الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : ( وإذا استصنع الرجل عند الرجل خفين أو قلنسوة أو طستا أو كوزا أو آنية من أواني النحاس فالقياس أن لا يجوز ذلك ) لأن المستصنع فيه مبيع وهو معدوم وبيع المعدوم لا يجوز لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ثم هذا في حكم بيع العين ولو كان موجودا غير مملوك للعاقد لم يجز بيعه فكذلك إذا كان معدوما بل أولى ولكنا نقول نحن تركنا القياس لتعامل الناس في ذلك فإنهم تعاملوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر وتعامل الناس من غير نكير أصل من الأصول كبير لقوله صلى الله عليه وسلم { ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن } وقال : صلى الله عليه وسلم { لا تجتمع أمتي على ضلالة } [ ص: 139 ] وهو نظير دخول الحمام بأجر فإنه جائز لتعامل الناس وإن كان مقدار المكث فيه وما يصب من الماء مجهولا وكذلك شرب الماء من السقا بفلس والحجامة بأجر جائز لتعامل الناس وإن لم يكن له مقدار فما يشترط أن يصنع من الكنة على ظهره غير معلوم وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم { استصنع خاتما واستصنع المنبر } فإذا ثبت هذا يترك كل قياس في مقابلته وكان الحاكم الشهيد يقول : الاستصناع مواعدة وإنما ينعقد العقد بالتعاطي إذا جاء به مفروغا عنه ولهذا ثبت فيه الخيار لكل واحد منهما والأصح أنه معاقدة فإنه أجرى فيه القياس والاستحسان والمواعيد تجوز قياسا واستحسانا ثم كان أبو سعيد البردعي يقول المعقود عليه هو العمل لأن الاستصناع اشتغال من الصنع وهو العمل فتسمية العقد به دليل على أنه هو المعقود عليه والأديم والصرم فيه بمنزلة الآلة للعمل

والأصح أن المعقود عليه المستصنع فيه وذكر الصنعة لبيان الوصف فإن المعقود هو المستصنع فيه ألا ترى أنه لو جاء به مفروغا عنه لا من صنعته أو من صنعته قبل العقد فأخذه كان جائزا والدليل عليه أن محمدا قال : إذا جاء به مفروغا عنه فللمستصنع الخيار لأنه اشترى شيئا لم يره وخيار الرؤية إنما يثبت في بيع العين فعرفنا أن المبيع هو المستصنع فيه قال : ( وإذا عمله الصانع فقبل أن يراه المستصنع باعه يجوز بيعه من غيره ) لأن العقد لم يتعين في هذا بعد ولكن إذا أحضره ورآه المستصنع فهو بالخيار لأنه اشترى ما لم يره وقال : صلى الله عليه وسلم { من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه } وعن أبي يوسف قال : إذا جاء به كما وصفه له فلا خيار للمستصنع استحسانا لدفع الضرر عن الصانع في إفساد أديمه وآلاته فربما لا يرغب غيره في شرائه على تلك الصفة فلدفع الضرر عنه قلنا بأنه لا يثبت له الخيار وفرق في ظاهر الرواية بين هذا والسلم ، وقال : لا فائدة في إثبات الخيار في السلم لأن المسلم فيه دين في الذمة وإذا رد المقبوض عاد دينا كما كان وهنا إثبات الخيار مقيد لأنه مبيع عين فبرده ينفسخ العقد ويعود إليه رأس ماله ويوضح الفرق أن إعلام الدين بذكر الصفة إذ لا يتصور فيه المعاينة فقام ذكر الوصف في المسلم فيه مقام الرؤية في بيع العين فأما إعلام العين فتمامه بالرؤية والمستصنع فيه مبيع عين فلهذا يثبت فيه خيار الرؤية

قال : ( فإن ضرب لذلك أجلا وكانت تلك الصناعة معروفة فهو سلم ) في قول أبي حنيفة تعتبر فيه شرائط السلم من قبض رأس المال في المجلس ولا خيار فيه لرب السلم إذا أحضره المسلم إليه وهو عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى استصناع على حاله لأنه بدون ذكر الأجل عقد [ ص: 140 ] جائز غير لازم فبذكر الأجل فيه لا يصير لازما لعقد الشركة والمضاربة وهذا لأن ذكر الأجل تيسر فيه وتأخير المطالبة فلا يتغير به العقد من جنس إلى جنس آخر ولو كان الاستصناع بذكر الأجل فيه يصير سلما لصار السلم بحذف الأجل منه استصناعا ولو كان هذا سلما فاسدا لأنه شرط فيه صنعة صانع بعينه وذلك مفسد للسلم وأبو حنيفة يقول هذا مبيع دين والمبيع الدين لا يكون إلا سلما كما لو ذكر لفظة السلم وبيانه ما ذكرنا أن المستصنع فيه مبيع والأجل لا يثبت إلا في الديون فلما ثبت فيه الأجل هنا عرفنا أنه مبيع دين فتأثيره أن المعتبر ما هو المقصود وبه يختلف العقد لا باعتبار اللفظ ألا ترى أنه لو قال : ملكتك هذه العين بعشرة دراهم كان بيعا

ولو قال : بسكنى هذه الدار شهرا كانت إجارة فعرفنا أن المعتبر ما هو المقصود ثم السلم أقرب إلى الجواز من الاستصناع فإن كل واحد منهما مستحسن ولكن الآثار في السلم مشهورة وهو جائز فيما للناس فيه تعامل وفيما لا تعامل فيه فكان الأصل فيما قصداه السلم إلا إذا تعذر جعله سلما بأن لم يذكرا فيه أجلا فحينئذ جعل استصناعا فأما إذا أمكن جعله سلما بأن ذكر الأجل يجعل سلما ولأن الأجل مؤخر للمطالبة ولا يكون ذلك إلا بعد لزوم العقد واللزوم في السلم دون الاستصناع فثبوت الأجل فيه دليل على أنه سلم وذكر الصنعة لبيان وصف المسلم فيه ولهذا لو جاء به مفروغا عنه لا من صنعته يجبر على القبول وبهذا تبين فساد قولهم أنه سلم شرط فيه صنعة صانع بعينه وما قالا بأن السلم بحذف الأجل لا يصير استصناعا يشكل بالمتعة فإنه لا يصير نكاحا بحذف المدة عنه ثم النكاح بذكر المدة فيه يصير متعة وهو إذا تزوج امرأة شهرا وهذا إذا كان ذكر المدة على سبيل الاستمهال أما إذا كان على سبيل الاستعجال بأن قال : على أن يفرغ منه غدا أو بعد غد فهذا لا يكون سلما لأن ذكر المدة للفراغ من العمل لا لتأخير المطالبة بالتسليم ألا ترى أنه ذكر أدنى مدة يمكنه الفراغ فيها من العمل ويحكى عن الهندواني . قال : إن كان ذكر المدة من قبل المستصنع فهو للاستعجال ولا يصير به سلما وإن كان الصانع هو الذي ذكر المدة فهو سلم لأنه يذكر على سبيل الاستمهال وقيل إن ذكر أدنى مدة يتمكن فيها من الفراغ من العمل فهو استصناع وإن كان أكثر من ذلك فهو سلم لأن ذلك يختلف باختلاف الأعمال فلا يمكن تقديره بشيء معلوم

التالي السابق


الخدمات العلمية