الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة كما روينا من طريق الشافعي : أن ربيعة قال : من أفطر يوما من رمضان عامدا فعليه صيام اثني عشر يوما ، لأن الله عز وجل تخيره من اثني عشر شهرا قال الشافعي : يجب على هذا أن من ترك صلاة من ليلة القدر أن يقضي ثلاثين ألف صلاة لأن الله تعالى يقول : { ليلة القدر خير من ألف شهر } .

                                                                                                                                                                                          وقال الحنفيون ، والمالكيون ما نذكره إن شاء الله تعالى ، وهو أقوال لا تؤثر كما هي عن أحد من السلف - : فأما الشافعيون : فهم أقل الثلاث الطباق تناقضا ; وذلك أنهم قالوا : لا تجب الكفارة على مفطر عمدا في رمضان إلا على من جامع إنسانا ، أو بهيمة في فرج أو دبر ، فإن من فعل هذا تجب عليه الكفارة بالإيلاج ، أمنى أم لم يمن ; والكفارة عنده كما ذكرنا قبل من رواية الجمهور عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ير على المرأة الموطوءة كفارة في أشهر الأقوال عنه ، ولا على من تعمد الأكل ، والشرب ، أو غير ذلك ، ولم يجعل في كل ذلك إلا القضاء فقط فقاس الواطئ لامرأة محرمة عليه على واطئ امرأته ، وقاس من أتى ذكرا على من أتى امرأته ، وقاس من أتى بهيمة على من أتى أهله ، وليس شيء من ذلك في الخبر .

                                                                                                                                                                                          ولم يقس الآكل ، والشارب ، والمجامع دون الفرج فيمني والمرأة الموطوءة - : على الواطئ امرأته ، وهذا تناقض ؟ فإن قال أصحابه : قسنا الجماع على الجماع ، والأكل والشرب على المتعمد للقيء ؟ قلنا : فهلا قستم مجامع البهيمة على مجامع المرأة في إيجاب الحد ؟ كما قستموه [ ص: 323 ] عليه في إيجاب الكفارة ؟ وهلا قستم المرأة الموطوءة على الرجل الواطئ في إيجاب الكفارة ؟ فهو وطء واحد ، هما فيه معا ؟ وهلا قستم المجامع دون الفرج عامدا فيمني على المجامع في إيجاب الكفارة عليه ؟ فهذا أقرب إليه منه إلى الآكل ؟ وهذا تناقض قبيح في القياس جدا ؟ وأما المالكيون : فتناقضهم أشد ، وهو أنهم أوجبوا الكفارة ، والقضاء : على المفطر بالأكل أو الشرب ، وعلى من قبل فأمنى ; أو باشر فأمنى ; أو تابع النظر فأمنى ; وعلى من أكل ، أو شرب ، أو جامع شاكا في غروب الشمس فإذا بها لم تغرب ; وعلى من نوى الفطر في نهار رمضان وإن لم يأكل ولا شرب ، ولا جامع ، إذا نوى ذلك أكثر النهار ; وعلى المرأة تمس فرجها عامدة فتنزل ؟ ورأى على المرأة المكرهة على الجماع في نهار رمضان القضاء ، وأوجب على الواطئ لها الكفارة عن نفسه وكفارة أخرى عنها . وهذا عجب جدا ولم ير عليها إن أكرهها على الأكل والشرب كفارة ; ولا على التي جومعت نائمة ، ولا عليها ولا عليه عنها وهذا تناقض ناهيك به ولئن كانت الكفارة عليها فما يجزئ أن توجب الكفارة على غيرها ؟ ولئن لم تكن الكفارة عليها فأبعد من ذلك أن تجب على غيرها عنها ؟ وأبطلوا صيام من قبل فأنعظ ، أو أمذى ولم يمن أو باشر أو لمس فأمذى ولم يمن .

                                                                                                                                                                                          ومن - نظر إلى امرأة - غير عامد لذلك - وتابع النظر فأمذى ولم يمن ، أو نظر نظرة ولم يتابع النظر فأمنى ، ومن تمضمض في صيام نهار رمضان فدخل الماء حلقه عن غير تعمد ، ومن أكل ناسيا أو وطئ ناسيا ، أو كان ذلك وهو لا يوقن بطلوع الفجر فإذا بالفجر قد طلع ، أو كان ذلك وهو يرى أن الشمس قد غربت فإذا بها لم تغرب ، ومن أكل شاكا في طلوع الفجر ثم لم يوقن بأنه طلع ولا أنه لم يطلع ، ومن أقام مجنونا يوما من رمضان أو أياما ، أو رمضان كله ، أو عدة شهور رمضان من عدة سنين ، ومن أغمي عليه أكثر النهار ، ومن أغمي عليه أياما من رمضان ، والمرضع تخاف على رضيعها ; والمرأة تجامع نائمة ، والمكره على الأكل والشرب ، ومن صب في - حلقه ماء وهو نائم ، ومن احتقن ، ومن اكتحل بكحل فيه عقاقير ، ومن بلع حصاة .

                                                                                                                                                                                          وأوجبوا على كل من ذكرنا القضاء ، ولم يروا في شيء من ذلك كفارة . [ ص: 324 ] وهذا تناقض لا وجه له أصلا ، لا من قرآن ، ولا من سنة .

                                                                                                                                                                                          ولا من رواية فاسدة ، ولا من إجماع ، ولا من قول صاحب ، أو تابع ، ولا من قياس ، ولا من رأي له وجه ; ولا يعرف هذا التقسيم عن أحد قبله ؟ وقد رأينا بعض مقلديه يوجبون على طحاني الدقيق ، والحناء ومغربلي الكتان والحبوب - : القضاء ، ويبطلون صومهم ، ولا يوجبون عليهم في تعمد ذلك كفارة ويدعون أن هذا قياس قول مالك وهذا تخليط لا نظير له ويلزمهم إبطال صوم كل من سافر فمشى في غبرة على هذا ؟ ولم يبطل صوم من قبل أو باشر فلم ينعظ ولا أمذى ولا أمنى ، ولا صوم من أمنى من نظر ولا لمس ، ولا صوم تطوع بدخول الماء في حلق فاعله من المضمضة ، ولا صوم متطوع صب الماء في حلقه وهو نائم وهذا عجب جدا أن يكون أمر واحد يبطل صوم الفرض ولا يبطل صوم التطوع ؟ ولم يبطل صوم من جن ، أو أغمي عليه أقل النهار ، وهذا عجب آخر ؟ ولم يبطل صوم من نام النهار كله ، وهذا عجب زائد ؟ ولا ندري قوله فيمن نوى الفطر أقل النهار : أيرى عليه القضاء ويبطل صومه بذلك ؟ أم يرى صومه تاما ؟ إلا أنه لا يرى فيه كفارة بلا شك ؟ ولم يبطل الصوم بالفتائل تتدخل لدواء ، ولا نقف الآن على قوله في السعوط والتقطير في الأذن ؟ ولم يبطل الصوم بكحل في العين لا عقاقير فيه ، ولا بمن تعمد بلع ما يخرجه من بين أضراسه من الجذيذة ونحوها ، ولا بمضغ العلك ، وإن استدعى الريق ، وكرهه ؟ قال أبو محمد : إن كان لا يبطل الصوم فلم كرهه ؟ وهذه أقوال لا نحتاج من إبطالها إلى أكثر من إيرادها ؟ وأما الحنفيون فأفسد الطباق أقوالا ، وأسمجها تناقضا وأبعدها عن المعقول ؟ [ ص: 325 ] وهو أن أبا حنيفة أوجب الكفارة والقضاء على من وطئ في الفرج - خاصة - امرأة ، حلالا له أو حراما وعلى المرأة عن نفسها ، وعلى من أكل ما يغتذي به ، أو شرب ما يتغذى به ، أو بلع لوزة خضراء ، أو أكل طينا إرمينيا خاصة .

                                                                                                                                                                                          وأبطل صوم من لاط بإنسان في دبره فأمنى ، أو ببهيمة في قبل أو دبر فأمنى ، ومن بقي إلى بعد الزوال لا ينوي صوما ، ومن قبل ذاكرا لصومه فأمنى ، ومن لمس كذلك فأمنى ، أو جامع كذلك دون الفرج فأمنى ، ومن تمضمض فدخل الماء في حلقه وهو ذاكر لصومه ، ومن أكل ، أو شرب ، [ أو جامع ] بعد طلوع الفجر وهو غير عالم بطلوعه ثم علم ، ومن فعل شيئا من ذلك وهو يرى أن الشمس قد غربت فإذا بها لم تغرب ، ومن جن في يوم من رمضان ، أو أياما ، أو الشهر كله إلا ساعة واحدة منه ، ومن أغمي عليه بعد ما دخل رمضان ، حاشا يوم الليلة التي أغمي عليه فيها ، والمرضع تخاف على رضيعها ، ومن أصبح صائما في السفر ثم جامع ، أو أكل ، أو شرب عامدا ذاكرا ، ومن جامع ، أو أكل ، أو شرب عمدا ثم مرض من نهاره ذلك ، أو حاضت إن كانت امرأة ، ومن أصبح في رمضان لا ينوي صوما ثم أكل ، أو شرب ، أو جامع في صدر النهار ، أو في آخره ، والمرأة تجامع وهي نائمة ، أو مجنونة ، أو مكرهة ومن احتقن أو استعط أو قطر في أذنه قطورا ؟ واختلف قوله فيمن قطر في إحليله قطورا ، فمرة أبطل صومه ، ومرة لم يبطله ؟ وأبطل صوم من داوى جائفة به أو مأمومة بدواء رطب ، وإلا فلا ؟ وأبطل صوم من بلع حصاة عامدا ، أو بلع جوزة رطبة أو يابسة ، أو لوزة يابسة ، ومن رفع رأسه إلى السماء فوقع نقط من المطر في حلقه ؟ وأوجبوا في كل ذلك القضاء ولم يروا في شيء من ذلك كفارة .

                                                                                                                                                                                          ولم يبطلوا صوم من لاط بذكر فأولج إلا أنه لم ينزل ولا صوم من أتى بهيمة في قبل أو دبر إلا أنه لم ينزل ولا صوم من أولج في دبر امرأة إلا أنه لم ينزل ورأوا صومه في كل ذلك تاما صحيحا لا قضاء فيه ولا كفارة [ ص: 326 ] ولم يبطلوا صوم من اكتحل بعقاقير أو بغيرها ، وصل إلى الحلق أو لم يصل ، ولا صوم من تابع النظر إلى فرج امرأة فأمنى ; ولا صوم من قبل أو باشر فأمذى ولم يمن ، ولا صوم من أكل ناسيا ، أو جامع ناسيا ، أو شرب ناسيا ، ولا صوم من جامع أو شرب ، أو أكل شاكا في الفجر ما لم يتبين أنه أكل بعد الفجر ، أو جامع بعده ، أو شرب بعده .

                                                                                                                                                                                          ومنع للقادم من سفر فوجد امرأته قد طهرت من حيضها أن يجامعها " فليت شعري : إن كانا صائمين ، فهلا أوجب عليهما الكفارة ؟ وإن كانا غير صائمين ، فلم منعهما ؟ ولا أبطل صوم من أخرج من بين أسنانه طعاما - أقل من حمصة - فبلعه عامدا ذاكرا لصومه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فمن أعجب شأنا ، أو أقبح قولا ممن يرى اللياطة . وإتيان البهيمة عمدا في نهار رمضان لا ينقض الصوم ؟ ويرى أن من قبل امرأته التي أباح الله تعالى له تقبيلها وهو صائم فأمنى فقد بطل صومه أو ممن فرق بين أكل ما يغذي وما لا يغذي ؟ ولا ندري من أين وقع لهم هذا ؟ وممن رأى أن من قبل زانية أو ذكرا أو باشرهما في نهار رمضان فلم ينعظ ، ولا أمذى : أن صومه صحيح تام لا داخلة فيه ؟ ومن قبل امرأته التي أباح الله تعالى له تقبيلها وهو صائم فأنعظ : أن صومه قد بطل ; ومن يرى على من أكل ناسيا القضاء ويبطل صومه ؟ ويرى أن من أكل متعمدا ما يخرج من بين أضراسه من طعامه أن صومه تام ؟ فهل في العجب أكثر من هذا ؟ والعجب كله في إيجابهم الكفارة على بعض من أفطر من غير المجامع قياسا على المجامع ، ثم إسقاطهم الكفارة عن بعض من أفطر من غير المجامع وكلاهما مفطر ، [ ص: 327 ] وتركوا القياس في ذلك ولم يلتزموا النص وأوجبوا الكفارة على المكرهة على الوطء ، وهي غير عاصية بذلك ، وأسقطوها عن المتعمد للقبل فيمذي وهو عاص ؟ فإن قال : ليس عاصيا ؟ قلنا : فالذي قبل فأمنى إذن ليس عاصيا ، فلم أوجبتموها عليه ؟ وهذه تخاليط لا نظير لها ولا متعلق لهم أصلا بشيء من الأخبار ; لأنهم فرقوا بين المفرطين في الحكم فلم يأخذوا برواية من روى { أن رجلا أفطر فأمره النبي عليه السلام بالكفارة } ولا برواية من روي { أن رجلا وقع على امرأته وهو صائم فأمره النبي عليه السلام بالكفارة } ، فيقتصروا عليه ، ولا قاسوا عليه كل مفطر ؟ وأسقطوا الكفارة عمن تعمد الفطر في قضاء رمضان ، وفي صوم نذر ، وفي شهري الكفارة ، وقد صح عن قتادة إيجاب الكفارة في قضاء رمضان إذا أفطر فيه عامدا ، وتركوا هاهنا القياس ; لأنه صوم فرض ، وصوم فرض ، وتعمد فطر ، وتعمد فطر ؟ فإن قيل : فمن أين أسقطتم الكفارة عمن وطئ امرأة محرمة عليه في الفرج ؟ وعن المرأة الموطوءة بإكراه أو بمطاوعة ؟ قلنا : لأن النص لم يرد إلا فيمن وطئ امرأته ، ولا يطلق على من وطئها في غير الفرج اسم واطئ ، ولا اسم مواقع ، ولا اسم مجامع ، ولا أنه وطئها ; ولا أنه وقع عليها ، ولا أنه جامعها ، إلا حتى يضاف إلى ذلك صلة البيان ، فإيجاب الكفارة على غير من ذكرنا مخالف للسنة وتعدي لحدود الله تعالى في ذلك ، وإيجاب ما لم يوجبه ؟ وأما المرأة فموطوءة ، والموطوءة غير الواطئ ، فالأمر في سقوط الكفارة عنها على كل حال أوضح من كل واضح ؟ وأيضا : فإن واطئ الحرام لا يصل إلى الوطء إلا بعد قصد إلى ذلك بكلام أو بطش ولا بد ; وكلا الأمرين معصية تبطل الصوم فلم يجامع إلا وصومه قد بطل - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : فإنكم توجبونها على من وطئ امرأته أو أمته وهما حائضان ؟ [ ص: 328 ] قلنا : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجبها على من وطئ امرأته جملة ، ولم يسأله : أحائضا هي أم غير حائض ؟

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية