الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فالشفاعة : مقصودها قبول المشفوع إليه - وهي الشفاعة التامة . فهذه هي التي لا تكون إلا بإذنه . وأما إذا شفع شفيع فلم تقبل [ ص: 387 ] شفاعته : كانت كعدمها وكان على صاحبها التوبة والاستغفار منها .

                كما قال نوح { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } وكما نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين . وقال له { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } وقال له { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم }

                . ولهذا قال على لسان المشركين { فما لنا من شافعين } { ولا صديق حميم } . فالشفاعة المطلوبة : هي شفاعة المطاع الذي تقبل شفاعته . وهذه ليست لأحد عند الله إلا بإذنه قدرا وشرعا . فلا بد أن يأذن فيها . ولا بد أن يجعل العبد شافعا . فهو الخالق لفعله والمبيح له كما في الداعي : هو الذي أمره بالدعاء وهو الذي يجعل الداعي داعيا فالأمر كله لله خلقا وأمرا . كما قال { ألا له الخلق والأمر }

                . وقد روي في حديث - ذكره ابن أبي حاتم وغيره - أنه قال { فمن يثق به فليدعه } أي فلم يبق لغيره لا خلق ولا أمر . ولما كان المراد بالشفاعة المثبتة : هي الشفاعة المطلقة وهي المقصود بالشفاعة وهي المقبولة بخلاف المردودة . فإن أحدا لا يريدها لا [ ص: 388 ] الشافع ولا المشفوع له ولا المشفوع إليه . ولو علم الشافع والمشفوع له أنها ترد : لم يفعلوها . والشفاعة المقبولة : هي النافعة . بين ذلك في مثل قوله { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقوله { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا } فنفى الشفاعة المطلقة وبين أن الشفاعة لا تنفع عنده إلا لمن أذن له . وهو الإذن الشرعي بمعنى : أباح له ذلك . وأجازه . كما قال تعالى { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } وقوله { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } وقوله { ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } ونحو ذلك .

                وقوله { إلا لمن أذن له } هو إذن للمشفوع له . فلا يأذن في شفاعة مطلقة لأحد . بل إنما يأذن في أن يشفعوا لمن أذن لهم في الشفاعة فيه . قال تعالى { يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا } { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا } وفيه قولان : قيل : إلا شفاعة من أذن له الرحمن .

                وقيل : لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن . فهو الذي تنفعه الشفاعة . وهذا هو الذي يذكره طائفة من المفسرين . لا يذكرون غيره [ ص: 389 ] لأنه لم يقل " لا تنفع إلا من أذن له " ولا قال " لا تنفع الشفاعة إلا فيمن أذن له " بل قال { لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له } فهي لا تنفع ولا ينتفع بها ولا تكون نافعة إلا للمأذون لهم . كما قال تعالى في الآية الأخرى { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } . ولا يقال : لا تنفع إلا لشفيع مأذون له .

                بل لو أريد هذا لقيل : لا تنفع الشفاعة عنده إلا من أذن له . وإنما قال { إلا لمن أذن له } وهو المشفوع له الذي تنفعه الشفاعة . وقوله { حتى إذا فزع عن قلوبهم } لم يعد إلى " الشفعاء " بل عاد إلى المذكورين في قوله { وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } ثم قال { ولا تنفع الشفاعة عنده } ثم بين أن هذا منتف { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق } فلا يعلمون ماذا قال حتى يفزع عن قلوبهم فكيف يشفعون بلا إذنه ؟ . وهو سبحانه إذا أذن للمشفوع له فقد أذن للشافع . فهذا الإذن هو الإذن المطلق بخلاف ما إذا أذن للشافع فقط . فإنه لا يلزم أن يكون قد أذن للمشفوع له . إذ قد يأذن له إذنا خاصا . [ ص: 390 ] وهكذا قال غير واحد من المفسرين . قالوا : وهذا يدل على أن الشفاعة لا تنفع إلا المؤمنين . وكذلك قال السلف في هذه الآية . قال قتادة في قوله { إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا } قال : كان أهل العلم يقولون : إن المقام المحمود الذي قال الله تعالى { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } هو شفاعته يوم القيامة .

                وقوله { إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا } إن الله يشفع المؤمنين بعضهم في بعض . قال البغوي { إلا من أذن له الرحمن } أذن الله له أن يشفع له { ورضي له قولا } أي ورضي قوله . قال ابن عباس : يعني قال " لا إله إلا الله " قال البغوي : فهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمن .

                وقد ذكروا القولين في قوله تعالى { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقدم طائفة هناك : أن المستثنى هو الشافع دون المشفوع له بخلاف ما قدموه هنا . منهم البغوي . فإنه لم يذكر هنا في الاستثناء إلا المشفوع له . [ ص: 391 ] وقال هناك : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } في الشفاعة قاله تكذيبا لهم حيث قالوا { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } قال : ويجوز أن يكون المعنى : إلا لمن أذن له أن يشفع له .

                وكذلك ذكروا القولين في قوله { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق } وسنتكلم على هذه الآية إن شاء الله تعالى ونبين أن الاستثناء فيها يعم الطائفتين وأنه منقطع . ومعنى هاتين الآيتين مثل معنى تلك الآية . وهو يعم النوعين . وذلك : أنه سبحانه قال { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا } و " الشفاعة " مصدر شفع شفاعة .

                والمصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى محل الفعل تارة . ويماثله الذي يسمى لفظه " المفعول به " تارة كما يقال : أعجبني دق الثوب ودق القصار .

                وذلك مثل لفظ " العلم " يضاف تارة إلى العلم وتارة إلى المعلوم . فالأول كقوله { ولا يحيطون بشيء من علمه } وقوله { أنزله بعلمه } وقوله { أنما أنزل بعلم الله } ونحو ذلك . والثاني : كقوله { إن الله عنده علم الساعة } فالساعة هنا : معلومة لا عالمة . وقوله حين قال فرعون { فما بال القرون الأولى } [ ص: 392 ] قال موسى { علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } ومثل هذا كثير .

                فالشفاعة مصدر لا بد لها من شافع ومشفوع له . والشفاعة : تعم شفاعة كل شافع وكل شفاعة لمشفوع له . فإذا قال { يومئذ لا تنفع الشفاعة } نفى النوعين : شفاعة الشفعاء والشفاعة للمذنبين . فقوله { إلا من أذن له الرحمن } يتناول النوعين : من أذن له الرحمن ورضي له قولا من الشفعاء . ومن أذن له الرحمن ورضي له قولا من المشفوع له . وهي تنفع المشفوع له فتخلصه من العذاب . وتنفع الشافع فتقبل منه ويكرم بقبولها ويثاب عليه . والشفاعة يومئذ لا تنفع لا شافعا ولا مشفوعا له { إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } فهذا الصنف المأذون لهم المرضي قولهم : هم الذين يحصل لهم نفع الشفاعة .

                وهذا موافق لسائر الآيات . فإنه تارة يشترط في الشفاعة إذنه . كقوله { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } . وتارة يشترط فيهما الشهادة بالحق .

                كقوله { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } ثم قال { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } . وهنا اشترط الأمرين : أن يأذن له الرحمن وأن يقول صوابا والمستثنى يتناول مصدر الفاعل والمفعول كما تقول : لا ينفع الزرع إلا في وقته . فهو يتناول زرع الحارث وزرع الأرض لكن هنا قال { إلا من أذن له الرحمن } والاستثناء مفرغ . فإنه لم يتقدم قبل هذا من يستثنى منه هذا . وإنما قال { لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن } فإذا لم يكن في الكلام حذف كان المعنى : لا تنفع الشفاعة إلا هذا النوع فإنهم تنفعهم الشفاعة . ويكون المعنى : أنها تنفع الشافع والمشفوع له . وإن جعل فيه حذف - تقديره : لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن - كان المصدر مضافا إلى النوعين كل واحد بحسبه يضاف إلى بعضهم لكونه شافعا وإلى بعضهم لكونه مشفوعا له ويكون هذا كقوله { ولكن البر من آمن بالله } أي من يؤمن . و { مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } أي مثل داعي الذين كفروا كمثل الناعق أو مثل الذين كفروا كمثل منعوق به أي الذي ينعق به . والمعنى في ذلك كله ظاهر معلوم . فلهذا كان من أفصح الكلام : إيجازه دون الإطناب فيه .

                [ ص: 394 ] وقوله { يومئذ لا تنفع الشفاعة } إذا كان من هذا الباب لم يحتج : أن الشافع تنفعه الشفاعة . وإن لم يكرمه كان الشافع ممن تنفعه الشفاعة . وفي الآية الأخرى { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } من هؤلاء وهؤلاء . لكن قد يقال : التقدير : لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يشفع فيه فيؤذن لغيره أن يشفع فيه . فيكون الإذن للطائفتين والنفع للمشفوع له كأحد الوجهين أو ولا تنفع إلا لمن أذن له من هؤلاء وهؤلاء .

                فكما أن الإذن للطائفتين فالنفع أيضا للطائفتين . فالشافع ينتفع بالشفاعة . وقد يكون انتفاعه بها أعظم من انتفاع المشفوع له .

                ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح { اشفعوا تؤجروا . ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء } . ولهذا كان من أعظم ما يكرم به الله عبده محمدا صلى الله عليه وسلم هو الشفاعة التي يختص بها . وهي المقام المحمود الذي يحمده به الأولون والآخرون . وعلى هذا لا تحتاج الآية إلى حذف بل يكون معناها : [ ص: 395 ] يومئذ لا تنفع الشفاعة لا شافعا ولا مشفوعا { إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } . ولذلك جاء في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يا بني عبد مناف لا أملك لكم من الله من شيء . يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أملك لك من الله من شيء . يا عباس عم رسول الله لا أملك لك من الله من شيء }

                . وفي الصحيح أيضا { لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو شاة لها يعار أو رقاع تخفق .

                فيقول : أغثني أغثني . فأقول : قد أبلغتك . لا أملك لك من الله من شيء
                } . فيعلم من هذا : أن قوله { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } و { لا يملكون منه خطابا } على مقتضاه . وأن قوله في الآية { لا يملكون منه } كقوله صلى الله عليه وسلم { لا أملك لكم من الله من شيء } وهو كقول إبراهيم لأبيه { وما أملك لك من الله من شيء } . وهذه الآية تشبه قوله تعالى { رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا } { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } فإن هذا مثل قوله { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا } ففي الموضعين : اشترط إذنه . فهناك ذكر " القول الصواب " وهنا ذكر " أن يرضى قوله " ومن قال الصواب رضي الله قوله . فإن الله إنما يرضى بالصواب .

                وقد ذكروا في تلك الآية قولين : أحدهما : أنه الشفاعة أيضا كما قال ابن السائب : لا يملكون شفاعة إلا بإذنه . والثاني : لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه . قال مقاتل : كذلك قال مجاهد { لا يملكون منه خطابا } قال : كلاما .

                هذا من تفسيره الثابت عنه . وهو من أعلم - أو أعلم - التابعين بالتفسير . قال الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به . وقال : عرضت المصحف على ابن عباس : أقفه عند كل آية وأسأله عنها . وعليه اعتمد الشافعي وأحمد والبخاري في صحيحه . وهذا يتناول " الشفاعة " أيضا . [ ص: 397 ]

                وفي قوله { لا يملكون منه خطابا } لم يذكر استثناء . فإن أحدا لا يملك من الله خطابا مطلقا . إذ المخلوق لا يملك شيئا يشارك فيه الخالق كما قد ذكرناه في قوله { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } أن هذا عام مطلق . فإن أحدا - ممن يدعي من دونه - لا يملك الشفاعة بحال . ولكن الله إذا أذن لهم شفعوا من غير أن يكون ذلك مملوكا لهم .

                وكذلك قوله { لا يملكون منه خطابا } هذا قول السلف وجمهور المفسرين . وقال بعضهم : هؤلاء هم الكفار . لا يملكون مخاطبة الله في ذلك اليوم . قال ابن عطية : قوله { لا يملكون } الضمير للكفار . أي لا يملكون - من إفضاله وإكماله - أن يخاطبوه بمعذرة ولا غيرها .

                وهذا مبتدع . وهو خطأ محض . والصحيح : قول الجمهور والسلف : أن هذا عام كما قال في آية أخرى { وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا } وفي حديث التجلي الذي في الصحيح - لما ذكر مرورهم على الصراط - قال صلى الله عليه وسلم { ولا يتكلم أحد إلا الرسل ودعوى الرسل : اللهم سلم سلم } فهذا في وقت المرور على الصراط . وهو بعد الحساب والميزان . فكيف بما قبل ذلك ؟ .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية