الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( لا بمتغير لونا أو طعما أو ريحا بما يفارقه غالبا من طاهر أو نجس كدهن خالطه أو بخار مصطكى وحكمه كمغيره )

                                                                                                                            ش : هذا معطوف على قوله بالمطلق والمعنى أن الحدث وحكم الخبث يرتفع بالماء المطلق ولا يرتفع شيء من ذلك إلا بالماء المتغير سواء كان تغيره في اللون أو في الطعم أو في الريح إذا كان المغير للماء ينفك عنه الماء غالبا وسواء كان ذلك المغير طاهرا أو نجسا وذلك كالدهن الذي يخالط الماء أي يمازجه وكاللبن [ ص: 59 ] والزعفران والخل وغير ذلك وكالماء المتغير طاهرا أو نجسا وذلك كالدهن الذي يخالط ببخار المصطكى ونحوها وإذا تغير الماء بما ذكرنا فحكمه حكم الشيء الذي غيره فإن كان ذلك الشيء طاهرا فالماء طاهر غير مطهر فيستعمل في العادات كالشرب والطبخ والعجن وغسل الثياب من الوسخ ولا يرفع الحدث ولا حكم الخبث وإن كان ذلك الشيء الذي غير الماء نجسا فالماء نجس لا يستعمل لا في العادات ولا في العبادات ويجوز أن يسقى به الزرع وأن يسقى للماشية ويصير بولها وروثها نجسا كما سيأتي بيانه عند قول المصنف وينتفع بمتنجس لا نجس وقوله أو نجس يصح أن يقرأ بفتح الجيم فيكون المراد عين النجاسة قال النووي النجس بفتح الجيم عين النجاسة كالبول ونحوه ويصح أن يقرأ بكسرها فيكون المراد به الشيء المتنجس ويدخل في ذلك عين النجاسة من باب أولى .

                                                                                                                            وخصص المتغير بالدهن المخالط والمتغير ببخار المصطكى بالذكر لنكتة أما الأول فلينبه بذلك على مفهوم قوله وإن بدهن لاصق إذ لا خلاف في أن الماء المتغير بمخالطة الأدهان غير طهور وقول الشارح في الكبير والوسط أن هذا هو المعروف من المذهب يوهم أن في ذلك خلافا وليس ذلك مراد الشارح وإنما أراد الرد على ظاهر إطلاق قول ابن الحاجب أن المتغير بالدهن طهور وقد تقدم بيان ذلك وحمل المصنف وغيره له على الدهن الملاصق وعبارات الشارح في الصغير أحسن منه قال وهذا هو المذهب والله أعلم وأما المتغير ببخار المصطكى فلينبه على الراجح من الخلاف الذي بين المتأخرين فيه قال في التوضيح وحكى المازري في المبخر بالمصطكى وغيرها قولين للمتأخرين بناهما على أنه مجاور فلا يسلب الطهورية أو مخالط فيسلب والظاهر أنه مخالط ولم يحك اللخمي غيره انتهى كلام التوضيح وقال ابن عرفة : جزم اللخمي بإضافته صواب وقال الشارح في الكبير وهذا الخلاف جار في المبخر بالعود وغيره حكاه الأشياخ المتأخرون انتهى .

                                                                                                                            وهذا مفهوم من كلام التوضيح وقيده البساطي في المغني بالتغيير البين فقال إذا بخر الإناء وظهر أثره في الإناء ظهورا بينا فإنه يسلب وظاهر كلام غيره الإطلاق ولعل مراده بالبين أن يدرك التغير فيه والمصطكى بفتح الميم وضمها وبالصاد المهملة وبمد مع الفتح قاله في القاموس ولو قال أو بخار كمصطكى لكان أوضح وأشمل .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) ظاهر كلام المصنف أنه إذا تغير أحد أوصاف الماء بما ينفك عنه سلبه ذلك التغير الطهورية سواء كان التغير ظاهرا أو خفيا وهذا هو المعروف في المذهب إلا ما نبه المصنف على أنه إنما يضر فيه التغير البين كما سيأتي وذلك مما يبين أنه أراد الإطلاق في كلامه هنا وحكى ابن فرحون وصاحب الجمع قولا باغتفار التغير اليسير وقال ابن هارون إنه غير معروف في المذهب وقال ابن فرحون ذكر الإبياني في سفينته أن خفي التغير معفو عنه من جهة الشارع وذلك أن أواني العرب لا تنفك من طعم يسير أو رائحة يسيرة وكانوا لا يتحرجون عن استعمالها انتهى وحكى صاحب الجمع عن ابن هارون أن بعضهم عزى القول بالتفصيل بين التغير اليسير والكثير للمذهب قال ابن هارون وهذا يحمل عندي على ما تغير بما لا ينفك عنه غالبا لا على أن التغير اليسير مغتفر لأن ذلك غير معروف في المذهب .

                                                                                                                            ( قلت ) : وما قاله ابن هارون هو الذي يقتضيه كلام أهل المذهب ولم ينقل صاحب الطراز التفريق بين التغير اليسير والكثير إلا عن الشافعية وأما ما استدل به الإبياني من مسألة أواني العرب فلا دليل فيه لأن ذلك بمنزلة ما لا ينفك عنه الماء غالبا كما تقدم عن ابن راشد وفي كلام ابن هارون المتقدم هنا إشارة إلى ذلك وذكر الوانوغي في حاشيته على تعليقة أبي عمران في الإناء يصب منه الودك أو الزيت ثم يصب فيه الماء فتعلوه شيابة هل يتوضأ به ؟ [ ص: 60 ] فقال : أما اليسير فلا يضر انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) : وهذا كله فيما تغير بطاهر وأما ما تغير بنجس فلا فرق فيه بين التغير اليسير والفاحش قليلا كان الماء أو كثيرا جاريا أو راكدا وحكى النووي في شرح المهذب الإجماع على ذلك قال وسواء تغير لونه أو طعمه أو ريحه .

                                                                                                                            ( قلت ) : في حكاية الإجماع على ما تغير ريحه فقط نظر لما سيأتي عن ابن الماجشون ، ( الثاني ) ظاهر كلام المصنف أيضا أنه لا فرق بين كون أجزاء الماء أكثر من أجزاء المخالط أو عكس ذلك وهذا هو المعروف في المذهب وحكى اللخمي فيما إذا كانت أجزاء المخالط الطاهر المغير للماء أقل من أجزاء الماء قولين قال : والمعروف من المذهب أنه غير طهور وروي عن مالك أنه مطهر وإن تركه مع وجود غيره استحسان وأخذ ذلك من الرواية التي في مسألة الغدير بتغير بروث الماشية ومثله البئر إذا تغير بورق الشجر كما سيأتي بيانه ورد عليه صاحب الطراز وقال : إن ذلك فاسد وإنما تردد فيه مالك لاشتباه الأمر فيه هل يمكن الاحتراز منه أم لا ونحوه الباجي كما سيأتي وتبع ابن رشد في نوازله اللخمي فيما ذكره فقال : وإن كان ما انضاف إلى الماء من الأشياء الطاهرة ليس هو الغالب إلا أنه غير أوصاف الماء أو بعضها فالمشهور في المذهب المعلوم من قول مالك وأصحابه أنه غير مطهر ولا يجوز الغسل ولا الوضوء به ولا يرفع حكم النجاسة من ثوب ولا بدن وقد روي عن مالك أنه قال : ما يعجبني أن يتوضأ به من غير أن أحرمه فاتقاه من غير تحريم انتهى فتأمله .

                                                                                                                            ونقل ابن عرفة كلام اللخمي وابن رشد بعبارة توهم التسوية بين القولين وسيأتي لفظه في الكلام على مسألة الغدير والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثالث ) علم من كلام المصنف أن المعتبر في سلب الطهورية إنما هو تغير أحد أوصاف الماء لا مجرد مخالطة الماء لغيره فلو وقع في الماء جلد أو ثوب وأخرج ولم يتغير الماء لم يضره وقاله في المدونة قال في الطراز وكذلك لو غمس فيه خبز وأخرج في الحين أو بل فيه شيء من الحبوب ولم يغيره قال : والعلة تغير أحد أوصاف الماء انتهى مختصرا . وهذا هو المعروف في المذهب وحكي في الطراز عن أصبغ أنه لا يتوضأ بماء بل فيه شيء من الطعام أو غسل به ثوب طاهر أو توضئ به سواء تغير الماء أو لم يتغير فإن توضأ به وصلى أعاد أبدا ذكره في باب أحكام المياه في موضعين .

                                                                                                                            ( الرابع ) ما ذكره المصنف من اعتبار تغير الرائحة هو المشهور في المذهب كما صرح به ابن عرفة وغيره وقال ابن الماجشون : إن تغير الريح غير معتبر قال ابن ناجي في شرح المدونة : وهو ظاهر المدونة يعني حيث لم يذكر فيها تغير الريح وهو ظاهر الرسالة أيضا فإنه لم يذكر فيها تغير الريح وذكر ابن عرفة عن ابن رشد قولا ثالثا يفرق فيه بين التغير الشديد والخفيف وعزاه لسحنون أخذا من قوله من توضأ بماء تغير بما حل فيه تغيرا شديدا أعاد أبدا قال ابن ناجي في شرح الرسالة وهذا الكلام يتناول الطعم واللون إذ ليس في كلام سحنون ما يدل على خصوصية الريح انتهى . قال ابن عرفة : وقول ابن رشد أن ابن الماجشون ألغى تغير الريح مطلقا يناقض قوله في موضع آخر إذا أنتن الماء واشتدت رائحته فنجس اتفاقا انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) : كلام ابن رشد الثاني في أواخر سماع أشهب من كتاب الوضوء قال ابن عرفة : وقول عياض أجمعوا على نجاسة ما غير ريحه نجاسة بعيد انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) : هذا نحو كلام النووي المتقدم واستشكل بعض أشياخ ابن بشير قول ابن الماجشون حتى حمل قوله على التغير بالمجاورة وتبعه على ذلك خلق كثير منهم ابن الحاجب فقال : ولعله قصد التغير بالمجاورة قال ابن الإمام : وهذه غلطة عظيمة فقد حكى عنه أبو زيد في الثمانية أن وقوع الميتة في البئر لا يضر وإن تغيرت رائحته حتى يتغير لونه أو طعمه وصرح اللخمي والمازري بأن خلافه مع تغير الرائحة بما حل في الماء وخالطه انتهى . وذكر المصنف نحو هذا في التوضيح والله أعلم .

                                                                                                                            ( الخامس ) إذا وقع في الماء نجاسة ولم [ ص: 61 ] تغيره ثم حل فيه ما هو طاهر كاللبن ونحوه فغيره فهو طاهر على المستحسن من المذهب وإن تقدمت الإضافة ثم حلت فيه نجاسة كان نجسا لأن الماء المضاف والمائعات لا تدفع عن نفسها قاله اللخمي ونقله البساطي في المغني والشبيبي في شرح الرسالة ولم يذكروا فيه خلافا وكأنه أراد بأول كلامه الماء اليسير إذا حلته نجاسة ولم تغيره فلذلك قال على المستحسن من المذهب وأما لو كان الماء كثيرا فإنه طاهر بلا خلاف والله أعلم .

                                                                                                                            ( السادس ) قال في التوضيح لما ذكر أن حكم الماء حكم ما غيره فإن كان نجسا فالماء نجس وإن كان المغير طاهرا فالماء طاهر غير مطهر ما نصه وانظر إذا خالطه مشكوك فيه انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) : والذي يظهر أنه طاهر لأنه سيأتي أنه إذا شك في نجاسة المصيب لا يجب غسله ولا ينضح فيكون الماء طاهرا غير مطهر لأن الفرض أنه تغير بما وقع فيه إلا أن يشك أيضا في المغير هل هو مما يسلبه الطهورية أم لا فيحمل على أنه طاهر مطهر كما تقدم والله أعلم .

                                                                                                                            ( السابع ) قال في المدونة : قال ابن وهب عن مالك في رجل أصابته السماء حتى استنقع من المطر شيء قليل فليتوضأ منه وإن جف تيمم به وإن خاف أن يكون فيه زبل فلا بأس به قال ابن ناجي هذا في الفلوات وأما في طرق المدن فلا لأن الغالب عليها النجاسة انتهى

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية