الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى باب تعجيل الصدقة : ( كل مال وجبت فيه الزكاة بالحول والنصاب لم يجز تقديم زكاته قبل أن يملك النصاب ; لأنه لم يوجد سبب وجوبها فلم يجز تقديمها كأداء الثمن قبل البيع والدية قبل القتل ، وإن ملك النصاب جاز تقديم زكاته قبل الحول ; لما روى علي رضي الله عنه أن { العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعجل زكاة ماله قبل محلها ، فرخص له في ذلك } ; ولأنه حق مال أجل للرفق فجاز تعجيله قبل محله كالدين المؤجل ودية الخطأ ، وفي تعجيل زكاة عامين وجهان : قال أبو إسحاق : يجوز ; لما روى علي رضي الله عنه أن { النبي صلى الله عليه وسلم تسلف من العباس صدقة عامين } ; ولأن ما جاز فيه تعجيل حق العام منه جاز تعجيل حق العامين [ ص: 113 ] كدية الخطأ . ومن إصحابنا من قال : لا يجوز ; لأنها زكاة لم ينعقد حولها فلم يجز تقديمها كالزكاة قبل أن يملك النصاب ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : حديث علي رضي الله عنه رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بإسناد حسن ولفظه : " عن علي أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في { تعجيل صدقته قبل أن تحل ، فرخص له في ذلك } قال أبو داود : ورواه هشيم عن منصور بن زاذان عن الحكم عن الحسن بن مسلم التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني مرسلا قال : وهو أصح ، وفي رواية للترمذي : عن علي { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر : إنا قد أخذنا زكاة العباس عام أول للعام } قال الترمذي : والأول أصح من هذا . قال وقد روي الأول مرسلا يعني رواية الحسن بن مسلم وكذا قال الدارقطني : اختلفوا في وصله وإرساله ، قال : والصحيح الإرسال ، وقال الشافعي : ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أدري أيثبت أم لا ؟ " أنه تسلف صدقة العباس قبل أن تحل " قال البيهقي : يعني حديث علي هذا . وذكر البيهقي اختلاف طرقه ثم قال : وأصحها رواية الإرسال عن الحسن بن مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم روى البيهقي : تسلف صدقة عامين بإسناده عن أبي البختري عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنا كنا احتجنا فاستسلفنا العباس صدقة عامين } قال البيهقي : وهذا مرسل بين أبي البختري وعن علي رضي الله عنه واحتج البيهقي والأصحاب للتعجيل بحديث أبي هريرة قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه على الصدقة فقيل : منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله ، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدراعه واعتاده في سبيل الله ، وأما العباس فهو علي ومثلها معها ، ثم قال : يا عمر ، أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه . } رواه البخاري ومسلم ، والصنو - بكسر الصاد المهملة - : المثل ، وهذا لفظ رواية مسلم .

                                      واحتج الشافعي والأصحاب أيضا بحديث [ ص: 114 ] نافع " عن ابن عمر كان يعطيها للذين يقبلونها ، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين " رواه البخاري قال الترمذي : وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز تعجيل الزكاة . إذا عرفت هذا حصل الاستدلال على جواز التعجيل من مجموع ما ذكرنا ، وقد قدمنا في أول هذا الشرح أن الشافعي يحتج بالحديث المرسل إذا اعتضد بأحد أمور أربعة ، وهي أن يسند من جهة أخرى ، أو يرسل ، أو يقول بعض الصحابة أو أكثر العلماء به فمتى وجد واحد من هذه الأربعة جاز الاحتجاج به ، وقد وجد في هذا الحديث المذكور عن علي رضي الله عنه الأمور الأربعة فإنه روي في الصحيحين معناه من حديث أبي هريرة السابق وروي هو أيضا مرسلا ومتصلا كما سبق ، وقال به من الصحابة ابن عمر ، وقال به أكثر العلماء ، كما نقله الترمذي فحصلت الدلائل المتظاهرة على صحة الاحتجاج به . والله أعلم .

                                      ( أما أحكام الفصل ) فقال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : المال الزكوي ضربان : ( أحدهما ) متعلق بالحول ، والآخر غير متعلق ، وذكر المصنف النوع الأول في أول الباب ، والثاني في آخره ، ( أما ) الأول كزكاة الماشية والنقد والتجارة فلا يجوز تعجيل الزكاة فيه قبل ملك النصاب بلا خلاف ; لما ذكره المصنف ، ويجوز بعد ملك النصاب وانعقاد الحول ، وله التعجيل من أول الحول ولو بعد لحظة من انعقاده .

                                      وقال ابن المنذر : لا يجوز التعجيل مطلقا وحكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب والمحاملي في المجموع والبندنيجي وآخرون من أصحابنا وجها عن أبي عبيد بن حربويه من أصحابنا ، وهذا شاذ باطل مردود ، مخالف لنص الشافعي والأصحاب في جميع الطرق والدليل قال أصحابنا : وإنما يجوز التعجيل بعد تمام النصاب إن كانت الزكاة عينية ، فأما إذا اشترى عرضا للتجارة يساوي مائة درهم بمائة فعجل زكاة مائتين ، وحال الحول ، وهو يساوي مائتين ، فيجزئه المعجل عن الزكاة على الصحيح ; لأن الاعتبار في العروض بآخر الحول ، هكذا ذكره البغوي . ولو ملك أربعين شاة معلوفة فعجل شاة وهو عازم على إسامتها حولا ثم أسامها لم يقع المعجل زكاة بلا خلاف ; لأن المعلوف ليست مال زكاة ، فهو كما دون النصاب ، وإنما يصح التعجيل بعد انعقاد الحول ، [ ص: 115 ] ولا حول للمعلوفة بخلاف عرض التجارة في المسألة قبلها .



                                      ولو عجل صدقة عامين بعد انعقاد الحول أو أكثر من عامين فوجهان ذكرهما المصنف بدليليهما وهما مشهوران : ( أحدهما ) يجوز ; للحديث .

                                      ( والثاني ) لا يجوز ، وأجاب البغوي والأصحاب عن الحديث بأن المراد تسلف دفعتين ، في كل دفعة صدقة عام أو سنة ، واختلفوا في الأصح من هذين الوجهين ، فصححت طائفة الجواز وهو قول أبي إسحاق المروزي ، وممن صححه البندنيجي والغزالي في الوسيط والجرجاني والشاشي والعبدري ، وصحح البغوي وآخرون المنع ، قال الرافعي : صحح الأكثرون المنع ، ( فإذا قلنا ) بالجواز فاتفق أصحابنا على أنه لا فرق بين عامين وأكثر حتى لو عجل عشرة أعوام أو أكثر جاز على هذا الوجه ، بشرط أن يبقى بعد المعجل نصاب ، فلو كان له خمسون شاة فعجل عشرا منها لعشر سنين جاز ، فلو نقص المال بالتعجيل عن النصاب في الحول الثاني ، لم يجز التعجيل لغير العام الأول وجها واحدا ، هكذا قاله الجمهور ; لأن الحول الثاني لا ينعقد على نصاب ، وحكى البغوي والسرخسي وجها شاذا أنه لا يجوز ; لأن المعجل كالباقي على ملكه ، وإذا جوزنا صدقة عامين فهل يجوز أن ينوي تقديم زكاة السنة الثانية على الأولى ؟ فيه وجهان حكاهما أبو الفضل بن عبدان كتقديم الصلاة الثانية على الأولى إذا جمع في وقت الصلاة الثانية .




                                      الخدمات العلمية