الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } ذكر الحدث الأصغر . فالمجيء من الغائط هو مجيء من الموضع الذي يقضي فيه الحاجة . وكانوا [ ص: 391 ] ينتابون الأماكن المنخفضة وهي الغائط . وهو كقولك : جاء من المرحاض . وجاء من الكنيف ونحو ذلك . هذا كله عبارة عمن جاء وقد قضى حاجته بالبول أو الغائط . والريح يخرج معهما .

                وقد تنازع الفقهاء : هل تنقض الريح لكونها تستصحب جزءا من الغائط . فلا يكون على هذا نوعا آخر ؟ أو هي لا تستصحب جزءا من الغائط . بل هي نفسها تنقض . ونقضها متفق عليه بين المسلمين . وقد دل عليه القرآن في قوله : { إذا قمتم } سواء كان أريد القيام من النوم أو مطلقا . فإن القيام من النوم : مراد على كل تقدير . وهو إنما نقض بخروج الريح . هذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف : أن النوم نفسه ليس بناقض ولكنه مظنة خروج الريح .

                وقد ذهبت طائفة إلى أن النوم نفسه ينقض ونقض الوضوء بقليله وكثيره . وهو قول ضعيف . وقد ثبت في الصحيحين { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينام حتى يغط ثم يقوم يصلي ولا يتوضأ ويقول : تنام عيناي ولا ينام قلبي } .

                فدل على أن قلبه الذي لم ينم كان يعرف به أنه لم يحدث ولو كان النوم نفسه كالبول والغائط والريح : لنقض كسائر النواقض .

                وأيضا قد ثبت في الصحيحين " أن الصحابة كانوا ينتظرون الصلاة حتى [ ص: 392 ] تخفق رءوسهم . ثم يصلون ولا يتوضئون وهم في المسجد ينتظرون العشاء خلف النبي صلى الله عليه وسلم " .

                وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عن العشاء ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا . ثم رقدنا ثم استيقظنا . ثم خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال : ليس أحد من أهل الأرض الليلة ينتظر الصلاة غيركم } .

                ولمسلم عنه قال { مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة . فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل أو بعضه - ولا ندري أي شيء شغله من أهله أو غير ذلك - فقال حين خرج : إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة . ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى } .

                ولمسلم أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت { اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى . فقال : إنه لوقتها ; لولا أن أشق على أمتي } .

                ففي هذه الأحاديث الصحيحة : أنهم ناموا وقال في بعضها " إنهم [ ص: 393 ] رقدوا ثم استيقظوا ثم رقدوا ثم استيقظوا " وكان الذين يصلون خلفه جماعة كثيرة وقد طال انتظارهم وناموا . ولم يستفصل أحدا لا سئل ولا سأل الناس : هل رأيتم رؤيا ؟ أو هل مكن أحدكم مقعدته ؟ أو هل كان أحدكم مستندا ؟ وهل سقط شيء من أعضائه على الأرض ؟ فلو كان الحكم يختلف لسألهم .

                وقد علم أنه في مثل هذا الانتظار بالليل - مع كثرة الجمع - يقع هذا كله . وقد كان يصلي خلفه النساء والصبيان .

                وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : { اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي بصلاة العشاء فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال عمر بن الخطاب : نام النساء والصبيان . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم : ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم . وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس } .

                وقد خرج البخاري هذا الحديث في " باب خروج النساء إلى المسجد بالليل والغلس " وفي " باب النوم قبل العشاء لمن غلب عليه النوم " وخرجه في " باب وضوء الصبيان وحضورهم الجماعة " وقال فيه { إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هذه الصلاة غيركم } .

                [ ص: 394 ] وهذا يبين أن قول عمر " نام النساء والصبيان " يعني والناس في المسجد ينتظرون الصلاة .

                وهذا يبين أن المنتظرين للصلاة كالذي ينتظر الجمعة إذا نام أي نوم كان لم ينتقض وضوءه . فإن النوم ليس بناقض . وإنما الناقض : الحدث فإذا نام النوم المعتاد الذي يختاره الناس في العادة - كنوم الليل والقائلة - فهذا يخرج منه الريح في العادة وهو لا يدري إذا خرجت فلما كانت الحكمة خفية لا نعلم بها : قام دليلها مقامها . وهذا هو النوم الذي يحصل هذا فيه في العادة .

                وأما النوم الذي يشك فيه : هل حصل معه ريح أم لا ؟ فلا ينقض الوضوء . لأن الطهارة ثابتة بيقين فلا تزول بالشك .

                وللناس في هذه المسألة أقوال متعددة ليس هذا موضع تفصيلها لكن هذا هو الذي يقوم عليه الدليل .

                وليس في الكتاب والسنة نص يوجب النقض بكل نوم .

                فإن قوله : { العين وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء } قد روي في السنن من حديث علي بن أبي طالب ومعاوية [ ص: 395 ] رضي الله عنهما وقد ضعفه غير واحد . وبتقدير صحته : فإنما فيه { إذا نامت العينان استطلق الوكاء } وهذا يفهم منه : أن النوم المعتاد هو الذي يستطلق منه الوكاء . ثم نفس الاستطلاق لا ينقض . وإنما ينقض ما يخرج مع الاستطلاق . وقد يسترخي الإنسان حتى ينطلق الوكاء ولا ينتقض وضوءه .

                وإنما قوله في حديث صفوان بن عسال { أمرنا أن لا ننزع خفافنا إذا كنا سفرا - أو مسافرين - ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة . لكن من غائط أو بول أو نوم } فهذا ليس فيه ذكر نقض النوم . ولكن فيه : أن لابس الخفين لا ينزعهما ثلاثة أيام إلا من جنابة ولا ينزعهما من الغائط والبول والنوم فهو نهي عن نزعهما لهذه الأمور . وهو يتناول النوم الذي ينقض . ليس فيه : أن كل نوم ينقض الوضوء .

                هذا إذا كان لفظ " النوم " من كلام النبي صلى الله عليه وسلم . فكيف إذا كان من كلام الراوي ؟ وصاحب الشريعة قد يعلم أن الناس إذا كانوا قعودا أو قياما في الصلاة أو غيرها فينعس أحدهم وينام ولم يأمر أحدا بالوضوء في مثل هذا .

                أما الوضوء من النوم المعروف عند الناس : فهو الذي يترجح معه في العادة خروج الريح وأما ما كان قد يخرج معه الريح وقد لا يخرج : فلا ينقض على أصل الجمهور . الذين يقولون : إذا شك هل ينقض أو لا ينقض ؟ أنه لا ينقض . بناء على يقين الطهارة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية