الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : إنا أنزلنا إليك الكتاب الآيات

                                                                                                                                                                                                                                      . أخرج الترمذي، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، [ ص: 678 ] والحاكم وصححه عن قتادة بن النعمان قال : كان أهل بيت منا يقال لهم : بنو أبيرق : بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول : قال فلان كذا وكذا، قال فلان كذا وكذا، وإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث . فقال :


                                                                                                                                                                                                                                      أوكلما قال الرجال قصيدة أضموا فقالوا ابن الأبيرق قالها



                                                                                                                                                                                                                                      وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، وأما العيال فإنما طعامهم الشعير، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح له؛ درعان وسيفاهما وما يصلحهما، فعدا عدي من تحت الليل، فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي، تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بطعامنا وسلاحنا . قال : [ ص: 679 ] فتجسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا : ونحن نسأل في الدار : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام، فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق وقال : أنا أسرق؟ فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا : إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها . فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي : يا ابن أخي، لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له . قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله، إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سأنظر في ذلك» فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت، قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال : «عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت» قال قتادة : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الله المستعان . فلم نلبث أن نزل القرآن : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما بني أبيرق، [ ص: 680 ] واستغفر الله أي مما قلت لقتادة ، إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إلى قوله : ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما أي : أنهم لو استغفروا الله لغفر لهم ومن يكسب إثما إلى قوله : فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا قولهم للبيد، ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك يعني أسير بن عروة وأصحابه . إلى قوله : فسيؤتيه أجرا عظيما ، فلما نزل القرآن أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة، قال قتادة : فلما أتيت عمي بالسلاح - وكان شيخا قد عسا في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا، فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي، هو في سبيل الله . فعرفت أن إسلامه كان صحيحا، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد، فأنزل الله : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى إلى قوله : ضلالا بعيدا فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمت به في الأبطح ثم قالت : أهديت لي شعر حسان! ما كنت تأتيني بخير .


                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن سعد عن محمود بن لبيد قال : عدا بشير بن الحارث على علية [ ص: 681 ] رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان الظفري، فنقبها من ظهرها، وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما، فأتى قتادة بن النعمان النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فدعا بشيرا فسأله، فأنكر، ورمى بذلك لبيد بن سهل، رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب، فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد بن سهل؛ قوله : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله إلى قوله : ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما يعني بشير بن أبيرق، ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا يعني لبيد بن سهل حين رماه بنو أبيرق بالسرقة . فلما نزل القرآن في بشير، وعثر عليه هرب إلى مكة مرتدا كافرا، فنزل على سلافة بنت سعد بن الشهيد، فجعل يقع في النبي صلى الله عليه وسلم وفي المسلمين، فنزل القرآن فيه وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع، وكان ذلك في شهر ربيع سنة أربع من الهجرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن سعد من وجه آخر عن محمود بن لبيد قال : كان أسير بن عروة رجلا منطيقا ظريفا بليغا حلوا، فسمع بما قال قتادة بن النعمان في بني أبيرق للنبي صلى الله عليه وسلم حين اتهمهم بنقب علية عمه وأخذ طعامه والدرعين، فأتى أسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة جمعهم من قومه فقال : إن قتادة وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل حسب ونسب وصلاح يؤنبونهم بالقبيح ويقولون لهم ما لا ينبغي، بغير ثبت ولا بينة . فوضع لهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء ثم انصرف، فأقبل بعد ذلك قتادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكلمه، [ ص: 682 ] فجبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم جبها شديدا منكرا، وقال : «بئسما صنعت وبئسما مشيت فيه» فقام قتادة وهو يقول : لوددت أني خرجت من أهلي ومالي، وأني لم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من أمرهم، وما أنا بعائد في شيء من ذلك، فأنزل الله على نبيه في شأنهم : إنا أنزلنا إليك الكتاب إلى قوله : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم يعني أسير بن عروة وأصحابه، إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله إلى قوله : ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فيما بين ذلك في طعمة بن أبيرق ودرعه من حديد التي سرق، وقال أصحابه من المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم : اعذره في الناس بلسانك، ورموا بالدرع رجلا من يهود بريئا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة قال : ذكر لنا أن هذه الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق، وفيما هم به نبي الله صلى الله عليه وسلم من عذره، فبين الله شأن طعمة بن أبيرق، ووعظ نبيه صلى الله عليه وسلم وحذره أن يكون للخائنين خصيما، وكان طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار، ثم أحد بني ظفر، سرق [ ص: 683 ] درعا لعمه كانت وديعة عندهم، ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين . فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يهتف، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم قد هم بعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إلى قوله : يرم به بريئا وكان طعمة قذف بها بريئا، فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين، فأنزل الله في شأنه : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال : إن نفرا من الأنصار غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظن بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته : إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده . فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله، إن صاحبنا بريء، وإن سارق الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علما، فأعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه؛ فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس، فأنزل الله : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله يقول : بما أنزل الله إليك .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 684 ] إلى قوله : خوانا أثيما ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا :


                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية