُبُوَّتِهِ مُقْنِعَةٍ ، فِي وَاحِدٍ مِنْهَا الْكِفَايَةُ ، وَالْغُنْيَةُ ، وَتَرَكْنَا الْكَثِيرَ سِوَى مَا ذَكَرْنَا ، وَاقْتَصَرْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الطِّوَالِ عَلَى عَيْنِ الْغَرَضِ ، وَفَصِّ الْمَقْصِدِ ، وَمِنْ كَثِيرِ الْأَحَادِيثِ ، وَغَرِيبِهَا عَلَى مَا صَحَّ ، وَاشْتَهَرَ إِلَّا يَسِيرًا مِنْ غَرِيبِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ مَشَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ ، وَحَذَفْنَا الْإِسْنَادَ فِي جُمْهُورِهَا ، طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ .
وَبِحَسْبِ هَذَا الْبَابِ لَوْ تُقُصِّيَ أَنْ يَكُونَ دِيوَانًا جَامِعًا يَشْتَمِلُ عَلَى مُجَلَّدَاتٍ عِدَّةٍ .
nindex.php?page=treesubj&link=28752_29402وَمُعْجِزَاتُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَظْهَرُ مِنْ سَائِرِ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ بِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : كَثْرَتُهَا ، وَأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ نَبِيٌّ مُعْجِزَةً إِلَّا وَعِنْدَ نَبِيِّنَا مِثْلُهَا ، أَوْ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهَا .
وَقَدْ نَبَّهَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ أَرَدْتَهُ فَتَأَمَّلْ فُصُولَ هَذَا الْبَابِ ، وَمُعْجِزَاتِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَقِفْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - .
وَأَمَّا كَوْنُهَا كَثِيرَةً فَهَذَا الْقُرْآنُ وَكُلُّهُ مُعْجِزٌ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28752وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ الْإِعْجَازُ فِيهِ عِنْدَ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ سُورَةُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [ الْكَوْثَرِ : 1 ] ، أَوْ آيَةٌ فِي قَدْرِهَا .
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْهُ كَيْفَ كَانَتْ مُعْجِزَةً .
وَزَادَ آخَرُونَ أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُنْتَظِمَةٍ مِنْهُ مُعْجِزَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ .
وَالْحَقُّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا ، لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ [ الْبَقَرَةِ : 23 ] ، فَهُوَ أَقَلُّ مَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ ، مَعَ مَا يَنْصُرُ هَذَا مِنْ نَظَرٍ ، وَتَحْقِيقٍ يَطُولُ بَسْطُهُ .
وَإِذَا كَانَ هَذَا فَفِي الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلِمَاتِ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ وَنَيِّفٍ ، عَلَى عَدَدِ بَعْضِهِمْ ، وَعَدَدِ كَلِمَاتِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [ الْكَوْثَرِ : 1 ] عَشْرُ كَلِمَاتٍ ، فَتُجْزِئُ الْقُرْآنَ عَلَى نِسْبَةِ عَدَدِ كَلِمَاتِ
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ أَزِيدُ مِنْ سَبْعَةِ آلَافِ جُزْءٍ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُعْجِزٌ فِي نَفْسِهِ .
ثُمَّ إِعْجَازُهُ كَمَا تَقَدَّمَ بِوَجْهَيْنِ : طَرِيقُ بَلَاغَتِهِ ، وَطَرِيقُ نَظْمِهِ ، فَصَارَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ مُعْجِزَتَانِ فَتَضَاعَفَ الْعَدَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
ثُمَّ فِيهِ وُجُوهُ إِعْجَازٍ أُخَرُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِعُلُومِ الْغَيْبِ ، فَقَدْ يَكُونُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ هَذِهِ التَّجْزِئَةِ الْخَبَرُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْغَيْبِ ، كُلُّ خَبَرٍ مِنْهَا بِنَفْسِهِ مُعْجِزٌ ، فَتَضَاعَفَ الْعَدَدُ كَرَّةً أُخْرَى .
ثُمَّ وُجُوهُ الْإِعْجَازِ الْأُخَرُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا
[ ص: 353 ] تُوجِبُ التَّضْعِيفَ ، هَذَا فِي حَقِّ الْقُرْآنِ فَلَا يَكَادُ يَأْخُذُ الْعَدُّ مُعْجِزَاتِهِ ، وَلَا يَحْوِي الْحَصْرُ بَرَاهِينَهُ .
ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ ، وَالْأَخْبَارُ الصَّادِرَةُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ ، وَعَمَّا دَلَّ عَلَى أَمْرِهِ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَى جُمَلِهِ يَبْلُغُ نَحْوًا مِنْ هَذَا .
الْوَجْهُ الثَّانِي : وُضُوحُ مُعْجِزَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَإِنَّ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ كَانَتْ بِقَدْرِ هِمَمِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ ، وَبِحَسْبِ الْفَنِّ الَّذِي سَمَا فِيهِ قَرْنُهُ .
فَلَمَّا كَانَ
مُوسَى غَايَةُ عِلْمِ أَهْلِهِ السِّحْرُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ
مُوسَى بِمُعْجِزَةٍ تُشْبِهُ مَا يَدَّعُونَ قُدْرَتَهُمْ عَلَيْهِ ، فَجَاءَهُمْ مِنْهَا مَا خَرَقَ عَادَتَهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِمْ ، وَأَبْطَلَ سِحْرَهُمْ .
وَكَذَلِكَ زَمَنُ
عِيسَى أَغْنَى مَا كَانَ الطِّبُّ ، وَأَوْفَرُ مَا كَانَ أَهْلُهُ ، فَجَاءَهُمْ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ، وَأَتَاهُمْ مَا لَمْ يَحْتَسِبُوهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ ، وَالْأَبْرَصِ دُونَ مُعَالَجَةٍ ، وَلَا طِبٍّ .
وَهَكَذَا سَائِرُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ .
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بَعَثَ
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَجُمْلَةُ مَعَارِفِ الْعَرَبِ ، وَعُلُومِهَا أَرْبَعَةٌ : الْبَلَاغَةُ ، وَالشِّعْرُ ، وَالْخَبَرُ ، وَالْكِهَانَةُ ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ
nindex.php?page=treesubj&link=28752_20759_32450الْقُرْآنَ الْخَارِقَ لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ ، فُصُولٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ ، وَالْإِيجَازِ ، وَالْبَلَاغَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ نَمَطِ كَلَامِهِمْ ، وَمِنَ النَّظْمِ الْغَرِيبِ ، وَالْأُسْلُوبِ الْعَجِيبِ الَّذِي لَمْ يَهْتَدُوا فِي الْمَنْظُومِ إِلَى طَرِيقِهِ ، وَلَا عَلِمُوا فِي أَسَالِيبِ الْأَوْزَانِ مَنْهَجَهُ ، وَمِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْكَوَائِنِ ، وَالْحَوَادِثِ ، وَالْأَسْرَارِ ، وَالْمُخَبَّآتِ ، وَالضَّمَائِرِ ، فَتُوجَدُ عَلَى مَا كَانَتْ ، وَيَعْتَرِفُ الْمُخْبَرُ عَنْهَا بِصِحَّةِ ذَلِكَ ، وَصِدْقِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَعْدَى الْعَدُوِّ .
فَأَبْطَلَ الْكِهَانَةَ الَّتِي تَصْدُقُ مَرَّةً ، وَتَكْذِبُ عَشْرًا ، ثُمَّ اجْتَثَّهَا مِنْ أَصْلِهَا بِرَجْمِ الشُّهُبِ ، وَرَصْدِ النُّجُومِ .
وَجَاءَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ ، وَأَنْبَاءِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ ، وَالْحَوَادِثِ الْمَاضِيَةِ مَا يَعْجِزُ مَنْ تَفَرَّغَ لِهَذَا الْعِلْمِ عَنْ بَعْضِهِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي بَسَطْنَاهَا ، وَبَيَّنَّا الْمُعْجِزَ فِيهَا .
ثُمَّ بَقِيَتْ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ الْجَامِعَةُ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ إِلَى الْفُصُولِ الْأُخَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ ثَابِتَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَيِّنَةَ الْحُجَّةِ لِكُلِّ أُمَّةٍ تَأْتِي ، لَا يَخْفَى وُجُوهُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ نَظَرَ فِيهِ ، وَتَأَمَّلَ وُجُوهَ إِعْجَازِهِ .
إِلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْغُيُوبِ عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ ، فَلَا يَمُرُّ عَصْرٌ ، وَلَا زَمَنٌ إِلَّا يَظْهَرُ فِيهِ صِدْقُهُ بِظُهُورِ مُخْبَرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ ، فَيَتَجَدَّدُ الْإِيمَانُ وَيَتَظَاهَرُ الْبُرْهَانُ ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ كَمَا قِيلَ .
وَلِلْمُشَاهَدَةِ زِيَادَةٌ فِي الْيَقِينِ ، وَالنَّفْسُ أَشُدُّ طُمَأْنِينَةً إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ مِنْهَا إِلَى عِلْمِ الْيَقِينِ ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ عِنْدَهَا حَقًّا .
وَسَائِرُ
nindex.php?page=treesubj&link=25029_18626مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ انْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِهِمْ ، وَعُدِمَتْ بِعَدَمِ ذَوَاتِهَا ، وَمُعْجِزَةُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَبِيدُ ، وَلَا تَنْقَطِعُ ، وَآيَاتُهُ تَتَجَدَّدُ ، وَلَا تَضْمَحِلُّ ، وَلِهَذَا أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِيمَا [ حَدَّثَنَا
الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ ، حَدَّثَنَا
الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ ، حَدَّثَنَا
أَبُو ذَرٍّ ، حَدَّثَنَا
أَبُو مُحَمَّدٍ ،
وَأَبُو إِسْحَاقَ ،
وَأَبُو الْهَيْثَمِ ، قَالُوا : حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=14898الْفَرَبْرِيُّ ، حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=15136عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ ، عَنْ
سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ] ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، عَنِ
[ ص: 354 ] النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989679مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ ، فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عَنْ بَعْضِهِمْ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَظُهُورِ مُعْجِزَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَعْنَى آخَرَ مِنْ ظُهُورِهَا بِكَوْنِهَا وَحْيًا ، وَكَلَامًا لَا يُمْكِنُ التَّخْيِيلُ فِيهِ ، وَلَا التَّخَيُّلُ عَلَيْهِ ، وَلَا التَّشْبِيهُ ، فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ قَدْ رَامَ الْمُعَانِدُونَ لَهَا بِأَشْيَاءَ طَمِعُوا فِي التَّخْيِيلِ بِهَا عَلَى الضُّعَفَاءِ كَإِلْقَاءِ السَّحَرَةِ حِبَالَهُمْ ، وَعِصِيَّهُمْ ، وَشِبْهُ هَذَا مِمَّا يُخَيِّلُهُ السَّاحِرُ ، أَوْ يَتَحَيَّلُ فِيهِ .
وَالْقُرْآنُ كَلَامٌ لَيْسَ لِلْحِيلَةِ ، وَلَا لِلسِّحْرِ ، وَلَا التَّخْيِيلِ فِيهِ عَمَلٌ ، فَكَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَهُمْ أَظْهَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ ، كَمَا لَا يَتِمُّ لِشَاعِرٍ ، وَلَا لِخَطِيبٍ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا ، أَوْ خَطِيبًا بِضَرْبٍ مِنَ الْحِيَلِ ، وَالتَّمْوِيهِ .
وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَخْلَصُ ، وَأَرْضَى .
وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ الثَّانِي مَا نُغَمِّضُ عَلَيْهِ الْجَفْنَ ، وَنُغْضِي .
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ بِالصِّرْفَةِ ، وَأَنَّ الْمُعَارَضَةَ كَانَتْ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ ، فَصُرِفُوا عَنْهَا ، أَوْ عَلَى أَحَدِ مَذْهَبَيْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْلُ ، وَلَا يَكُونُ بَعْدُ ، لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يُقَدِّرْهُمْ عَلَيْهِ .
وَبَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فَرْقٌ بَيِّنٌ ، وَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَتَتْرُكُ الْعَرَبُ الْإِتْيَانَ بِمَا فِي مَقْدُورِهِمْ ، أَوْ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ ، وَرِضَاهُمْ بِالْبَلَاءِ ، وَالْجَلَاءِ ، وَالسِّبَاءِ ، وَالْإِذْلَالِ ، وَتَغْيِيرِ الْحَالِ ، وَسَلْبِ النُّفُوسِ ، وَالْأَمْوَالِ ، وَالتَّقْرِيعِ ، وَالتَّوْبِيخِ ، وَالتَّعْجِيزِ ، وَالتَّهْدِيدِ ، وَالْوَعِيدِ أَبْيَنُ آيَةً لِلْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، وَالنُّكُولِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ ، وَأَنَّهُمْ مُنِعُوا عَنْ شَيْءٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=12441أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ ، وَغَيْرُهُ قَالَ : وَهَذَا عِنْدَنَا أَبْلَغُ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ بِالْأَفْعَالِ الْبَدِيعَةِ فِي أَنْفُسِهَا ، كَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً ، وَنَحْوِهَا ، فَإِنَّهُ قَدْ يَسْبِقُ إِلَى بَالِ النَّاظِرِ بِدَارًا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اخْتِصَاصِ صَاحِبِ ذَلِكَ بِمَزِيَّةِ مَعْرِفَةٍ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ ، وَفَضْلِ عِلْمٍ إِلَى أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ صَحِيحُ النَّظَرِ .
وَأَمَّا التَّحَدِّي لِلْخَلَائِقِ مِئِينَ مِنَ السِّنِينَ بِكَلَامٍ مِنْ
[ ص: 355 ] جِنْسِ كَلَامِهِمْ لِيَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَلَمْ يَأْتُوا ، فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ عَدِمِهَا إِلَّا أَنْ مَنَعَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَنْهَا بِمَثَابَةِ مَا لَوْ قَالَ نَبِيٌّ : آيَتِي أَنْ يَمْنَعَ اللَّهُ الْقِيَامَ عَنِ النَّاسِ مَعَ مَقْدِرَتِهِمْ عَلَيْهِ ، وَارْتِفَاعِ الزَّمَانَةِ عَنْهُمْ ، فَكَانَ ذَلِكَ ، وَعَجَّزَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنِ الْقِيَامِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَبْصَرِ آيَةٍ ، وَأَظْهَرِ دَلَالَةٍ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
وَقَدْ غَابَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَجْهُ ظُهُورِ آيَتِهِ عَلَى سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ ، حَتَّى احْتَاجَ لِلْعُذْرِ عَنْ ذَلِكَ بِدِقَّةِ أَفْهَامِ الْعَرَبِ ، وَذَكَاءِ أَلْبَابِهَا ، وَوُفُورِ عُقُولِهَا ، وَأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا الْمُعْجِزَةَ فِيهِ بِفِطْنَتِهِمْ ، وَجَاءَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِحَسْبِ إِدْرَاكِهِمْ ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ
الْقِبْطِ ،
وَبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَكُونُوا بِهَذِهِ السَّبِيلِ ، بَلْ كَانُوا مِنَ الْغَبَاوَةِ ، وَقِلَّةِ الْفِطْنَةِ بِحَيْثُ جَوَّزَ عَلَيْهِمْ
فِرْعَوْنُ أَنَّهُ رَبُّهُمْ ، وَجَوَّزَ عَلَيْهِمُ
السَّامِرِيُّ ذَلِكَ فِي الْعِجْلِ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ، وَعَبَدُوا
الْمَسِيحَ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى صَلْبِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=157وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [ النِّسَاءِ : 157 ] ، فَجَاءَتْهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ الْبَيِّنَةِ لِلْأَبْصَارِ بِقَدْرِ غِلَظِ أَفْهَامِهِمْ مَا لَا يَشُكُّونَ فِيهِ ، وَمَعَ هَذَا فَقَالُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=55لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ [ الْبَقَرَةِ : 55 ] . وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى الْمَنِّ ، وَالسَّلْوَى ، وَاسْتَبْدَلُوا الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ .
وَالْعَرَبُ عَلَى جَاهِلِيَّتِهَا أَكْثَرُهَا يَعْتَرِفُ بِالصَّانِعِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَتَقَرَّبُ بِالْأَصْنَامِ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى .
وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ مِنْ قَبْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلِيلِ عَقْلِهِ ، وَصَفَاءِ لُبِّهِ .
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ بِكِتَابِ اللَّهِ فَهِمُوا حِكْمَتَهُ ، وَتَبَيَّنُوا بِفَضْلِ إِدْرَاكِهِمْ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ مُعْجِزَتَهُ ، فَآمَنُوا بِهِ ، وَازْدَادُوا كُلَّ يَوْمٍ إِيمَانًا ، وَرَفَضُوا الدُّنْيَا كُلَّهَا فِي صُحْبَتِهِ ، وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ ، وَقَتَلُوا آبَاءَهُمْ ، وَأَبْنَاءَهُمْ فِي نُصْرَتِهِ ، وَأُتِيَ فِي مَعْنَى هَذَا بِمَا يَلُوحُ لَهُ رَوْنَقٌ ، وَيُعْجِبُ مِنْهُ زِبْرِجٌ لَوِ احْتِيجَ إِلَيْهِ ، وَحُقِّقَ ، لَكُنَّا قَدَّمْنَا مِنْ بَيَانِ مُعْجِزَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَظُهُورِهَا مَا يُغْنِي عَنْ رُكُوبِ بُطُونِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ ، وَظُهُورِهَا .
وَبِاللَّهِ أَسْتَعِينُ . وَهُوَ حَسْبِي ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .