الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين

في الكلام حذف يدل عليه الظاهر؛ تقديره: "فكذبوا فأخذناهم"؛ ومعناه: "لازمناهم؛ وتابعناهم الشيء بعد الشيء".

و"البأساء": المصائب في الأموال؛ و"الضراء": في الأبدان؛ هذا قول الأكثر؛ وقيل: قد يوضع كل واحد بدل الآخر؛ ويؤدب الله تعالى عباده بالبأساء؛ والضراء؛ ومن هنالك أدب العباد نفوسهم بالبأساء؛ في تفريق المال؛ والضراء؛ في الحمل على البدن؛ في جوع؛ وعري.

والترجي في "لعل"؛ في هذا الموضع؛ إنما هو على معتقد البشر؛ أي: "لو رأى أحد ذلك لرجا تضرعهم بسببه"؛ و"التضرع": التذلل؛ والاستكانة؛ وفي المثل: "إن الحمى أضرعتني لك"؛ ومعنى الآية توعد الكفار؛ وضرب المثل لهم؛ و"فلولا"؛ تحضيض؛ وهي التي تلي الفعل بمعنى "هلا"؛ وهذا على جهة المعاتبة لمذنب غائب؛ وإظهار [ ص: 362 ] سوء فعله؛ مع تحسر ما عليه؛ والمعنى: "إذا جاءهم أوائل البأس؛ وعلاماته؛ وهو تردد البأساء؛ والضراء؛ و"قست"؛ معناه: صلبت؛ وهي عبارة عن الكفر؛ ونسب التزيين إلى الشيطان؛ وقد قال تعالى في آية أخرى: كذلك زينا لكل أمة عملهم ؛ لأن تسبب الشيطان ووسوسته؛ تجلب حسن الكفر في قلوبهم؛ وذلك المجلوب؛ الله يخلقه؛ فإن نسب إلى الله تعالى فبأنه خالقه؛ وإلى الشيطان فبأنه مسببه.

وقوله تعالى فلما نسوا ؛ الآية؛ عبر عن الترك بالنسيان؛ إذا بلغ وجوه الترك الذي يكون معه نسيان؛ وزوال المتروك عن الذهن.

وقرأ ابن عامر فيما روي عنه: "فتحنا"؛ بتشديد التاء؛ و"كل شيء"؛ معناه: "مما كان سد عليهم بالبأساء؛ والضراء؛ من النعم الدنيوية"؛ فهو عموم معناه خصوص؛ و"فرحوا"؛ معناه: بطروا؛ وأشروا؛ وأعجبوا؛ وظنوا أن ذلك لا يبيد؛ وأنه دال على رضا الله تعالى عنهم"؛ وهو استدراج من الله تعالى ؛ وقد روي عن بعض العلماء أنه قال: "رحم الله عبدا تدبر هذه الآية: حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة "؛ وقال محمد بن النضر الحارثي : "أمهل القوم عشرين سنة"؛ وروى عقبة بن عامر أن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم؛ فذلك استدراج"؛ ثم تلا فلما نسوا ؛ الآية كلها.

و"أخذناهم"؛ في هذا الموضع؛ معناه: استأصلناهم؛ وسطونا بهم؛ و"بغتة"؛ معناه: فجأة؛ والعامل فيه: "أخذناهم"؛ وهو مصدر؛ في موضع الحال؛ لا يقاس عليه عند سيبويه ؛ و"المبلس": الحزين؛ الباهت؛ اليائس من الخير؛ الذي لا يحير جوابا؛ لشدة ما نزل به من سوء الحال.

[ ص: 363 ] وقوله تعالى فقطع دابر القوم ؛ الآية: "الدابر": آخر الأمر؛ الذي يدبره؛ أي: يأتي من خلفه؛ ومنه قول الشاعر:


فأهلكوا بعذاب حص دابرهم ... فما استطاعوا له دفعا ولا انتصروا



وقول الآخر:

وقد زعمت عليا

بغيض ولفها ...     بأني وحيد قد تقطع دابري



وهذه كناية عن استئصال شأفتهم؛ ومحو آثارهم؛ كأنهم وردوا العذاب حتى ورد آخرهم الذي دبرهم؛ وقرأ عكرمة : "فقطع"؛ بفتح القاف؛ والطاء؛ "دابر"؛ بالنصب.

وحسن الحمد عقب هذه الآية؛ لجمال الأفعال المتقدمة؛ في أن أرسل تعالى الرسل؛ وتلطف في الأخذ بالبأساء؛ والضراء؛ ليتضرع إليه؛ فيرحم؛ وينعم؛ وقطع في آخر الأمر دابر ظلمهم؛ وذلك حسن في نفسه؛ ونعمة على المؤمنين؛ فحسن الحمد بعقب هذه الأفعال؛ وبحمد الله تعالى ينبغي أن يختم كل فعل؛ وكل مقالة؛ لا رب غيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية