[ ص: 772 ] وإن ذلك التخريج يستقيم في ذاته ، ولكن قرن بالآية الكريمة بعد ذلك قوله تعالى :
nindex.php?page=treesubj&link=10935_11694_28288_34432_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، فدل هذا على أن المراد حقيقة التثنية ، لأن بعد الثانية الثالثة .
ولذلك نختار التخريج الثاني ، وهو أن الطلاق في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229الطلاق مرتان أل فيه للعهد الذكري ، أي الطلاق المشار إليه في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=228والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فالطلاق المذكور هو الذي يكون فيه للزوج حق مراجعة زوجته فيه " فالسياق يكون لبيان الطلاق الذي تبقى معه عصمة الزوجية ، ولذلك قال بعد ذلك :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فهو ذكر حكم المرتين ، ثم ذكر من بعد ذلك حكم الثالثة ، وتكون التثنية على هذا التخريج المستقيم من كل الوجوه على حقيقتها لا لمجرد التكرار .
ومهما يكن السياق ، فإن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229الطلاق مرتان يستفاد منه أن الطلاق لا يقع العدد به مرسلا دفعة بل هو دفعات ومرات ، وكل واحدة منها يتخللها رجعة أو عقد جديد ، وذلك ليتحقق المقصد الحكيم الذي قصد إليه الشارع من عدد الطلاق ، وإعطاء فرصة المراجعة بعد كل طلاق نحو ثلاثة أشهر ، ثم تكرار تلك الفرصة ، حتى إذا كانت الثالثة فصم ذلك العقد الذي أصبح بقاؤه شرا ،
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=130وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وأصبح من الضروري أن يكون ثمة تجربة قاسية ، عساها تصلح من قلب الناشز منهما .
وذلك ما فهمه السلف الصالح ، فما كان الطلاق يقع دفعة واحدة ، بل كان يقع دفعات ، لكيلا يقطع الرجل السبيل على نفسه ، ولكيلا يتعدى حدود الله ، وكما قال الله تعالى في هذا المقام :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فلعل الله في مدة العدة أو بعدها إذا طلق واحدة ، أو اثنتين على دفعتين ، أن يحدث أمرا بإحلال المودة محل العداوة ، والرحمة محل البغضاء ، فتستأنف حياة زوجية هنيئة سعيدة .
[ ص: 773 ] وإذا
nindex.php?page=treesubj&link=11753أوقع الرجل الطلاق دفعة واحدة ، ولم يوقعه على ثلاث مرات ، أو أوقعه في مجلس واحد متتابعا ، أو أوقعه في مجالس متفرقة ، فما حكمه ، وما مؤداه ; لا شك أن صريح الآية أن الطلاق لا يقع مرة واحدة ، فلا يقع الطلاق الثالث بلفظ الثلاث ثلاثا ، ولكن يقع طلقة واحدة لأنه مرة واحدة ، وليس ثلاث مرات ، ولكي يكون ثلاثا يجب أن يكون ثلاث مرات .
وذلك لأن
nindex.php?page=treesubj&link=11753اقتران الطلاق بكلمة ثلاث لا يجعله ثلاث مرات ، بل إنه مرة واحدة ، ولو وصفه بالمائة ، كمن يقول أحلف بالله ثلاثا ، فهو يمين واحدة ، وكمن يقول قرأت هذه السورة ثلاث مرات ، وقد قرأها مرة واحدة ، فهو كاذب .
إن كلمة المرة توجب أن يكون الطلاق في حال واحدة ، ولسبب واحد ، وفي مجلس واحد ، ولغاية واحدة ، مرة واحدة ولا يخرجه عن كونه مرة واحدة ، تعدد الألفاظ في المجلس ، أو لأجل السبب ، أو لهذه الغاية ; ولهذا قرر كثيرون من العلماء منهم
ابن تيمية وتلميذه
ابن القيم ، وطائفة من شيوخ
قرطبة ، منهم
ابن زنباغ ،
ومحمد بن بقي ،
ومحمد بن عبد السلام ،
وإصبغ بن الحباب ، أنه يقع واحدة ، وكل أولئك قد اختاروا رأي
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
وقد روي عن بعض الصحابة
nindex.php?page=showalam&ids=8كعلي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=110وأبي موسى الأشعري nindex.php?page=showalam&ids=10وعبد الله بن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=15والزبير بن العوام nindex.php?page=showalam&ids=38وعبد الرحمن بن عوف ، وقاله من بعدهم بعض التابعين ، ثم تتابع العلماء يقولونه .
وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاووس nindex.php?page=hadith&LINKID=659697عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - nindex.php?page=showalam&ids=1وأبي بكر وسنتين من خلافة nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة ، فقال nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه : ( إن الناس قد استعجلوا في أمر لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ) فأمضاه .
هذا تفسير قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229الطلاق مرتان وهذا ما فهمه منه بعض العلماء تابعين لبعض الصحابة والتابعين ، ولكن الأئمة الأربعة يرون أن الطلاق المقترن بالعدد لفظا أو إشارة يكون ثلاثا أو اثنين على حسب ما اقترن به ، وقد قال العلماء
[ ص: 774 ] إنه قد اتفق عليه أئمة الفتوى ، وكأن غيره من الأقوال من شواذ الفتيا الذي لا يلتفت إليه وقد استندوا إلى الأخذ بفتوى
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر ، وادعوا أن الإجماع قد انعقد عليه ، ومن المؤكد أن طائفة كبيرة من الصحابة كانت على ذلك الرأي ، وما كان لمثلهم أن يقولوا ما يخالف ظاهر القرآن من غير سند من حديث صح عندهم ، والآية الكريمة تبين ما ينبغي ، ولا تبين بطلان سواه ، وأنه لا يقع إلا ذلك النوع من الطلاق .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان الإمساك بالمعروف هو العشرة الحسنة ، والمعاملة الرفيقة بأهله ; فالمعروف هو الخلق الفاضل الذي تعرفه العقول السليمة ، وتدركه الفطر المستقيمة ، وتعالج به النفوس ، وتطمئن به القلوب والتسريح إرسال الشيء وتفريقه ; ولذلك يقال سرح الشعر ، أي فصله وفرقه ليخلص بعضه من بعضه ، ويقال سرح الماشية ، أرسلها وفرقها في المرعى .
ولا شك أن لفظ التسريح بإحسان يتضمن مع ما يشتمل من معنى التفريق والإرسال ، معنى الرفق في التفريق ، فلا يفرق بعنف ، وحرج للنفوس ، وخدش للمروءة ، ولمكارم الأخلاق ، بل يفرق في رفق وعطف ، من غير حرمان ، بل بإعطاء من غير منع ، كما قال تعالى في هذا المقام :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=237ولا تنسوا الفضل بينكم فالإحسان في هذا المقام ، بمعنى الرفق والعطف والتسامح المادي والمعنوي ، فهو من أحسن إليه ، بمعنى أسدى إليه خيرا ، أو أدى معروفا ، أو أعطى عطاء .
[ ص: 775 ] ووقت الإمساك أو التسريح في هذا المقام ، مقام ذكر الطلاق ومراته ، هو ما بعد الطلقة الأولى أو الثانية ، أي أنه بعد إحدى هاتين الطلقتين ، إما إمساك بمعروف ، بمعنى رجعة على نية البقاء والإصلاح ، واطراح أسباب النزاع والخلاف ، والأخذ بالرفق والحسنى ، والعيشة الهنيئة الكريمة ، وإما تسريح بإحسان ، بمعنى تركها حتى تنتهي عدتها ، ويغني الله كل واحد عن الآخر من سعته .
فكأن هذه الجملة السامية تشير إلى ما ينبغي أن يكون في فترة الروية والتفكير ، وهي الأجل المفروض الذي تتربصه المرأة بعد طلاقها ، بأن يفكر في ماضي أمره ، ويقدر عاقبة حاله إن أمضى الطلاق ، فإن رأى أن الحسنى في الإبقاء أبقاها على نية الإصلاح من شأنه ، والتقويم من معوجه ، والأخذ بالرفق ، وإن رأى أن الخير في التفريق فرق غير مجاف ولا مشاق ولا مضار ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=49وسرحوهن سراحا جميلا
وعلى هذا يكون الإمساك بمعروف والتسريح بالإحسان موضعه في هذا المقام هو في وقت النظر والتروية ، وإن كان الإمساك بالمعروف مطلوبا دائما .
ولقد قال بعض العلماء : إن
nindex.php?page=treesubj&link=11733المراد من التسريح بالإحسان هو الطلقة الثالثة ; أي بعد الطلقتين الأوليين يتروى في الأمر فيمسك بالمعروف أو يطلق الطلقة الثالثة .
وعندي أن ذلك التخريج بعيد لوجهين :
أولهما : أن التسريح يكفي فيه بعد الطلقتين أن يسكت من غير مراجعة حتى تنتهي عدتها ، ولأن الترديد بين الإمساك بالمعروف ، والتسريح بالإحسان لا يكون إلا في وقت يجوز فيه الأمران ، والأنسب في ذلك ما بعد الطلاق ، وهو المراجعة أو تركها ، وليس المناسب في ذلك هو إرداف الطلاق بالطلاق ، إن ذلك لا يكون فيه تسريح بإحسان ، بل فيه تضييق على نفسه وظلم لها ، إذ قطع السبيل ، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا . وفوق ذلك فيه مجافاة ومبالغة فيها بإيقاع طلاق ثان من غير حاجة إليه .
[ ص: 776 ] ثانيهما : قوله تعالى بعد ذلك :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن هذه الطلقة الثالثة ، ولو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لكانت هذه رابعة ، ولم يقل ذلك أحد .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله إذا كان الفراق بين الزوجين يجب أن يكون مصحوبا بالإحسان والرفق ، وألا ينسوا الفضل بينهم ، فلا يصح أن يأخذ شيئا مما آتاها من مال ; لأن ذلك يكون مجافاة لا إحسانا ; ولأن ذلك يكون ظلما لا عدل فيه ; ولقد قال سبحانه وتعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=20وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا
وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=19ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وإن أخذ شيء حرام بلا ريب عند الفرقة ، وإن الحرمة سببها ألا يجمع على المرأة أمرين كلاهما مؤذ لها ; أولهما الفراق الذي لا تريده ، وثانيهما استرداد ما وهب . وقد يقول قائل : إذا طابت نفسها بذلك فلماذا لا يأخذ ؟ فنقول : إذا كان طيب نفسها من غير نشوز منها ، والبغض منه هو الذي رغب في الطلاق وأراده ، فإن ذلك مكارم أخلاق منها ، وفساد نفس منه ، ومثل ذلك لا يكون حلالا ; وليس من ذلك قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=4فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا لأن هذه الآية موضوعها حال قيام الزوجية ، كما أنه ليس منه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=237وأن تعفوا أقرب للتقوى لأن تلك الآية موضوعها الطلاق قبل الدخول الذي يسقط نصف المهر ، فإنهما لم تقم بينهما عشرة زوجية ، فسوغ العفو منها إذا لم تكن قد قبضت شيئا ، أو قبضت دون نصف المهر ; وسوغ العفو منه إن كانت قد قبضت أكثر من النصف ; ولذلك لم يكن في ذلك أخذ لما أعطى عند عفوها ، بل إسقاط لما يجب ، وعساه يكون في عسرة ، وعسى أن يكون ذلك سبب الفراق ولم يكن منه أخذ ، ولكن كان منها إسقاط ، فلا ظلم ولا بهتان .
[ ص: 777 ] ولم يسوغ الشارع الحكيم الأخذ إلا إذا خافا ألا يقيما حدود الله ، ففي هذه الحال يحل الأخذ . وحدود الله سبحانه وتعالى ما أوجبه من حقوق للرجل على زوجته ، ولها عليه ، وهي مقاصد الزواج ; فإن لم يتحقق من الزواج مقاصده ، ولم تقم الأسرة الهنيئة التي تربط بين آحادها المودة الواصلة بين الزوجين فأخذ المال جائز .
وتلك الحال التي يخافان ألا يقيما حدود الله ، وواجباته ، وحقوق كل منهما على صاحبه ، تتحقق بسببين :
أحدهما - أن تكون المرأة ناشزا عاصية أو كارهة ، كتلك
nindex.php?page=hadith&LINKID=654867المرأة التي ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقول : " والله ما أعتب على ثابت في دين ولا خلق ، ولكني أكره الكفر في الإسلام ; لا أطيقه بغضا ! فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أتردين عليه حديقته ؟ " - وهي المهر الذي أمهرها - قالت : نعم . فأمره أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد ; ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما بطريق
nindex.php?page=treesubj&link=11482الخلع ، ويقال إنه كان أول خلع في الإسلام .
وأحيانا تكون المرأة كارهة ولا تبدي بغضها بهذه الصراحة ، ولكنها تثير الشغب في البيت لأتفه سبب ، وتعصي زوجها ، وتقوم بالكفر في الإسلام ، ولا تتورع عنه ، وهذا ما كرهت امرأة
nindex.php?page=showalam&ids=215ثابت بن قيس التي جاءت الرواية بأمرها .
ثانيهما - أن يكون بالمرأة عيب مستحكم ولا يمكن معه القيام بالحقوق الزوجية ، فإن أخذ المال في هذه الحال يكون سائغا ، وإن لم يكن نشوز ولا عصيان ; ولذلك سوغ الحنابلة والمالكية أن
nindex.php?page=treesubj&link=12289يطلب الرجل من القاضي التفريق على أن يأخذ ما أعطى أو بعض ما أعطى ، وإن لم يعتبر التفريق خلعا .
وإن هذين السببين كلا منهما يدل على أن أخذ المال جائز إذا كان سبب الفراق من جانبها ، أو سبب عدم القيام بحدود الله وتحقق العدالة من جانبها ; ولكن الآية الكريمة مطلقة لا تقيد في جواز الأخذ بكون النشوز من جانبها أو من جانبه ، بل
[ ص: 778 ] يقول سبحانه في الاستثناء
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله وذلك كما يكون عندما يكون النشوز من جانبها ، يكون عندما يكون من جانبه .
وإن ذلك العموم قد يبدو بادي الرأي ، ولكن المتأمل البصير في عبارات الجملة الكريمة يستنبط من إشاراتها أن جواز الأخذ مقصور على الحال التي يكون النشوز من جانبها أو سببه من جانبها ، أو على الأقل كان الجانب الأكبر منه يتصل بها ; وذلك لأنه عبر عن حال جواز الأخذ بألا يخافا ألا يقيما حدود الله وحال الخوف الذي يكون من جانبهما معا لا من جانبها وحدها تكون في الحال التي يكون السبب من جانبها ; وذلك لأنه مفروض أن الخوف الذي يكون هو الخوف الذي يكون سببه لا ظلم فيه ; وذلك في غالب الأحيان لا يتحقق إلا إذا كان السبب من جانب المرأة ; لأنه إن كان من جانب الرجل فهو ظلم ; إذ يملك أن يطلق ، ولا يقال إنه إذا خاف أن يظلم يجوز أن يأخذ المال ; لأن أخذ المال في ذاته ظلم إذا كان البغض من جانبه ; لأنه يكون داخلا في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=19ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن وخوف الظلم لا يبرر ظلما آخر ، وخصوصا إذا كان ثمة مندوحة عنه ، ويكون داخلا في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=231ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا وفوق ذلك فإن النسق القرآني قد جعل للرجل حالين ، وهي حال الطلاق الذي لا يحل فيه الأخذ ، وحال جواز الأخذ ، وكلاهما لا يجوز إلا إذا تعذر قيام الحياة الزوجية على أسس الإصلاح والصلاح ، وقد جعل الطلاق إذا كانت النفرة من جانبه ، فكان السياق يوجب أن يكون الافتداء إذا كانت الفرقة من قبلها ; فهذه حال وتلك حال ; ولذا قال أهل
البصرة من النحويين : إن الاستثناء في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله استثناء منقطع بمعنى لكن ; لأن ما بعد إلا غير داخل في عموم ما قبلها ، بل هو حال مغايرة له .
وأخيرا إن قوله تعالى عن إعطاء المال بأنها تفتدي نفسها ، أي تخلص نفسها بفداء تقدمه ، دليل على أن خوف عدم القيام بحدود الله هو من جانبها ، أو على الأقل هو من جانبها أظهر .
[ ص: 779 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به الجناح معناه الإثم ، من جنح بمعنى مال . والافتداء معناه تخليص النفس بمال يبذل لتخليصها ، ودفع الأذى عنها ، وأصله من الفدى والفداء بمعنى حفظ الإنسان نفسه عن النائبة بما يبذله .
والخطاب في الآية إما أن يكون لجماعة المؤمنين من حيث إنهم متعاونون فيما بينهم ، بحيث وجدوا الشر بين الزوجين ، وإما أن يكون خطابا لجماعة الأزواج الذين كان بينهم وبين نسائهم ما يخشى معه ألا يقيم كلاهما حدود الله التي رسمها للحياة الزوجية ، فالخطاب لإباحة الأخذ والفداء .
وعندي أن جعل الخطاب لجماعة المؤمنين أولى بالاعتبار ، فإن على من يعرف ما بين الزوجين أن يتدخل بالنصح والإرشاد وبيان حكم الله ، ولذلك كان الخطاب عاما لجماعة المؤمنين بقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ونفي إثم الأخذ خاصا بالزوجين ، ولذا قال
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فلا جناح عليهما فيما افتدت به ولقد فهم بعض العلماء من التابعين من كون الخطاب موجها إلى جماعة المؤمنين أن الخلع الذي هو التفريق بين الزوجين في نظير مال تفدي نفسها به ، ولا يكون إلا بأمر ولي الأمر أو القاضي الذي يقيمه ولي الأمر لذلك ، وقد فهم هذا الفهم
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16972وابن سيرين ، وكان يسير على ذلك الرأي
nindex.php?page=showalam&ids=15935زياد بن أبيه في حكمه ، وقد كان مقبول الولاية من
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي ، وكلاهما مكانته في الفقه مكانته .
وإن قصر الخلع على السلطان على هذا المذهب لا نحسبه صوابا ، ولكن نرى أن الأولى أن يقال : إن
nindex.php?page=treesubj&link=11482الخلع كما يجوز بتراضي الزوجين إذا خافا ألا يقيما حدود الله ، كذلك يجوز بأمر القاضي إذا تبين له بعد تحكيم الحكمين أنهما لا يقيمان حدود الله بسبب نفرة المرأة من الحياة الزوجية ، وذلك ما نص عليه في مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك رضي الله عنه ، فقد جاء أن الأمر إذا فسد بين الزوجين ، ولم تعلم له أسباب ظاهرة حكم الحكمان ، فإن تبين أن العشرة بينهما غير ممكنة ، فرقا بينهما ، وجاز أن يكون التفريق خلعا إذا كانت الإساءة من جانب المرأة .
[ ص: 780 ] ومن صريح الآية يتبين أن الخلع لا يكون إلا إذا خافا ألا يقيما حدود الله ; ومن سياق الآيات وتناسقها ، وإشارة الآية الكريمة وصريح الحديث النبوي يفهم أن الخلع يكون حيث تكون النفرة من جانب الزوجة ; ولذلك قال
ابن رشد في بيان المقصد من شرعية الخلع : ( الفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابل ما بيد الرجل من الطلاق ، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة ، جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل ) ولهذا قال الظاهرية إن الخلع لا يكون إلا إذا كان النشوز من جانبها ; لأنه إذا كان النشوز من جانبه يكون النهي عن أخذ المال لوقوعه في عموم قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=231ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا وقرروا أنه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطى ، ولكن الحنفية والمالكية والشافعية سوغوا الخلع في كل الأحوال ، وبأي قدر من المال ، وإن كرهوا الخلع إذا كان النشوز من قبله ، وكرهوا أخذ أكثر مما أعطى .
هذا وللفقهاء خلاف طويل في شأن الخلع ، نتركه لكتب الفقه .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون بعد بيان أحكام الطلاق وعدده وأحواله ، قال سبحانه
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229تلك حدود الله والإشارة إلى ما تقدم من الأحكام ، والإشارة للبعيد لبيان علو قدرها ، وعظم منزلتها ، وجلال ما فيها من مصالح ظاهرة بينة لذوي الألباب ; وسمى تلك الأحكام حدود الله للإشارة إلى أنها فاصلة بين الحق والباطل والظلم والعدل ، والمصلحة والمضرة ; وإضافتها إليه سبحانه وهو العليم الخبير البصير إشارة إلى أنه لا ينبغي أن
[ ص: 781 ] يتطرق الريب إليها ، وأن من يخالفها يعاند الله ويحاربه ، ويتجنب الصالح ، ويتبع الطالح ، ويترك النافع إلى ما فيه الضرر في الدنيا والآخرة .
وإذا كانت تلك الأحكام حدودا فلا يصح تجاوزها وتركها ، وإلا كان معتديا على حرمات الله ، متهجما على شرع الله ; ولذا قال سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فلا تعتدوها فالفاء هي فاء السببية التي تبين أن ما قبلها سبب لما بعدها ; أي أنه إذا كانت تلك الأحكام حدود الله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فلا تعتدوها فلا تتجاوزوها إلى الشقة الحرام ، وإلا كان الردى وسوء العقبى وفساد المال ; لأن تلك الحدود عدل الله القائم إلى يوم القيامة ، وهي عدله في الأسرة التي هي عماد المجتمع ، وبها قام بنيانه ، فإذا قامت على الظلم انهار المجتمع من دعائمه .
ولقد ذيل الله سبحانه الآية الكريمة بقضية عامة هي في عنق التاركين لأحكام الله إلى يوم القيامة ، فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون من يترك أحكام الله سبحانه وتعالى التي شرعها في قرآنه ، وبينها على لسان نبيه الكريم ، فإنه بسبب تركه لها ظالم لنفسه ، وظالم لجماعته ، وظالم في الحكم بين الناس .
وقد أكد الله سبحانه وتعالى الحكم على من يترك شرع الله بالظلم ، فقد ربط بفاء السببية بين التعدي لحدود الله والحكم بالظلم ، وتكرار الربط بالسببية للتوكيد ، وعبر بالإشارة مع وجود ما يغني عنها لتأكيد معنى السببية ، أي أن السبب في ظلمهم تحملهم لتلك المخالفة والمعاندة لحدود الله ولله ، وأردف ذلك بقوله " هم " وهو للتأكيد ; ثم عبر بالجملة الاسمية للإشارة إلى أن الظلم شأن من شئونهم ووصف ملازم لهم ما داموا تاركين لحدوده ; ثم كان القصر ، أي قصر الظلم عليهم ، وهو قصر حقيقي .
ولماذا كان ذلك التأكيد الشديد ; كان لسببين :
أولهما : أن الإنسان مغرور دائما ، ومحكوم نفسيا بأمور زمنية ، تسيطر عليه الأحوال التي تلابسه ، وقد يكون فيها الظلم والضرر ، ويتوهمهما العدل والمصلحة ،
[ ص: 782 ] ويتوهم أن لا مصلحة في شرع الله ويحاول إخضاع حدود الله لزمانه ، أو يتركها ، كشأن الناس في الربا والطلاق وتعدد الزوجات والحدود وغير ذلك ، فبين الله سبحانه وتعالى أنهم ظالمون لأنفسهم إن تركوا شرع الله إلى أهوائهم ، بل يجب أن تكون أهواؤهم خاضعة لحكم الله ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=848604لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .
ثانيهما : المقام الذي سيق فيه ذلك النص الكريم ، وهو ما يتعلق بالأسرة ، فإن الظلم فيها أقبح الظلم .
وفقنا الله سبحانه لأن ندرك شرع الله ، ونؤمن بأنه الحق الذي لا حق سواه ، وفيه المصلحة التي يقوم عليها بناء اجتماعي فاضل . والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
* * *
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون
* * *
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى طريقة إيقاع الطلاق ، وأنه يكون على دفعات لا دفعة واحدة ، حتى لا يضيق الرجل على نفسه ، ولا يغلق بابا قد فتحه الله سبحانه وتعالى له ; ولعل الله سبحانه وتعالى يحدث من بعد ذلك أمرا
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2ومن يتق الله يجعل له مخرجا وبين سبحانه الطلاق الذي يكون للرجل فيه أن يستأنف حياة زوجية ; ثم بين سبحانه وتعالى الحكم إذا كان الطلاق
[ ص: 783 ] بافتداء المرأة نفسها من الرجل على براءة من صداقها أو بمال تدفعه ، أو بإسقاط حقوق مالية نشأت عن الزواج ; أو نشأت حال قيام الحياة الزوجية .
وفي هذه الآية الكريمة يبين سبحانه الطلاق الذي لا يمكن بعده استئناف الحياة بل تحرم عليه مؤقتا ، وهو الطلاق المكمل للثلاث ، فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره أي أنه إن طلقها بعد الطلقتين اللتين سوغ الله سبحانه وتعالى له الرجعة بعد كل منهما في أثناء العدة ، أو عقد زواج بعد انتهائها ، إن طلقها بعد هاتين الطلقتين فلا تحل له من بعد طلاقه حتى تنكح زوجا غيره ; فمعنى " تنكح " : تتزوج بعقد شرعي صحيح .
ففي هذه الجملة السامية بيان لانتهاء الحل بالطلاق الثالث ، وإثبات الحرمة ووقوعه ، كما أن فيها بيان انتهاء ذلك التحريم ، فهي قد حدت المبدأ والغاية ; فمبدأ التحريم من الطلقة الثالثة ، وينتهي التحريم بعد تزوج شخص آخر ، والدخول بها ، ثم تطليقها من بعد ذلك .
والنكاح المراد في الآية هو الزواج وظاهر الآية أن الزواج ثم الطلاق من بعده يحلها للزوج الأول من غير حاجة إلى الدخول ، وبذلك أخذ
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب ; ولكن جمهور الفقهاء والتابعين من قبلهم ثم الصحابة أجمعين قد قرروا أنه لا بد من الدخول الحقيقي لكي تحل له ، وذلك لنص الحديث المخصص لظاهر الآية ; فقد ورد في
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم ، ومسند
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، ومسند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=652445جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إني كنت عند رفاعة ، فطلقني ، فبت طلاقي ، فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير ، وما معه إلا مثل هدبة الثوب ; فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك " وواضح أن معنى ذوق العسيلة أن يفضي إليها ويدخل بها .
[ ص: 784 ] وقد تعددت روايات الحديث بهذا المعنى ، فكان حديثا مستفيضا مشهورا ، وهو يخصص عموم القرآن الكريم ، بل هو في الحق تفسير لظاهره ، وليس بعد تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - لكتاب الله تفسير ، وعلى هذا انعقد الإجماع قبل
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب ، وانعقد الإجماع بعده ، فقوله من شواذ الفتيا التي لا يلتفت إليها .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله أي فإن طلق الزوج الثاني ، فلا جناح على المرأة وزوجها الأول أن يتراجعا ، أي لا إثم عليهما في أن يستأنفا حياة زوجية جديدة ، فالضمير في " عليهما " يعود إلى المرأة والزوج الأول ; لأن العلاقة بينهما هي مساق الآية الأول ، فقد بينت الآية
nindex.php?page=treesubj&link=11733_11740التحريم بالطلقة الثالثة ، وأنه ينتهي بالزواج من الثاني والتطليق منه ، ثم صرحت هذه الجملة السامية بابتداء الحل بعد انتهائه ، وهو أنه يبتدئ بالطلاق من الثاني وزوال بقايا النكاح الثاني وآثاره بانتهاء العدة ; فهذه الجملة الكريمة توضيح لابتداء الحل ، كما كانت الأولى فيها بيان لابتداء التحريم وإشارة إلى انتهائه .
وعلى هذا سار أكثر المفسرين ، وكلامهم واضح بين ، ولكن اختار الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده رضي الله عنه أن يكون الضمير في " عليهما " في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فلا جناح عليهما أن يتراجعا يعود على الزوج الثاني والمرأة لا على الزوج الأول فهي كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=228وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا
فهي تدل على معنى جديد ، لم يتضمنه معنى الجملة التي سبقتها ، وهو بيان أن الزواج الثاني يكون ككل أنواع الزواج ، وله كل أحكامها وحدودها ، فلا يكون زواجا مؤقتا ، ولا لغرض مؤقت ، إنما يعقد للبقاء والدوام ويقصد فيه معنى الزواج كاملا غير منقوص ، وقد يتوهم بعض الناس أن الزوج الأول أحق بها ، فدفع ذلك بأن
nindex.php?page=treesubj&link=12739_11733المراجعة في العدة حق ثابت للمطلق الثاني ، وهو أولى بمقتضى الحكم العام الذي جاء به النص الذي نوهنا عنه ، وهو قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=228وبعولتهن أحق بردهن [ ص: 785 ] وقد يعترض معترض على ذلك الرأي فيقول : إنه لا يوجد على ذلك التخريج ما يفيد حلها للأول ، فنقول في رد ذلك الاعتراض : إن الحل بالزواج ثم الطلاق بعد الدخول وانتهاء العدة فهم من انتهاء التحريم بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230حتى تنكح زوجا غيره فالتحريم مؤقت بتوقيت زمني غير معلوم ينتهي بالزواج الثاني ، وزوال سائر أسباب التحريم الأخرى .
ومهما يكن من الأمر ، فإن السياق يسير على مقتضى رأي الجمهور ; لأن السياق كله متعلق بشأن المرأة مع زوجها الأول ، والكلام في الزوج الثاني جاء لتتميم الكلام في الزواج الأول وإنهائه ، ومدى ذلك الإنهاء ; ويزكي ذلك أن الله سبحانه وتعالى عبر عن عودة الزواج بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230أن يتراجعا وهذا يفيد أن ذلك بعقد جديد ، ولو كان المراد الرجعة ما عبر بصيغة المشاركة ; لأنه ينفرد بها الزوج إن كان الثاني .
وحلها للزوج الأول منوط بأمر ديني مقرر ثابت ، وهو أن يكونا قد انتفعا من ذلك الدرس القاسي ، وهو الفرقة المحرمة بينهما ، وتجربتها عشرة غيره ، وتجربته لرؤيتها عشيرة لسواه ; ولذلك قال سبحانه وتعالى في بيان إنهاء التحريم :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230إن ظنا أن يقيما حدود الله فنفي الإثم في العودة إلى الزوج الأول مربوط دينيا وقلبيا بقصدهما إلى العشرة الحسنة وإرادتهما لها ، وظنهما القدرة عليها ، وزوال النفرة التي كانت توجب الشقاق والنزاع ، وتؤدي إلى الطلاق وتكراره المرة بعد الأخرى .
وقد فهم بعض العلماء أن المراد بالظن هنا هو العلم واليقين ; فالمراد إن تيقنا أنهما سيقيمان حدود الله ، فليس للرجل والمرأة ، وقد فرق بينهما تفريقا بمحرم بالطلاق الثلاث المتكرر ، أن يستأنفا حياة زوجية بعد زوال التحريم إلا إذا علما على وجه الجزم واليقين أنهما سيقيمان في هذا الزواج الجديد حدود الله بإعطاء كل واحد منهما ما للآخر من حق ، ويقوم بما عليه من واجب ، لتكون المودة بينهما في ظل من الرحمن الرحيم .
هذا نظر بعض العلماء في تفسيرهم الظن باليقين ; ولكن
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري لم يرتض ذلك النظر ، ولم ير أنه يتفق مع الذوق البياني لمن يذوق كتاب الله ; ذلك بأن
[ ص: 786 ] إقامة حدود الله أمر يتعلق بالمستقبل ، والمستقبل مغيب مستور غير معلوم ، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة أن يجزم في أمر يتعلق بالمستقبل بأنه سيكون على ما يبغي وما يريد ، ولو كان يتعلق بقلبه ونيته ، فالله سبحانه مقلب القلوب ، وهو وحده علام الغيوب ، بل إن أقصى ما يستطيعه الزوجان في مثل هذا المقام أن يعتزما العشرة الحسنة ، ويطرحا أسباب الخلاف التي كانت منها الفرقة الجافية ، والتي هي أبغض الحلال إلى الله سبحانه وتعالى ، وهما مع ذلك يظنان أن في قدرتهما تنفيذ ما أرادا ، واجتناب ما كان منهما قبل تلك التجربة الشديدة .
وإنه لواضح كل الوضوح من أن الرجل إذا طلق امرأته مرة بعد مرة ، حتى أتم الثلاث ، يكون هو وهي في حاجة إلى علاج ; إذ إن العشرة بينهما صارت غير صالحة للبقاء ، وأنهما إن يتفرقا نهائيا يغن الله كلا من سعته ; فهو وهي يسيران في خطين متقاطعين ، لا يلتقيان إلا يصطدمان ، فيطلقها ، ثم يراجعها أو يعقد عليها ، حتى إذا التقيا تنابذا للمرة الثانية وتدابرا ، فيطلقها ثم يراجعها أو يعقد عليها ، حتى إذا استأنفا حياتهما الزوجية تكررت منهما المأساة ; إن ذلك هو الكفر في الإسلام ، وإن ذلك هو الظلم الذي يجب اجتثاثه من أصله ، وذلك بمنعهما من استئناف الحياة الزوجية فقد أثبتت التجربة المريرة أن الزوجية بينهما غير صالحة للبقاء ، إما لعيب فيه أو لعيب فيها أو لعيب فيهما ، وذلك هو غالب الأحوال ; لأن أحدهما لو كان خالصا من العيوب التي تتعلق بالحياة الزوجية لصبر على الثاني ، ولأصلح بصبره حاله ، ولسارت السفينة في جو هادئ لا يؤدي إلى الفصم والقطع .
وبعد تلك الفرقة المحرمة قد يحدث أن تتزوج زوجا آخر ، وتعاشره معاشرة الأزواج على قصد أن تدوم العشرة بينهما ، ولكن بعد مدة طالت أو قصرت ينتهي هذا الزواج وتزول آثاره ، إما بموت الزوج وانتهاء عدة الوفاة ، وأو بتطليقه وانتهاء عدة الطلاق ، فيبدو لزوجها الأول أن يستأنف حياة زوجية وتبادله هذه الرغبة ; عندئذ ينهي رب العالمين التحريم الذي أوجده الطلاق المكمل للثلاث ، لأنه عسى أن يكون الزمان والتجربة ، وعشرة غيره قد صقلت نفوسهما وأصلحت قلوبهما ، ولطفت من حدة النفور منهما .
[ ص: 787 ] وترى من هذا أن الزواج الذي ينهي التحريم هو الزواج غير المؤقت الذي لا يقصد به مجرد التحليل للأول ، بل الزواج الدائم المستمر ، أو الذي يكون على نية الدوام والاستمرار ; لأن الشارع الكريم جعل نهاية التحريم هو هذا الزواج والدخول فيه ثم الطلاق ; لتكون تلك التجربة الشديدة المريرة ، ولتصقل النفوس الرعناء المتمردة ; فإذا لم يكن العقد زواجا قصد به البقاء والدوام ، ما كانت تلك التجربة ، وما كان ذلك الغرض المقصود من الشارع الحكيم .
ولكن الناس ضيقوا على أمرهم ما وسع الله ، ثم أخذوا يفكون ما قيدوا أنفسهم به ; فطلقوا لأدنى ملابسة ، وطلقوا الطلقات الثلاث إما في مجلس واحد أو بلفظ واحد ، أو في دفعات متقاربة ، وقطعوا على أنفسهم الطريق ولم يفهموا قول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ثم بعد أن سدوا طريق الحلال ، وأخذوا يتحايلون لفتحه بمفاتيح من الحرام ، فأوجدوا ما سمي في عرف الناس والفقهاء "
nindex.php?page=treesubj&link=10935زواج المحلل " أي الزواج الذي لا يقصد به عاقده العشرة الزوجية الدائمة ، إنما يقصد به مجرد إحلالها للأول ; فهو في الواقع يتحايل على الأحكام الشرعية ليهدمها ، لقد جعل الشارع نهاية التحريم أن تنكح زوجا آخر زواجا شرعيا صحيحا يقصد به دوام العشرة ، ثم تجيء الفرقة عارضة لتكون تلك التجربة التي تهذب النفوس ، وتضبط الإرادة ، وتمنع الأهواء من الاندفاع ; ولكن يجيء الناس فيهدمون مقصد الشارع ويمنعون التهذيب الذي أراده ، فيكون ذلك العقد الذي ما قصد به الدوام ولا تتحقق به تجربة ، وإن كانت تسقط به المروءة ، وتنحرف النفس عن الجادة ، ويتحايلون على أوامر الله بذلك ليسقطوها ، ويخدعوا الله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=9وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون
ولقد ابتدأ ظهور ذلك النوع من الخداع الديني في صدر الإسلام ; ولذلك نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وشدد في النهي ، وتضافرت بذلك الأخبار عنه وعن الصحابة ، وسماه استهزاء بكتاب الله ، ونقتبس من تلك الآثار النبوية قبسة تضيء للناس في عصرنا ، حتى لا يضلوا ، فيضيقوا على أنفسهم واسعا ، ثم يجتهدوا في فتح باب الإثم إذ ضيقوا الحلال ، ومن ذلك :
[ ص: 788 ] ( أ ) - أنه روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال
سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحلل فقال - صلى الله عليه وسلم - : " لا ، إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ، ولا مستهزئ بكتاب الله عز وجل لم يذق العسيلة " .
( ب ) - وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود nindex.php?page=hadith&LINKID=678439أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألا أخبركم بالتيس المستعار ; قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : هو المحلل ، لعن الله المحلل والمحلل له " .
( جـ ) - وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=681479لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحب الربا وموكله وكاتبه وشاهده ، والمحلل والمحلل له " .
وهكذا تعددت الروايات والإسناد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -في هذا المعنى .
وبهذا الهدي أخذ أصحابه رضي الله عنهم ، ولم يعرف مخالف بينهم في أن هذا النوع من العقود حرام ; ولذلك قال
nindex.php?page=showalam&ids=2الفاروق رضي الله عنه : ( لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما ) فاعتبر عمل الأول زنى ; كذلك الثاني إن عقد بناء عليه ، ودخل بها يكون زانيا يستحق كلاهما عليه الرجم .
ولقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=17452جاء رجل إلى nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر يسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا ، فيتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه ، هل تحل له ؟ قال : " لا ، إلا نكاح رغبة ، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
ولقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي أن
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان رضي الله عنه تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما .
وهكذا استفاضت الأخبار عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بتحريم نكاح التحليل واعتباره خداعا للشرع . ولقد سئل
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنه ، عن رجل
[ ص: 789 ] طلق امرأته ثلاثا ثم ندم ، فقال : هو رجل عصى الله فأندمه ، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا ، فقيل له : فكيف ترى في رجل يحلها ؟ فقال : من يخادع الله يخدعه .
ولقد اتفق المسلمون على أن نكاح التحليل حرام إن قصد العاقد به التحليل " لتضافر الأخبار بلعن النبي - صلى الله عليه وسلم - له ، ولأنه يخادع الشرع الشريف ، ويتحايل لإسقاط أحكامه ; ولأنه ما قصد بالعقد زواج رغبة وبقاء ، بل قصد التحليل ، فهو عقد مؤقت ، وهو منهي عنه ، ولأن الباعث على العقد ليس أمرا أحله الشارع ، إنما هو نقيض أمره ، وكل أمر على خلاف أمر الشارع فهو رد على صاحبه ، والعبرة في الأمور الشرعية ببواعثها ونياتها ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=650001إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " فمن نوى أن يخدع الشرع بفعله فعليه إثم نيته ، ومن نوى بعقده ما أحله الله سبحانه وتعالى فله نيته .
ومع اتفاق فقهاء المسلمين على أن نكاح التحليل حرام لصريح النصوص ، إلا أنهم قد اختلفوا في بطلانه ، وفي تحليلها للمطلق الأول بمقتضى ذلك العقد ، ذلك أن بعض الفقهاء يرون أن النهي عن عقد لا يمنع صحته ، فالصحة والحل ليسا متلازمين تلازما لا يقبل الافتراق ، فالنهي عن البيع وقت الجمعة لا يقتضي بطلانه والنهي عن الزواج مع تأكد الظلم إن تزوج لا يمنع صحته إن تزوج مع هذه الحال ، وهكذا .
وبتطبيق هذه النظرية عند أولئك الفقهاء على نكاح التحليل نراهم يقررون أنه حرام ، ولكنه إن وقع فهو صحيح ، ويترتب عليه حلها للأول مع إثم الاثنين أو الثلاثة .
وأما الذين قالوا إن النهي عن عقد يقتضي بطلانه ، فقد قرروا أن
nindex.php?page=treesubj&link=10935عقد التحليل إن ثبت أنه للتحليل فهو حرام ، وغير صحيح ، ولا يترتب عليه حل للأول .
وإنا نبين موضع الخلاف بإجمال ، فنقول : إن عقد التحليل له حالان :
[ ص: 790 ] إحداهما ألا تظهر نية التحليل في أثناء العقد ، بل تختفي في أنفس الثلاثة الزوج الثاني ، والأول ، والمرأة ، فلا ينطق واحد منهم في العقد بهذه النية ، ولكنها في أطواء نفوسهم جميعا ; وفي هذه الحال قال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد : إن العقد غير صحيح ، ولا تحل للأول ; لأن الأحكام بالنيات ، والبواعث والغايات تناط بها الأحكام ، وما كان النكاح نكاح رغبة ، بل هو نكاح دلسة كما عبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو تحايل في شرع الله ، فلا يقر عليه المتحايل ، والله لا يقر أمرا جاء على خلاف ما أمر ، وهو داخل في عموم نهيه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة وأصحابه : إنه في هذه الحال ينعقد العقد صحيحا مع تحقق الإثم ، ويترتب عليه حلها للأول بعد الدخول والطلاق وانتهاء العدة ; لأن الأحكام تناط بظواهر الألفاظ ، والنيات علمها عند الله ، وهو الذي يؤاخذ عليها .
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي قد أثر عنه قولان : أحدهما وهو القديم كمذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد ، وثانيهما وهو الجديد ، كمذهب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة وفقهاء
العراق .
الحال الثانية : أن يصرح بالتحليل في العقد ، فيعقد العقد على شرطه ، وهذا قال فيه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : إنه كنكاح المتعة فهو باطل ; لأنه نكاح مؤقت ;
nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد على أصلهما وهو بطلانه وعدم حلها للأول بمقتضاه ;
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي يوافقهما كما رأينا ، وإن كان الأساس مختلفا ; فالشافعي أبطله لأنه مؤقت كنكاح المتعة ،
nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد أبطلاه لذلك ، ولأن الباعث عليه حرام ، وما كان باعثه حراما فهو حرام .
هذه أقوال الأئمة الثلاثة ، وقد وافقهم
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبو يوسف من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، من حيث إنه عقد فاسد لا يحلها للأول ; وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة وزفر : يصح العقد ويحلها للأول ; لأن اشتراط إحلالها للأول شرط فاسد ، فهو يلغى ولا يكون لازما ، ويصح العقد ، ويحلها للأول بعد استيفاء شروط الحل .
وقال محمد من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة : إن عقد الثاني صحيح مع هذا الشرط ; لأن الشرط يلغى ، ولكن هذا العقد لا يحلها للأول ، أما صحة العقد فلأن الشرط ملغى لا يلتفت إليه ، ولكن لأنه قد اشترط حلها للأول قد استعجل أمرا أخره الله
[ ص: 791 ] تعالى ، وهو بذلك قد ارتكب محرما ، وكان مستعجلا أمرا قبل أوانه ، فلا يصل إلى غايته ، كمن قتل مورثه مستعجلا ميراثه فإنه لا يرث لأنه استعجل أمرا قبل أوانه فعوقب بحرمانه .
هذه خلاصة أقوال الفقهاء في نكاح المحلل ، وهو أقبح عقود الزواج ، وترى منها أن جميع الفقهاء يرون أنه حرام ، وأنه خداع لله سبحانه وتعالى ، وأنه تحايل على إبطال أحكام الله ، وتفويت لمقاصد الشارع الحكيم ، وأن جمهور الفقهاء يرون أنه عقد فاسد لا تحل به للأول ; وإذا كان ذلك شأن عقد المحلل فليتق الله الناس في أنفسهم وأخلاقهم ومروءاتهم ، وليجنبوا أنفسهم ألفاظ الطلاق ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، ولا يضيقوا على أنفسهم ما أفسح الله لهم ; وليحفظوا على أنفسهم أعراضهم ومروءاتهم فلا يضطروا إلى ذلك العقد الذي هو إثم في إثم ; وجرم في جرم ، وتعريض الحرمات للانتهاك .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون ذيل الله سبحانه وتعالى أحكام الطلاق وعدده ، ودفعاته ، وما يترتب عليه بهذه الجملة السامية ; ومعناها أن تلك الحقوق والواجبات التي بينها سبحانه وتعالى في الطلاق من أن الزوج أحق بزوجته بعد الأولى والثانية ، ومن أن النساء لا يسوغ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ، ومن أن الطلاق ثلاث ، بعدها تحرم عليه حتى تتزوج زوجا آخر ، ومن أنه لا يحل له أن يأخذ منها شيئا إلا أن يكون فداء لنفسها خشية نشوزها . كل هذه الأحكام ، هي الحدود التي أقامها سبحانه فارقا بين العدل والظلم ، والحق والباطل ، والخطأ والصواب ، وهي التي تقوم عليها معالم الأسرة الإسلامية ; وقد بينها لقوم من شأنهم أن يعلموا الأمور على وجوهها ويدركوها على حقيقتها ، ومن لم يلتزمها فقد ضل ضلالا مبينا .
وإن ذلك التذييل الكريم يستفاد منه ثلاثة أمور :
أولها : بيان أن الأحكام الخاصة بالطلاق هي حدود حدها الشارع ، من يتجاوزها فقد تجاوز ما له إلى ما ليس له ، وترك الحلال إلى الحرام ، وترك الحق إلى
[ ص: 792 ] الباطل ; وفي ذلك حث على الطاعة ، وتحريض على التزام ما أمر الله سبحانه وتعالى .
ثانيها : الإشارة إلى أن هذه الأحكام هي المصلحة الحق ، وأن الناس إن تجاوزوها فقد تركوا الخير إلى الشر والنفع إلى الضرر .
الأمر الثالث : حث الناس على تعرف حكم الشارع وغاياته ; فإن مقاصد الشارع لا يعرفها على وجهها إلا الذين من شأنهم أن يعلموا ، ويصلوا إلى لب الحقائق ، ومرامي الأحكام الشرعية القاصية والدانية ، والله بكل شيء محيط .
* * *
[ ص: 772 ] وَإِنَّ ذَلِكَ التَّخْرِيجَ يَسْتَقِيمُ فِي ذَاتِهِ ، وَلَكِنْ قُرِنَ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=treesubj&link=10935_11694_28288_34432_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ التَّثْنِيَةِ ، لِأَنَّ بَعْدَ الثَّانِيَةِ الثَّالِثَةَ .
وَلِذَلِكَ نَخْتَارُ التَّخْرِيجَ الثَّانِيَ ، وَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229الطَّلاقُ مَرَّتَانِ أَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ ، أَيِ الطَّلَاقُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=228وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فَالطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ لِلزَّوْجِ حَقُّ مُرَاجَعَةِ زَوْجَتِهِ فِيهِ " فَالسِّيَاقُ يَكُونُ لِبَيَانِ الطَّلَاقِ الَّذِي تَبْقَى مَعَهُ عِصْمَةُ الزَّوْجِيَّةِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَهُوَ ذَكَرَ حُكْمَ الْمَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ حُكْمَ الثَّالِثَةِ ، وَتَكُونُ التَّثْنِيَةُ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ عَلَى حَقِيقَتِهَا لَا لِمُجَرَّدِ التَّكْرَارِ .
وَمَهْمَا يَكُنِ السِّيَاقُ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229الطَّلاقُ مَرَّتَانِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ الْعَدَدُ بِهِ مُرْسَلًا دُفْعَةً بَلْ هُوَ دُفْعَاتٌ وَمَرَّاتٌ ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا يَتَخَلَّلُهَا رَجْعَةٌ أَوْ عَقْدٌ جَدِيدٌ ، وَذَلِكَ لِيَتَحَقَّقَ الْمَقْصِدُ الْحَكِيمُ الَّذِي قَصَدَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ ، وَإِعْطَاءِ فُرْصَةِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ كُلِّ طَلَاقٍ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ تَكْرَارِ تِلْكَ الْفُرْصَةِ ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الثَّالِثَةُ فُصِمَ ذَلِكَ الْعَقْدُ الَّذِي أَصْبَحَ بَقَاؤُهُ شَرًّا ،
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=130وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَأَصْبَحَ مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ تَجْرِبَةٌ قَاسِيَةٌ ، عَسَاهَا تُصْلِحُ مِنْ قَلْبِ النَّاشِزِ مِنْهُمَا .
وَذَلِكَ مَا فَهِمَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ ، فَمَا كَانَ الطَّلَاقُ يَقَعُ دُفْعَةً وَاحِدَةً ، بَلْ كَانَ يَقَعُ دُفْعَاتٍ ، لِكَيْلَا يَقْطَعَ الرَّجُلُ السَّبِيلَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلِكَيْلَا يَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ ، وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَقَامِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا فَلَعَلَّ اللَّهَ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا إِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً ، أَوِ اثْنَتَيْنِ عَلَى دُفْعَتَيْنِ ، أَنْ يُحْدِثَ أَمْرًا بِإِحْلَالِ الْمَوَدَّةِ مَحَلَّ الْعَدَاوَةِ ، وَالرَّحْمَةِ مَحَلَّ الْبَغْضَاءِ ، فَتُسْتَأْنَفَ حَيَاةٌ زَوْجِيَّةٌ هَنِيئَةٌ سَعِيدَةٌ .
[ ص: 773 ] وَإِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=11753أَوْقَعَ الرَّجُلُ الطَّلَاقَ دُفْعَةً وَاحِدَةً ، وَلَمْ يُوقِعْهُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ ، أَوْ أَوْقَعَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مُتَتَابِعًا ، أَوْ أَوْقَعَهُ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ ، فَمَا حُكْمُهُ ، وَمَا مُؤَدَّاهُ ; لَا شَكَّ أَنَّ صَرِيحَ الْآيَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ الثَّالِثُ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ ثَلَاثًا ، وَلَكِنْ يَقَعُ طَلْقَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَيْسَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَلِكَيْ يَكُونَ ثِلَاثًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=11753اقْتِرَانَ الطَّلَاقِ بِكَلِمَةِ ثَلَاثٍ لَا يَجْعَلُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، بَلْ إِنَّهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَوْ وَصَفَهُ بِالْمِائَةِ ، كَمَنْ يَقُولُ أَحْلِفُ بِاللَّهِ ثَلَاثًا ، فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ ، وَكَمَنَ يَقُولُ قَرَأْتُ هَذِهِ السُّورَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَقَدْ قَرَأَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَهُوَ كَاذِبٌ .
إِنَّ كَلِمَةَ الْمَرَّةِ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، وَلِسَبَبٍ وَاحِدٍ ، وَفِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَلِغَايَةٍ وَاحِدَةٍ ، مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، تَعَدُّدُ الْأَلْفَاظِ فِي الْمَجْلِسِ ، أَوْ لِأَجْلِ السَّبَبِ ، أَوْ لِهَذِهِ الْغَايَةِ ; وَلِهَذَا قَرَّرَ كَثِيرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ
ابْنُ تَيْمِيَةَ وَتِلْمِيذُهُ
ابْنُ الْقَيِّمَ ، وَطَائِفَةٌ مِنْ شُيُوخِ
قُرْطُبَةَ ، مِنْهُمُ
ابْنُ زِنْبَاغٍ ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ بَقِيٍّ ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ،
وَإِصْبَغُ بْنُ الْحُبَابِ ، أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةً ، وَكُلُّ أُولَئِكَ قَدِ اخْتَارُوا رَأْيَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=8كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ nindex.php?page=showalam&ids=110وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=10وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ nindex.php?page=showalam&ids=15وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ nindex.php?page=showalam&ids=38وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَقَالَهُ مَنْ بَعْدِهِمْ بَعْضُ التَّابِعِينَ ، ثُمَّ تَتَابَعَ الْعُلَمَاءُ يَقُولُونَهُ .
وَقَدْ رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=16248طَاوُوسٌ nindex.php?page=hadith&LINKID=659697عَنِ nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - nindex.php?page=showalam&ids=1وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، فَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ ) فَأَمْضَاهُ .
هَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229الطَّلاقُ مَرَّتَانِ وَهَذَا مَا فَهِمَهُ مِنْهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَابِعِينَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَلَكِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ يَرَوْنَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُقْتَرِنَ بِالْعَدَدِ لَفْظًا أَوْ إِشَارَةً يَكُونُ ثَلَاثًا أَوِ اثْنَيْنِ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ
[ ص: 774 ] إِنَّهُ قَدِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى ، وَكَأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ مِنْ شَوَاذِّ الْفُتْيَا الَّذِي لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَقَدِ اسْتَنَدُوا إِلَى الْأَخْذِ بِفَتْوَى
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ ، وَادَّعَوْا أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدِ انْعَقَدَ عَلَيْهِ ، وَمِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّ طَائِفَةً كَبِيرَةً مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَتْ عَلَى ذَلِكَ الرَّأْيِ ، وَمَا كَانَ لِمِثْلِهِمْ أَنْ يَقُولُوا مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ مِنْ حَدِيثٍ صَحَّ عِنْدَهُمْ ، وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُبَيِّنُ مَا يَنْبَغِي ، وَلَا تُبَيِّنُ بُطْلَانَ سِوَاهُ ، وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا ذَلِكَ النَّوْعُ مِنَ الطَّلَاقِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْعِشْرَةُ الْحَسَنَةُ ، وَالْمُعَامَلَةُ الرَّفِيقَةُ بِأَهْلِهِ ; فَالْمَعْرُوفُ هُوَ الْخُلُقُ الْفَاضِلُ الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ ، وَتُدْرِكُهُ الْفِطَرُ الْمُسْتَقِيمَةُ ، وَتُعَالَجُ بِهِ النُّفُوسُ ، وَتَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ وَالتَّسْرِيحُ إِرْسَالُ الشَّيْءِ وَتَفْرِيقُهُ ; وَلِذَلِكَ يُقَالُ سَرَّحَ الشَّعْرَ ، أَيْ فَصَّلَهُ وَفَرَّقَهُ لِيُخَلِّصَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضِهِ ، وَيُقَالُ سَرَّحَ الْمَاشِيَةَ ، أَرْسَلَهَا وَفَرَّقَهَا فِي الْمَرْعَى .
وَلَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَ التَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ يَتَضَمَّنُ مَعَ مَا يَشْتَمِلُ مِنْ مَعْنَى التَّفْرِيقِ وَالْإِرْسَالِ ، مَعْنَى الرِّفْقِ فِي التَّفْرِيقِ ، فَلَا يُفَرِّقُ بِعُنْفٍ ، وَحَرَجٍ لِلنُّفُوسِ ، وَخَدْشٍ لِلْمُرُوءَةِ ، وَلِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، بَلْ يُفَرِّقُ فِي رِفْقٍ وَعَطْفٍ ، مِنْ غَيْرِ حِرْمَانٍ ، بَلْ بِإِعْطَاءٍ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَقَامِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=237وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ فَالْإِحْسَانُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ، بِمَعْنَى الرِّفْقِ وَالْعَطْفِ وَالتَّسَامُحِ الْمَادِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ ، فَهُوَ مِنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ ، بِمَعْنَى أَسْدَى إِلَيْهِ خَيْرًا ، أَوْ أَدَّى مَعْرُوفًا ، أَوْ أَعْطَى عَطَاءً .
[ ص: 775 ] وَوَقْتُ الْإِمْسَاكِ أَوِ التَّسْرِيحِ فِي هَذَا الْمَقَامِ ، مَقَامِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ وَمَرَّاتِهِ ، هُوَ مَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ ، أَيْ أَنَّهُ بَعْدَ إِحْدَى هَاتَيْنِ الطَّلْقَتَيْنِ ، إِمَّا إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ، بِمَعْنَى رَجْعَةٍ عَلَى نِيَّةِ الْبَقَاءِ وَالْإِصْلَاحِ ، وَاطِّرَاحِ أَسْبَابِ النِّزَاعِ وَالْخِلَافِ ، وَالْأَخْذِ بِالرِّفْقِ وَالْحُسْنَى ، وَالْعِيشَةِ الْهَنِيئَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَإِمَّا تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ، بِمَعْنَى تَرْكِهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ عِدَّتُهَا ، وَيُغْنِيَ اللَّهُ كُلَّ وَاحِدٍ عَنِ الْآخَرِ مِنْ سِعَتِهِ .
فَكَأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ السَّامِيَةَ تُشِيرُ إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي فَتْرَةِ الرَّوِيَّةِ وَالتَّفْكِيرِ ، وَهِيَ الْأَجَلُ الْمَفْرُوضُ الَّذِي تَتَرَبَّصُهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ طَلَاقِهَا ، بِأَنْ يُفَكِّرَ فِي مَاضِي أَمْرِهِ ، وَيُقَدِّرَ عَاقِبَةَ حَالِهِ إِنْ أَمْضَى الطَّلَاقَ ، فَإِنْ رَأَى أَنَّ الْحُسْنَى فِي الْإِبْقَاءِ أَبْقَاهَا عَلَى نِيَّةِ الْإِصْلَاحِ مِنْ شَأْنِهِ ، وَالتَّقْوِيمِ مِنْ مُعَوَجِّهِ ، وَالْأَخْذِ بِالرِّفْقِ ، وَإِنْ رَأَى أَنَّ الْخَيْرَ فِي التَّفْرِيقِ فَرَّقَ غَيْرَ مُجَافٍ وَلَا مُشَاقٍّ وَلَا مُضَارٍّ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=49وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ وَالتَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ مَوْضِعُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ فِي وَقْتِ النَّظَرِ وَالتَّرْوِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ مَطْلُوبًا دَائِمًا .
وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=11733الْمُرَادَ مِنَ التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ هُوَ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ ; أَيْ بَعْدِ الطَّلْقَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ يَتَرَوَّى فِي الْأَمْرِ فَيُمْسِكُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطَلِّقُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ .
وَعِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ التَّخْرِيجَ بَعِيدٌ لِوَجْهَيْنِ :
أَوَّلُهُمَا : أَنَّ التَّسْرِيحَ يَكْفِي فِيهِ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ أَنْ يَسْكُتَ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةٍ حَتَّى تَنْتَهِيَ عِدَّتُهَا ، وَلِأَنَّ التَّرْدِيدَ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالتَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي وَقْتٍ يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ ، وَالْأَنْسَبُ فِي ذَلِكَ مَا بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَهُوَ الْمُرَاجَعَةُ أَوْ تَرْكُهَا ، وَلَيْسَ الْمُنَاسِبُ فِي ذَلِكَ هُوَ إِرْدَافُ الطَّلَاقِ بِالطَّلَاقِ ، إِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيهِ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ، بَلْ فِيهِ تَضْيِيقٌ عَلَى نَفْسِهِ وَظُلْمٌ لَهَا ، إِذْ قَطَعَ السَّبِيلَ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا . وَفَوْقَ ذَلِكَ فِيهِ مُجَافَاةٌ وَمُبَالَغَةٌ فِيهَا بِإِيقَاعِ طَلَاقٍ ثَانٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهِ .
[ ص: 776 ] ثَانِيهِمَا : قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنَّ هَذِهِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ ، وَلَوْ كَانَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ هُوَ الثَّالِثَةُ لَكَانَتْ هَذِهِ رَابِعَةً ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ إِذَا كَانَ الْفِرَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَصْحُوبًا بِالْإِحْسَانِ وَالرِّفْقِ ، وَأَلَّا يَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَهُمْ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا آتَاهَا مِنْ مَالٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُجَافَاةً لَا إِحْسَانًا ; وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ ظُلْمًا لَا عَدْلَ فِيهِ ; وَلَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=20وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا
وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=19وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَإِنَّ أَخْذَ شَيْءٍ حَرَامٌ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ الْفُرْقَةِ ، وَإِنَّ الْحُرْمَةَ سَبَبُهَا أَلَّا يَجْمَعَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَمْرَيْنِ كِلَاهُمَا مُؤْذٍ لَهَا ; أَوَّلُهُمَا الْفِرَاقُ الَّذِي لَا تُرِيدُهُ ، وَثَانِيهِمَا اسْتِرْدَادُ مَا وَهَبَ . وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ : إِذَا طَابَتْ نَفْسُهَا بِذَلِكَ فَلِمَاذَا لَا يَأْخُذُ ؟ فَنَقُولُ : إِذَا كَانَ طِيبُ نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ نُشُوزٍ مِنْهَا ، وَالْبُغْضُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي رَغِبَ فِي الطَّلَاقِ وَأَرَادَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَكَارِمُ أَخْلَاقٍ مِنْهَا ، وَفَسَادُ نَفْسٍ مِنْهُ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَلَالًا ; وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=4فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَوْضُوعُهَا حَالَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=237وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَوْضُوعُهَا الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ الَّذِي يُسْقِطُ نِصْفَ الْمَهْرِ ، فَإِنَّهُمَا لَمْ تَقُمْ بَيْنَهُمَا عَشْرَةٌ زَوْجِيَّةٌ ، فَسَوَّغَ الْعَفْوَ مِنْهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ قَدْ قَبَضَتْ شَيْئًا ، أَوْ قَبَضَتْ دُونَ نِصْفِ الْمَهْرِ ; وَسَوَّغَ الْعَفْوَ مِنْهُ إِنْ كَانَتْ قَدْ قَبَضَتْ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ أَخْذٌ لِمَا أَعْطَى عِنْدَ عَفْوِهَا ، بَلْ إِسْقَاطٌ لِمَا يَجِبُ ، وَعَسَاهُ يَكُونُ فِي عُسْرَةٍ ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبَ الْفِرَاقِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ أَخْذٌ ، وَلَكِنْ كَانَ مِنْهَا إِسْقَاطٌ ، فَلَا ظُلْمَ وَلَا بُهْتَانَ .
[ ص: 777 ] وَلَمْ يُسَوِّغِ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ الْأَخْذَ إِلَّا إِذَا خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ يَحِلُّ الْأَخْذُ . وَحُدُودُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا أَوْجَبَهُ مِنْ حُقُوقٍ لِلرَّجُلِ عَلَى زَوْجَتِهِ ، وَلَهَا عَلَيْهِ ، وَهِيَ مَقَاصِدُ الزَّوَاجِ ; فَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنَ الزَّوَاجِ مَقَاصِدُهُ ، وَلَمْ تَقُمِ الْأُسْرَةُ الْهَنِيئَةُ الَّتِي تَرْبُطُ بَيْنَ آحَادِهَا الْمَوَدَّةُ الْوَاصِلَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَأَخْذُ الْمَالِ جَائِزٌ .
وَتِلْكَ الْحَالُ الَّتِي يَخَافَانِ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ، وَوَاجِبَاتِهِ ، وَحُقُوقَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، تَتَحَقَّقُ بِسَبَبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا - أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ نَاشِزًا عَاصِيَةً أَوْ كَارِهَةً ، كَتِلْكَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=654867الْمَرْأَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقُولُ : " وَاللَّهِ مَا أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ ; لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا ! فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ " - وَهِيَ الْمَهْرُ الَّذِي أَمْهَرَهَا - قَالَتْ : نَعَمْ . فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ وَلَا يَزْدَادَ ; فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ
nindex.php?page=treesubj&link=11482الْخُلْعِ ، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ .
وَأَحْيَانًا تَكُونُ الْمَرْأَةُ كَارِهَةً وَلَا تُبْدِي بُغْضَهَا بِهَذِهِ الصَّرَاحَةِ ، وَلَكِنَّهَا تُثِيرُ الشَّغَبَ فِي الْبَيْتِ لِأَتْفَهِ سَبَبٍ ، وَتَعْصِي زَوْجَهَا ، وَتَقُومُ بِالْكُفْرِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَا تَتَوَرَّعُ عَنْهُ ، وَهَذَا مَا كَرِهَتِ امْرَأَةُ
nindex.php?page=showalam&ids=215ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ الَّتِي جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِأَمْرِهَا .
ثَانِيهِمَا - أَنْ يَكُونَ بِالْمَرْأَةِ عَيْبٌ مُسْتَحْكِمٌ وَلَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْقِيَامُ بِالْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ ، فَإِنَّ أَخْذَ الْمَالِ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَكُونُ سَائِغًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نُشُوزٌ وَلَا عِصْيَانُ ; وَلِذَلِكَ سَوَّغَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=12289يَطْلُبَ الرَّجُلُ مِنَ الْقَاضِي التَّفْرِيقَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَى أَوْ بَعْضَ مَا أَعْطَى ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرِ التَّفْرِيقُ خُلْعًا .
وَإِنَّ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ كُلًّا مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ جَائِزٌ إِذَا كَانَ سَبَبُ الْفِرَاقِ مِنْ جَانِبِهَا ، أَوْ سَبَبُ عَدَمِ الْقِيَامِ بِحُدُودِ اللَّهِ وَتَحَقُّقِ الْعَدَالَةِ مِنْ جَانِبِهَا ; وَلَكِنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مُطْلَقَةٌ لَا تُقَيِّدُ فِي جَوَازِ الْأَخْذِ بِكَوْنِ النُّشُوزِ مِنْ جَانِبِهَا أَوْ مِنْ جَانِبِهِ ، بَلْ
[ ص: 778 ] يَقُولُ سُبْحَانَهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَذَلِكَ كَمَا يَكُونُ عِنْدَمَا يَكُونُ النُّشُوزُ مِنْ جَانِبِهَا ، يَكُونُ عِنْدَمَا يَكُونُ مِنْ جَانِبِهِ .
وَإِنَّ ذَلِكَ الْعُمُومَ قَدْ يَبْدُو بَادِيَ الرَّأْيِ ، وَلَكِنَّ الْمُتَأَمِّلَ الْبَصِيرَ فِي عِبَارَاتِ الْجُمْلَةِ الْكَرِيمَةِ يَسْتَنْبِطُ مِنْ إِشَارَاتِهَا أَنَّ جَوَازَ الْأَخْذِ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَكُونُ النُّشُوزُ مِنْ جَانِبِهَا أَوْ سَبَبُهُ مِنْ جَانِبِهَا ، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ كَانَ الْجَانِبُ الْأَكْبَرُ مِنْهُ يَتَّصِلُ بِهَا ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ حَالِ جَوَازِ الْأَخْذِ بِأَلَّا يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَحَالُ الْخَوْفِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ جَانِبِهِمَا مَعًا لَا مِنْ جَانِبِهَا وَحْدَهَا تَكُونُ فِي الْحَالِ الَّتِي يَكُونُ السَّبَبُ مِنْ جَانِبِهَا ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ أَنَّ الْخَوْفَ الَّذِي يَكُونُ هُوَ الْخَوْفُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبُهُ لَا ظُلْمَ فِيهِ ; وَذَلِكَ فِي غَالِبِ الْأَحْيَانِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّبَبُ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الرَّجُلِ فَهُوَ ظُلْمٌ ; إِذْ يَمْلِكُ أَنْ يُطَلِّقَ ، وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ إِذَا خَافَ أَنْ يَظْلِمَ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ ; لِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ فِي ذَاتِهِ ظُلْمٌ إِذَا كَانَ الْبُغْضُ مِنْ جَانِبِهِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=19وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ وَخَوْفُ الظُّلْمِ لَا يُبَرِّرُ ظُلْمًا آخَرَ ، وَخُصُوصًا إِذَا كَانَ ثَمَّةَ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ ، وَيَكُونُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=231وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَفَوْقَ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّسَقَ الْقُرْآنِيَّ قَدْ جَعَلَ لِلرَّجُلِ حَالَيْنِ ، وَهِيَ حَالُ الطَّلَاقِ الَّذِي لَا يَحِلُّ فِيهِ الْأَخْذُ ، وَحَالُ جَوَازِ الْأَخْذِ ، وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ قِيَامُ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى أُسُسِ الْإِصْلَاحِ وَالصَّلَاحِ ، وَقَدْ جَعَلَ الطَّلَاقَ إِذَا كَانَتِ النَّفْرَةُ مِنْ جَانِبِهِ ، فَكَانَ السِّيَاقُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الِافْتِدَاءُ إِذَا كَانَتِ الْفُرْقَةُ مَنْ قِبَلِهَا ; فَهَذِهِ حَالٌ وَتِلْكَ حَالٌ ; وَلِذَا قَالَ أَهْلُ
الْبَصْرَةِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ : إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِلَّا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عُمُومِ مَا قَبْلَهَا ، بَلْ هُوَ حَالٌ مُغَايِرَةٌ لَهُ .
وَأَخِيرًا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى عَنْ إِعْطَاءِ الْمَالِ بِأَنَّهَا تَفْتَدِي نَفْسَهَا ، أَيْ تُخَلِّصُ نَفْسَهَا بِفِدَاءٍ تُقَدِّمُهُ ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خَوْفَ عَدَمِ الْقِيَامِ بِحُدُودِ اللَّهِ هُوَ مِنْ جَانِبِهَا ، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ هُوَ مِنْ جَانِبِهَا أَظْهَرُ .
[ ص: 779 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ الْجُنَاحُ مَعْنَاهُ الْإِثْمُ ، مِنْ جَنَحَ بِمَعْنَى مَالَ . وَالِافْتِدَاءُ مَعْنَاهُ تَخْلِيصُ النَّفْسِ بِمَالٍ يُبْذَلُ لِتَخْلِيصِهَا ، وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهَا ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْفِدَى وَالْفِدَاءِ بِمَعْنَى حِفْظِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ عَنِ النَّائِبَةِ بِمَا يَبْذُلُهُ .
وَالْخِطَابُ فِي الْآيَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ مُتَعَاوِنُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، بِحَيْثُ وَجَدُوا الشَّرَّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِجَمَاعَةِ الْأَزْوَاجِ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ مَا يُخْشَى مَعَهُ أَلَّا يُقِيمَ كِلَاهُمَا حُدُودَ اللَّهِ الَّتِي رَسَمَهَا لِلْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ ، فَالْخِطَابُ لِإِبَاحَةِ الْأَخْذِ وَالْفِدَاءِ .
وَعِنْدِي أَنَّ جَعْلَ الْخِطَابِ لِجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ ، فَإِنَّ عَلَى مَنْ يَعْرِفُ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَتَدَخَّلَ بِالنُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ وَبَيَانِ حُكْمِ اللَّهِ ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْخِطَابُ عَامًّا لِجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَنَفْيُ إِثْمِ الْأَخْذِ خَاصًّا بِالزَّوْجَيْنِ ، وَلِذَا قَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ وَلَقَدْ فَهِمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْ كَوْنِ الْخِطَابِ مُوَجَّهًا إِلَى جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْخُلْعَ الَّذِي هُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي نَظِيرِ مَالٍ تَفْدِي نَفْسَهَا بِهِ ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرِ وَلِيِّ الْأَمْرِ أَوِ الْقَاضِي الَّذِي يُقِيمُهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ لِذَلِكَ ، وَقَدْ فَهِمَ هَذَا الْفَهْمَ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الْحَسَنُ الْبَصَرِيُّ ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=16972وَابْنُ سِيرِينَ ، وَكَانَ يَسِيرُ عَلَى ذَلِكَ الرَّأْيِ
nindex.php?page=showalam&ids=15935زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ فِي حُكْمِهِ ، وَقَدْ كَانَ مَقْبُولَ الْوِلَايَةِ مِنْ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ nindex.php?page=showalam&ids=8وَعَلِيٍّ ، وَكِلَاهُمَا مَكَانَتُهُ فِي الْفِقْهِ مَكَانَتُهُ .
وَإِنَّ قَصْرَ الْخُلْعِ عَلَى السُّلْطَانِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَا نَحْسُبُهُ صَوَابًا ، وَلَكِنْ نَرَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=11482الْخُلْعَ كَمَا يَجُوزُ بِتَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ إِذَا خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ، كَذَلِكَ يَجُوزُ بِأَمْرِ الْقَاضِي إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ أَنَّهُمَا لَا يُقِيمَانِ حُدُودَ اللَّهِ بِسَبَبِ نَفْرَةِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَذَلِكَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَدْ جَاءَ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا فَسَدَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَلَمْ تُعْلَمْ لَهُ أَسْبَابٌ ظَاهِرَةٌ حُكِّمَ الْحَكَمَانِ ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِشْرَةَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُمْكِنَةٍ ، فَرَّقَا بَيْنَهُمَا ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيقُ خُلْعًا إِذَا كَانَتِ الْإِسَاءَةُ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ .
[ ص: 780 ] وَمِنْ صَرِيحِ الْآيَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ; وَمِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ وَتَنَاسُقِهَا ، وَإِشَارَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَصَرِيحِ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ يُفْهَمُ أَنَّ الْخُلْعَ يَكُونُ حَيْثُ تَكُونُ النَّفْرَةُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ
ابْنُ رُشْدٍ فِي بَيَانِ الْمَقْصِدِ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْخُلْعِ : ( الْفِقْهُ أَنَّ الْفِدَاءَ إِنَّمَا جُعِلَ لِلْمَرْأَةِ فِي مُقَابِلِ مَا بِيَدِ الرَّجُلِ مِنَ الطَّلَاقِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا جُعِلَ الطَّلَاقُ بِيَدِ الرَّجُلِ إِذَا فَرَكَ الْمَرْأَةَ ، جُعِلَ الْخُلْعُ بِيَدِ الْمَرْأَةِ إِذَا فَرَكَتِ الرَّجُلَ ) وَلِهَذَا قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ إِنَّ الْخُلْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ جَانِبِهَا ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ جَانِبِهِ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ أَخْذِ الْمَالِ لِوُقُوعِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=231وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَقَرَّرُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى ، وَلَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ سَوَّغُوا الْخُلْعَ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ ، وَبِأَيِّ قَدْرٍ مِنَ الْمَالِ ، وَإِنْ كَرِهُوا الْخُلْعَ إِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ ، وَكَرِهُوا أَخْذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى .
هَذَا وَلِلْفُقَهَاءِ خِلَافٌ طَوِيلٌ فِي شَأْنِ الْخُلْعِ ، نَتْرُكُهُ لِكُتُبِ الْفِقْهِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بَعْدَ بَيَانِ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ وَأَحْوَالِهِ ، قَالَ سُبْحَانَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَالْإِشَارَةُ لِلْبَعِيدِ لِبَيَانِ عُلُوِّ قَدْرِهَا ، وَعِظَمِ مَنْزِلَتِهَا ، وَجَلَالِ مَا فِيهَا مِنْ مَصَالِحَ ظَاهِرَةٍ بَيِّنَةٍ لِذَوِي الْأَلْبَابِ ; وَسَمَّى تِلْكَ الْأَحْكَامَ حُدُودَ اللَّهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهَا فَاصِلَةٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَالْعَدْلِ ، وَالْمَصْلَحَةِ وَالْمَضَرَّةِ ; وَإِضَافَتُهَا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الْبَصِيرُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ
[ ص: 781 ] يَتَطَرَّقَ الرَّيْبُ إِلَيْهَا ، وَأَنَّ مَنْ يُخَالِفُهَا يُعَانِدُ اللَّهَ وَيُحَارِبُهُ ، وَيَتَجَنَّبُ الصَّالِحَ ، وَيَتَّبِعُ الطَّالِحَ ، وَيَتْرُكُ النَّافِعَ إِلَى مَا فِيهِ الضَّرَرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ حُدُودًا فَلَا يَصِحُّ تَجَاوُزُهَا وَتَرْكُهَا ، وَإِلَّا كَانَ مُعْتَدِيًا عَلَى حُرُمَاتِ اللَّهِ ، مُتَهَجِّمًا عَلَى شَرْعِ اللَّهِ ; وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فَلا تَعْتَدُوهَا فَالْفَاءُ هِيَ فَاءُ السَّبَبِيَّةِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّ مَا قَبْلَهَا سَبَبٌ لِمَا بَعْدَهَا ; أَيْ أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ حُدُودَ اللَّهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فَلا تَعْتَدُوهَا فَلَا تَتَجَاوَزُوهَا إِلَى الشُّقَّةِ الْحَرَامِ ، وَإِلَّا كَانَ الرَّدَى وَسُوءُ الْعُقْبَى وَفَسَادُ الْمَالِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْحُدُودَ عَدْلُ اللَّهِ الْقَائِمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَهِيَ عَدْلُهُ فِي الْأُسْرَةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الْمُجْتَمَعِ ، وَبِهَا قَامَ بُنْيَانُهُ ، فَإِذَا قَامَتْ عَلَى الظُّلْمِ انْهَارَ الْمُجْتَمَعُ مِنْ دَعَائِمِهِ .
وَلَقَدْ ذَيَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بِقَضِيَّةٍ عَامَّةٍ هِيَ فِي عُنُقِ التَّارِكِينَ لِأَحْكَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ مَنْ يَتْرُكُ أَحْكَامَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّتِي شَرَعَهَا فِي قُرْآنِهِ ، وَبَيَّنَهَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ، فَإِنَّهُ بِسَبَبِ تَرْكِهِ لَهَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَظَالِمٌ لِجَمَاعَتِهِ ، وَظَالِمٌ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ .
وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحُكْمَ عَلَى مَنْ يَتْرُكُ شَرْعَ اللَّهِ بِالظُّلْمِ ، فَقَدْ رَبَطَ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ بَيْنَ التَّعَدِّي لِحُدُودِ اللَّهِ وَالْحُكْمِ بِالظُّلْمِ ، وَتَكْرَارُ الرَّبْطِ بِالسَّبَبِيَّةِ لِلتَّوْكِيدِ ، وَعَبَّرَ بِالْإِشَارَةِ مَعَ وُجُودِ مَا يُغْنِي عَنْهَا لِتَأْكِيدِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ ، أَيْ أَنَّ السَّبَبَ فِي ظُلْمِهِمْ تَحَمُّلُهُمْ لِتِلْكَ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُعَانَدَةِ لِحُدُودِ اللَّهِ وَلِلَّهِ ، وَأَرْدَفَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ " هُمْ " وَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ ; ثُمَّ عَبَّرَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الظُّلْمَ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِمْ وَوَصْفٌ مُلَازِمٌ لَهُمْ مَا دَامُوا تَارِكِينَ لِحُدُودِهِ ; ثُمَّ كَانَ الْقَصْرُ ، أَيْ قَصْرُ الظُّلْمِ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ .
وَلِمَاذَا كَانَ ذَلِكَ التَّأْكِيدُ الشَّدِيدُ ; كَانَ لِسَبَبَيْنِ :
أَوَّلُهُمَا : أَنَّ الْإِنْسَانَ مَغْرُورٌ دَائِمًا ، وَمَحْكُومٌ نَفْسِيًّا بِأُمُورٍ زَمَنِيَّةٍ ، تُسَيْطِرُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تُلَابِسُهُ ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا الظُّلْمُ وَالضَّرَرُ ، وَيَتَوَهَّمُهُمَا الْعَدْلَ وَالْمَصْلَحَةَ ،
[ ص: 782 ] وَيَتَوَهَّمُ أَنْ لَا مَصْلَحَةَ فِي شَرْعِ اللَّهِ وَيُحَاوِلُ إِخْضَاعَ حُدُودِ اللَّهِ لِزَمَانِهِ ، أَوْ يَتْرُكُهَا ، كَشَأْنِ النَّاسِ فِي الرِّبَا وَالطَّلَاقِ وَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ إِنْ تَرَكُوا شَرْعَ اللَّهِ إِلَى أَهْوَائِهِمْ ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَهْوَاؤُهُمْ خَاضِعَةً لِحُكْمِ اللَّهِ ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=848604لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ " .
ثَانِيهِمَا : الْمَقَامُ الَّذِي سِيقَ فِيهِ ذَلِكَ النَّصُّ الْكَرِيمُ ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُسْرَةِ ، فَإِنَّ الظُّلْمَ فِيهَا أَقْبَحُ الظُّلْمِ .
وَفَّقَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْ نُدْرِكَ شَرْعَ اللَّهِ ، وَنُؤْمِنَ بِأَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا حَقَّ سِوَاهُ ، وَفِيهِ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا بِنَاءٌ اجْتِمَاعِيٌّ فَاضِلٌ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هُدَانَا اللَّهُ .
* * *
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
* * *
فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طَرِيقَةَ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ ، وَأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى دُفُعَاتٍ لَا دُفْعَةً وَاحِدَةً ، حَتَّى لَا يُضَيِّقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يُغْلِقَ بَابًا قَدْ فَتَحَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ ; وَلَعَلَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحْدِثُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ أَمْرًا
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ الطَّلَاقَ الَّذِي يَكُونُ لِلرَّجُلِ فِيهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ حَيَاةً زَوْجِيَّةً ; ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحُكْمُ إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ
[ ص: 783 ] بِافْتِدَاءِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنَ الرَّجُلِ عَلَى بَرَاءَةٍ مِنْ صَدَاقِهَا أَوْ بِمَالٍ تَدْفَعُهُ ، أَوْ بِإِسْقَاطِ حُقُوقٍ مَالِيَّةٍ نَشَأَتْ عَنِ الزَّوَاجِ ; أَوْ نَشَأَتْ حَالَ قِيَامِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ .
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يُبَيِّنُ سُبْحَانَهُ الطَّلَاقَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ بَعْدَهُ اسْتِئْنَافُ الْحَيَاةِ بَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مُؤَقَّتًا ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمُكَمِّلُ لِلثَّلَاثِ ، فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ أَيْ أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَوَّغَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ الرَّجْعَةَ بَعْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ ، أَوْ عَقْدِ زَوَاجٍ بَعْدَ انْتِهَائِهَا ، إِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ هَاتَيْنِ الطَّلْقَتَيْنِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدِ طَلَاقِهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ; فَمَعْنَى " تَنْكِحَ " : تَتَزَوَّجُ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ .
فَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ السَّامِيَةِ بَيَانٌ لِانْتِهَاءِ الْحِلِّ بِالطَّلَاقِ الثَّالِثِ ، وَإِثْبَاتُ الْحُرْمَةِ وَوُقُوعُهُ ، كَمَا أَنَّ فِيهَا بَيَانَ انْتِهَاءِ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ ، فَهِيَ قَدْ حَدَّتِ الْمَبْدَأَ وَالْغَايَةَ ; فَمَبْدَأُ التَّحْرِيمِ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ ، وَيَنْتَهِي التَّحْرِيمُ بَعْدَ تَزَوُّجِ شَخْصٍ آخَرَ ، وَالدُّخُولِ بِهَا ، ثُمَّ تَطْلِيقُهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ .
وَالنِّكَاحُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ هُوَ الزَّوَاجُ وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الزَّوَاجَ ثُمَّ الطَّلَاقَ مِنْ بَعْدِهِ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الدُّخُولِ ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ
nindex.php?page=showalam&ids=15990سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ; وَلَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ثُمَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعِينَ قَدْ قَرَّرُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الدُّخُولِ الْحَقِيقِيِّ لِكَيْ تَحِلَّ لَهُ ، وَذَلِكَ لِنَصِّ الْحَدِيثِ الْمُخَصِّصِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ ; فَقَدْ وَرَدَ فِي
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=17080وَمُسْلِمٍ ، وَمُسْنَدِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَمُسْنَدِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=25عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=652445جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ : إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ ، فَطَلَّقَنِي ، فَبَتَّ طَلَاقِي ، فَتَزَوَّجَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَمَا مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ ; فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : " أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ ؟ لَا ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، وَيَذُوقُ عُسَيْلَتَكِ " وَوَاضِحٌ أَنَّ مَعْنَى ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ أَنْ يُفْضِيَ إِلَيْهَا وَيَدْخُلَ بِهَا .
[ ص: 784 ] وَقَدْ تَعَدَّدَتْ رِوَايَاتُ الْحَدِيثِ بِهَذَا الْمَعْنَى ، فَكَانَ حَدِيثًا مُسْتَفِيضًا مَشْهُورًا ، وَهُوَ يُخَصِّصُ عُمُومَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ، بَلْ هُوَ فِي الْحَقِّ تَفْسِيرٌ لِظَاهِرِهِ ، وَلَيْسَ بَعْدَ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكِتَابِ اللَّهِ تَفْسِيرٌ ، وَعَلَى هَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ قَبْلَ
nindex.php?page=showalam&ids=15990سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَهُ ، فَقَوْلُهُ مِنْ شَوَاذِّ الْفُتْيَا الَّتِي لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ أَيْ فَإِنْ طَلَّقَ الزَّوْجُ الثَّانِي ، فَلَا جُنَاحَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا الْأَوَّلِ أَنْ يَتَرَاجَعَا ، أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا فِي أَنْ يَسْتَأْنِفَا حَيَاةً زَوْجِيَّةً جَدِيدَةً ، فَالضَّمِيرُ فِي " عَلَيْهِمَا " يَعُودُ إِلَى الْمَرْأَةِ وَالزَّوْجِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَهُمَا هِيَ مَسَاقُ الْآيَةِ الْأَوَّلُ ، فَقَدْ بَيَّنَتِ الْآيَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=11733_11740التَّحْرِيمَ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ ، وَأَنَّهُ يَنْتَهِي بِالزَّوَاجِ مِنَ الثَّانِي وَالتَّطْلِيقِ مِنْهُ ، ثُمَّ صَرَّحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ السَّامِيَةُ بِابْتِدَاءِ الْحِلِّ بَعْدَ انْتِهَائِهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالطَّلَاقِ مِنَ الثَّانِي وَزَوَالِ بَقَايَا النِّكَاحِ الثَّانِي وَآثَارِهِ بِانْتِهَاءِ الْعِدَّةِ ; فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْكَرِيمَةُ تَوْضِيحٌ لِابْتِدَاءِ الْحِلِّ ، كَمَا كَانَتِ الْأُولَى فِيهَا بَيَانٌ لِابْتِدَاءِ التَّحْرِيمِ وَإِشَارَةٌ إِلَى انْتِهَائِهِ .
وَعَلَى هَذَا سَارَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ ، وَكَلَامُهُمْ وَاضِحٌ بَيِّنٌ ، وَلَكِنِ اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ
الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي " عَلَيْهِمَا " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا يَعُودُ عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي وَالْمَرْأَةِ لَا عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=228وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا
فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى جَدِيدٍ ، لَمْ يَتَضَمَّنْهُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي سَبَقَتْهَا ، وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ الزَّوَاجَ الثَّانِيَ يَكُونُ كَكُلِّ أَنْوَاعِ الزَّوَاجِ ، وَلَهُ كُلُّ أَحْكَامِهَا وَحُدُودِهَا ، فَلَا يَكُونُ زَوَاجًا مُؤَقَّتًا ، وَلَا لِغَرَضٍ مُؤَقَّتٍ ، إِنَّمَا يُعْقَدُ لِلْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ وَيُقْصَدُ فِيهِ مَعْنَى الزَّوَاجِ كَامِلًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ ، وَقَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ أَحَقُّ بِهَا ، فَدَفَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=12739_11733الْمُرَاجَعَةَ فِي الْعِدَّةِ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْمُطَلِّقِ الثَّانِي ، وَهُوَ أَوْلَى بِمُقْتَضَى الْحُكْمِ الْعَامِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّصُّ الَّذِي نَوَّهْنَا عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=228وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [ ص: 785 ] وَقَدْ يَعْتَرِضُ مُعْتَرِضٌ عَلَى ذَلِكَ الرَّأْيِ فَيَقُولُ : إِنَّهُ لَا يُوجَدُ عَلَى ذَلِكَ التَّخْرِيجِ مَا يُفِيدُ حِلَّهَا لِلْأَوَّلِ ، فَنَقُولُ فِي رَدِّ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضِ : إِنَّ الْحِلَّ بِالزَّوَاجِ ثُمَّ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَانْتِهَاءِ الْعِدَّةِ فُهِمَ مِنَ انْتِهَاءِ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَالتَّحْرِيمُ مُؤَقَّتٌ بِتَوْقِيتٍ زَمَنِيٍّ غَيْرِ مَعْلُومٍ يَنْتَهِي بِالزَّوَاجِ الثَّانِي ، وَزَوَالِ سَائِرِ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ الْأُخْرَى .
وَمَهْمَا يَكُنْ مِنَ الْأَمْرِ ، فَإِنَّ السِّيَاقَ يَسِيرُ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِشَأْنِ الْمَرْأَةِ مَعَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ، وَالْكَلَامُ فِي الزَّوْجِ الثَّانِي جَاءَ لِتَتْمِيمِ الْكَلَامِ فِي الزَّوَاجِ الْأَوَّلِ وَإِنْهَائِهِ ، وَمَدَى ذَلِكَ الْإِنْهَاءِ ; وَيُزَكِّي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَبَّرَ عَنْ عَوْدَةِ الزَّوَاجِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230أَنْ يَتَرَاجَعَا وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الرَّجْعَةَ مَا عَبَّرَ بِصِيغَةِ الْمُشَارَكَةِ ; لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِهَا الزَّوْجُ إِنْ كَانَ الثَّانِيَ .
وَحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ مَنُوطٌ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ مُقَرَّرٍ ثَابِتٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا قَدِ انْتَفَعَا مِنْ ذَلِكَ الدَّرْسِ الْقَاسِي ، وَهُوَ الْفُرْقَةُ الْمُحَرِّمَةُ بَيْنَهُمَا ، وَتَجْرِبَتُهَا عِشْرَةَ غَيْرِهِ ، وَتَجْرِبَتُهُ لِرُؤْيَتِهَا عَشِيرَةً لِسِوَاهُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي بَيَانِ إِنْهَاءِ التَّحْرِيمِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَنَفْيُ الْإِثْمِ فِي الْعَوْدَةِ إِلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ مَرْبُوطٌ دِينِيًّا وَقَلْبِيًّا بِقَصْدِهِمَا إِلَى الْعِشْرَةِ الْحَسَنَةِ وَإِرَادَتِهِمَا لَهَا ، وَظَنِّهِمَا الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا ، وَزَوَالَ النَّفْرَةِ الَّتِي كَانَتْ تُوجِبُ الشِّقَاقَ وَالنِّزَاعَ ، وَتُؤَدِّي إِلَى الطَّلَاقِ وَتَكْرَارِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى .
وَقَدْ فَهِمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّنِّ هُنَا هُوَ الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ ; فَالْمُرَادُ إِنْ تَيَقَّنَا أَنَّهُمَا سَيُقِيمَانِ حُدُودَ اللَّهِ ، فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَقَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا بِمُحَرِّمٍ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ الْمُتَكَرِّرِ ، أَنْ يَسْتَأْنِفَا حَيَاةً زَوْجِيَّةً بَعْدَ زَوَالِ التَّحْرِيمِ إِلَّا إِذَا عَلِمَا عَلَى وَجْهِ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ أَنَّهُمَا سَيُقِيمَانِ فِي هَذَا الزَّوَاجِ الْجَدِيدِ حُدُودَ اللَّهِ بِإِعْطَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لِلْآخَرِ مِنْ حَقٍّ ، وَيَقُومُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبٍ ، لِتَكُونَ الْمَوَدَّةُ بَيْنَهُمَا فِي ظِلٍّ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
هَذَا نَظَرُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِهِمُ الظَّنَّ بِالْيَقِينِ ; وَلَكِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَرْتَضِ ذَلِكَ النَّظَرَ ، وَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَتَّفِقُ مَعَ الذَّوْقِ الْبَيَانِيِّ لِمَنْ يَذُوقُ كِتَابَ اللَّهِ ; ذَلِكَ بِأَنَّ
[ ص: 786 ] إِقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ ، وَالْمُسْتَقْبَلُ مَغِيبٌ مَسْتُورٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ أَنْ يَجْزِمَ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ عَلَى مَا يَبْغِي وَمَا يُرِيدُ ، وَلَوْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِقَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ ، وَهُوَ وَحْدَهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، بَلْ إِنَّ أَقْصَى مَا يَسْتَطِيعُهُ الزَّوْجَانِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يَعْتَزِمَا الْعِشْرَةَ الْحَسَنَةَ ، وَيَطْرَحَا أَسْبَابَ الْخِلَافِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهَا الْفُرْقَةُ الْجَافِيَةُ ، وَالَّتِي هِيَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَهُمَا مَعَ ذَلِكَ يَظُنَّانِ أَنَّ فِي قُدْرَتِهِمَا تَنْفِيذَ مَا أَرَادَا ، وَاجْتِنَابَ مَا كَانَ مِنْهُمَا قَبْلَ تِلْكَ التَّجْرِبَةِ الشَّدِيدَةِ .
وَإِنَّهُ لِوَاضِحٌ كُلَّ الْوُضُوحِ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، حَتَّى أَتَمَّ الثَّلَاثَ ، يَكُونُ هُوَ وَهِيَ فِي حَاجَةٍ إِلَى عِلَاجٍ ; إِذْ إِنَّ الْعِشْرَةَ بَيْنَهُمَا صَارَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلْبَقَاءِ ، وَأَنَّهُمَا إِنْ يَتَفَرَّقَا نِهَائِيًّا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سِعَتِهِ ; فَهُوَ وَهِيَ يَسِيرَانِ فِي خَطَّيْنِ مُتَقَاطِعَيْنِ ، لَا يَلْتَقِيَانِ إِلَّا يَصْطَدِمَانِ ، فَيُطَلِّقُهَا ، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا أَوْ يَعْقِدُ عَلَيْهَا ، حَتَّى إِذَا الْتَقَيَا تَنَابَذَا لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَتَدَابَرَا ، فَيُطَلِّقُهَا ثُمَّ يُرَاجِعُهَا أَوْ يَعْقِدُ عَلَيْهَا ، حَتَّى إِذَا اسْتَأْنَفَا حَيَاتَهُمَا الزَّوْجِيَّةَ تَكَرَّرَتْ مِنْهُمَا الْمَأْسَاةُ ; إِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الظُّلْمُ الَّذِي يَجِبُ اجْتِثَاثُهُ مِنْ أَصْلِهِ ، وَذَلِكَ بِمَنْعِهِمَا مِنَ اسْتِئْنَافِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ فَقَدْ أَثْبَتَتِ التَّجْرِبَةُ الْمَرِيرَةُ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلْبَقَاءِ ، إِمَّا لِعَيْبٍ فِيهِ أَوْ لِعَيْبٍ فِيهَا أَوْ لِعَيْبٍ فِيهِمَا ، وَذَلِكَ هُوَ غَالِبُ الْأَحْوَالِ ; لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ كَانَ خَالِصًا مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ لَصَبَرَ عَلَى الثَّانِي ، وَلِأَصْلَحَ بِصَبْرِهِ حَالَهُ ، وَلَسَارَتِ السَّفِينَةُ فِي جَوٍّ هَادِئٍ لَا يُؤَدِّي إِلَى الْفَصْمِ وَالْقَطْعِ .
وَبَعْدَ تِلْكَ الْفُرْقَةِ الْمُحَرِّمَةِ قَدْ يَحْدُثُ أَنْ تَتَزَوَّجَ زَوْجًا آخَرَ ، وَتُعَاشِرَهُ مُعَاشَرَةَ الْأَزْوَاجِ عَلَى قَصْدِ أَنْ تَدُومَ الْعِشْرَةُ بَيْنَهُمَا ، وَلَكِنْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ يَنْتَهِي هَذَا الزَّوَاجُ وَتَزُولُ آثَارُهُ ، إِمَّا بِمَوْتِ الزَّوْجِ وَانْتِهَاءِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ ، وَأَوْ بِتَطْلِيقِهِ وَانْتِهَاءِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ ، فَيَبْدُو لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ حَيَاةً زَوْجِيَّةً وَتَبَادُلَهُ هَذِهِ الرَّغْبَةَ ; عِنْدَئِذٍ يُنْهِي رَبُّ الْعَالَمِينَ التَّحْرِيمَ الَّذِي أَوْجَدَهُ الطَّلَاقُ الْمُكَمِّلُ لِلثَّلَاثِ ، لِأَنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ وَالتَّجْرِبَةُ ، وَعِشْرَةُ غَيْرِهِ قَدْ صَقَلَتْ نُفُوسَهُمَا وَأَصْلَحَتْ قُلُوبَهُمَا ، وَلَطَّفَتْ مِنْ حِدَّةِ النُّفُورِ مِنْهُمَا .
[ ص: 787 ] وَتَرَى مِنْ هَذَا أَنَّ الزَّوَاجَ الَّذِي يُنْهِي التَّحْرِيمَ هُوَ الزَّوَاجُ غَيْرُ الْمُؤَقَّتِ الَّذِي لَا يُقْصَدُ بِهِ مُجَرَّدُ التَّحْلِيلِ لِلْأَوَّلِ ، بَلِ الزَّوَاجُ الدَّائِمُ الْمُسْتَمِرُّ ، أَوِ الَّذِي يَكُونُ عَلَى نِيَّةِ الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ ; لِأَنَّ الشَّارِعَ الْكَرِيمَ جَعَلَ نِهَايَةَ التَّحْرِيمِ هُوَ هَذَا الزَّوَاجُ وَالدُّخُولُ فِيهِ ثُمَّ الطَّلَاقُ ; لِتَكُونَ تِلْكَ التَّجْرِبَةُ الشَّدِيدَةُ الْمَرِيرَةُ ، وَلِتُصْقِلَ النُّفُوسَ الرَّعْنَاءَ الْمُتَمَرِّدَةَ ; فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَقْدُ زَوَاجًا قُصِدَ بِهِ الْبَقَاءُ وَالدَّوَامُ ، مَا كَانَتْ تِلْكَ التَّجْرِبَةُ ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ .
وَلَكِنَّ النَّاسَ ضَيَّقُوا عَلَى أَمْرِهِمْ مَا وَسَّعَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَخَذُوا يَفُكُّونَ مَا قَيَّدُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ ; فَطَلَّقُوا لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ ، وَطَلَّقُوا الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ إِمَّا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، أَوْ فِي دُفُعَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ ، وَقَطَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَفْهَمُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ثُمَّ بَعْدَ أَنْ سَدُّوا طَرِيقَ الْحَلَالِ ، وَأَخَذُوا يَتَحَايَلُونَ لِفَتْحِهِ بِمَفَاتِيحَ مِنَ الْحَرَامِ ، فَأَوْجَدُوا مَا سُمِّيَ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَالْفُقَهَاءِ "
nindex.php?page=treesubj&link=10935زَوَاجَ الْمُحَلِّلِ " أَيِ الزَّوَاجُ الَّذِي لَا يَقْصِدُ بِهِ عَاقِدُهُ الْعِشْرَةَ الزَّوْجِيَّةَ الدَّائِمَةَ ، إِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ مُجَرَّدَ إِحْلَالِهَا لِلْأَوَّلِ ; فَهُوَ فِي الْوَاقِعِ يَتَحَايَلُ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِيَهْدِمَهَا ، لَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ نِهَايَةَ التَّحْرِيمِ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا آخَرَ زَوَاجًا شَرْعِيًّا صَحِيحًا يُقْصَدُ بِهِ دَوَامُ الْعَشْرَةِ ، ثُمَّ تَجِيءُ الْفُرْقَةُ عَارِضَةً لِتَكُونَ تِلْكَ التَّجْرِبَةُ الَّتِي تُهَذِّبُ النُّفُوسَ ، وَتَضْبُطُ الْإِرَادَةَ ، وَتَمْنَعُ الْأَهْوَاءَ مِنَ الِانْدِفَاعِ ; وَلَكِنْ يَجِيءُ النَّاسُ فَيَهْدِمُونَ مَقْصِدَ الشَّارِعِ وَيَمْنَعُونَ التَّهْذِيبَ الَّذِي أَرَادَهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْعَقْدُ الَّذِي مَا قُصِدَ بِهِ الدَّوَامُ وَلَا تَتَحَقَّقُ بِهِ تَجْرِبَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ تَسْقُطُ بِهِ الْمُرُوءَةُ ، وَتَنْحَرِفُ النَّفْسُ عَنِ الْجَادَّةِ ، وَيَتَحَايَلُونَ عَلَى أَوَامِرِ اللَّهِ بِذَلِكَ لِيُسْقِطُوهَا ، وَيَخْدَعُوا اللَّهَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=9وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
وَلَقَدِ ابْتَدَأَ ظُهُورُ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْخِدَاعِ الدِّينِيِّ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ; وَلِذَلِكَ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَدَّدَ فِي النَّهْيِ ، وَتَضَافَرَتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ عَنْهُ وَعَنِ الصَّحَابَةِ ، وَسَمَّاهُ اسْتِهْزَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَنَقْتَبِسُ مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ قَبْسَةً تُضِيءُ لِلنَّاسِ فِي عَصْرِنَا ، حَتَّى لَا يَضِلُّوا ، فَيُضَيِّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَاسِعًا ، ثُمَّ يَجْتَهِدُوا فِي فَتْحِ بَابِ الْإِثْمِ إِذْ ضَيَّقُوا الْحَلَالَ ، وَمِنْ ذَلِكَ :
[ ص: 788 ] ( أَ ) - أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُحَلِّلِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا ، إِلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ ، وَلَا مُسْتَهْزِئٍ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَذُقِ الْعُسَيْلَةَ " .
( بَ ) - وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَدُ nindex.php?page=showalam&ids=15397وَالنَّسَائِيُّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ nindex.php?page=hadith&LINKID=678439أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ; قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : هُوَ الْمُحَلِّلُ ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ " .
( جَـ ) - وَرُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=681479لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاحِبَ الرِّبَا وَمُوَكِّلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ ، وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ " .
وَهَكَذَا تَعَدَّدَتِ الرِّوَايَاتُ وَالْإِسْنَادُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي هَذَا الْمَعْنَى .
وَبِهَذَا الْهَدْيِ أَخَذَ أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُعْرَفْ مُخَالِفٌ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعُقُودِ حَرَامٌ ; وَلِذَلِكَ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=2الْفَارُوقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إِلَّا رَجَمْتُهُمَا ) فَاعْتَبَرَ عَمَلَ الْأَوَّلِ زِنًى ; كَذَلِكَ الثَّانِي إِنْ عَقَدَ بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَدَخَلَ بِهَا يَكُونُ زَانِيًا يَسْتَحِقُّ كِلَاهُمَا عَلَيْهِ الرَّجْمَ .
وَلَقَدْ
nindex.php?page=hadith&LINKID=17452جَاءَ رَجُلٌ إِلَى nindex.php?page=showalam&ids=12عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ، فَيَتَزَوَّجُهَا أَخٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ مِنْهُ لِيُحِلَّهَا لِأَخِيهِ ، هَلْ تَحِلُّ لَهُ ؟ قَالَ : " لَا ، إِلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ ، كُنَّا نَعُدُّ هَذَا سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " .
وَلَقَدْ رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=13933الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=7عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا .
وَهَكَذَا اسْتَفَاضَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ وَاعْتِبَارِهِ خِدَاعًا لِلشَّرْعِ . وَلَقَدْ سُئِلَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ رَجُلٍ
[ ص: 789 ] طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ نَدِمَ ، فَقَالَ : هُوَ رَجُلٌ عَصَى اللَّهَ فَأَنْدَمَهُ ، وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، فَقِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ يُحِلُّهَا ؟ فَقَالَ : مَنْ يُخَادِعُ اللَّهَ يَخْدَعُهُ .
وَلَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ التَّحْلِيلِ حَرَامٌ إِنْ قَصَدَ الْعَاقِدُ بِهِ التَّحْلِيلَ " لِتَضَافُرِ الْأَخْبَارِ بِلَعْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ ، وَلِأَنَّهُ يُخَادِعُ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ ، وَيَتَحَايَلُ لِإِسْقَاطِ أَحْكَامِهِ ; وَلِأَنَّهُ مَا قَصَدَ بِالْعَقْدِ زَوَاجَ رَغْبَةٍ وَبَقَاءٍ ، بَلْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ ، فَهُوَ عَقْدٌ مُؤَقَّتٌ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الْعَقْدِ لَيْسَ أَمْرًا أَحَلَّهُ الشَّارِعُ ، إِنَّمَا هُوَ نَقِيضُ أَمْرِهِ ، وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَى خِلَافِ أَمْرِ الشَّارِعِ فَهُوَ رَدٌّ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ بِبَوَاعِثِهَا وَنِيَّاتِهَا ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=650001إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " فَمَنْ نَوَى أَنْ يَخْدَعَ الشَّرْعَ بِفِعْلِهِ فَعَلَيْهِ إِثْمُ نِيَّتِهِ ، وَمِنْ نَوَى بِعَقْدِهِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَهُ نِيَّتُهُ .
وَمَعَ اتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ التَّحْلِيلِ حَرَامٌ لِصَرِيحِ النُّصُوصِ ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي بُطْلَانِهِ ، وَفِي تَحْلِيلِهَا لِلْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْعَقْدِ ، ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ عَقْدٍ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ ، فَالصِّحَّةُ وَالْحِلُّ لَيْسَا مُتَلَازِمَيْنِ تَلَازُمًا لَا يَقْبَلُ الِافْتِرَاقَ ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ وَقْتَ الْجُمُعَةِ لَا يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ وَالنَّهْيُ عَنِ الزَّوَاجِ مَعَ تَأَكُّدِ الظُّلْمِ إِنْ تَزَوَّجَ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ إِنْ تَزَوَّجَ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ ، وَهَكَذَا .
وَبِتَطْبِيقِ هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ عِنْدَ أُولَئِكَ الْفُقَهَاءِ عَلَى نِكَاحِ التَّحْلِيلِ نَرَاهُمْ يُقَرِّرُونَ أَنَّهُ حَرَامٌ ، وَلَكِنَّهُ إِنْ وَقَعَ فَهُوَ صَحِيحٌ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حِلُّهَا لِلْأَوَّلِ مَعَ إِثْمِ الِاثْنَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةِ .
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ النَّهْيَ عَنْ عَقْدٍ يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ ، فَقَدْ قَرَّرُوا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=10935عَقْدَ التَّحْلِيلِ إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لِلتَّحْلِيلِ فَهُوَ حَرَامٌ ، وَغَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حِلٌّ لِلْأَوَّلِ .
وَإِنَّا نُبَيِّنُ مَوْضِعَ الْخِلَافِ بِإِجْمَالٍ ، فَنَقُولُ : إِنَّ عَقْدَ التَّحْلِيلِ لَهُ حَالَانِ :
[ ص: 790 ] إِحْدَاهُمَا أَلَّا تَظْهَرَ نِيَّةُ التَّحْلِيلِ فِي أَثْنَاءِ الْعَقْدِ ، بَلْ تَخْتَفِي فِي أَنْفُسِ الثَّلَاثَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي ، وَالْأَوَّلِ ، وَالْمَرْأَةِ ، فَلَا يَنْطِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي الْعَقْدِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ ، وَلَكِنَّهَا فِي أَطْوَاءِ نُفُوسِهِمْ جَمِيعًا ; وَفِي هَذِهِ الْحَالِ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكٌ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدُ : إِنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ بِالنِّيَّاتِ ، وَالْبَوَاعِثُ وَالْغَايَاتُ تُنَاطُ بِهَا الْأَحْكَامُ ، وَمَا كَانَ النِّكَاحُ نِكَاحَ رَغْبَةٍ ، بَلْ هُوَ نِكَاحُ دُلْسَةٍ كَمَا عَبَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَهُوَ تَحَايُلٌ فِي شَرْعِ اللَّهِ ، فَلَا يُقَرُّ عَلَيْهِ الْمُتَحَايِلُ ، وَاللَّهُ لَا يُقِرُّ أَمْرًا جَاءَ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ نَهْيِهِ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ : إِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ صَحِيحًا مَعَ تَحَقُّقِ الْإِثْمِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حِلُّهَا لِلْأَوَّلِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالطَّلَاقِ وَانْتِهَاءِ الْعِدَّةِ ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تُنَاطُ بِظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ ، وَالنِّيَّاتُ عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ ، وَهُوَ الَّذِي يُؤَاخِذُ عَلَيْهَا .
nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيُّ قَدْ أُثِرَ عَنْهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْقَدِيمُ كَمَذْهَبِ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكٍ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدَ ، وَثَانِيهِمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ ، كَمَذْهَبِ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ وَفُقَهَاءِ
الْعِرَاقِ .
الْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُصَرِّحَ بِالتَّحْلِيلِ فِي الْعَقْدِ ، فَيُعْقَدُ الْعَقْدُ عَلَى شَرْطِهِ ، وَهَذَا قَالَ فِيهِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : إِنَّهُ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ نِكَاحٌ مُؤَقَّتٌ ;
nindex.php?page=showalam&ids=16867وَمَالِكٌ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدُ عَلَى أَصْلِهِمَا وَهُوَ بُطْلَانُهُ وَعَدَمُ حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ بِمُقْتَضَاهُ ;
nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيُّ يُوَافِقُهُمَا كَمَا رَأَيْنَا ، وَإِنْ كَانَ الْأَسَاسُ مُخْتَلِفًا ; فَالشَّافِعِيُّ أَبْطَلَهُ لِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=16867وَمَالِكٌ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدُ أَبْطَلَاهُ لِذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ حَرَامٌ ، وَمَا كَانَ بَاعِثُهُ حَرَامًا فَهُوَ حَرَامٌ .
هَذِهِ أَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ
nindex.php?page=showalam&ids=14954أَبُو يُوسُفَ مِنْ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ لَا يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ ; وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ : يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ ; لِأَنَّ اشْتِرَاطَ إِحْلَالِهَا لِلْأَوَّلِ شَرْطٌ فَاسِدٌ ، فَهُوَ يُلْغَى وَلَا يَكُونُ لَازِمًا ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ ، وَيُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ الْحِلِّ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ مِنْ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ : إِنَّ عَقْدَ الثَّانِي صَحِيحٌ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ يُلْغَى ، وَلَكِنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ ، أَمَّا صِحَّةُ الْعَقْدِ فَلِأَنَّ الشَّرْطَ مُلْغَى لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَطَ حِلَّهَا لِلْأَوَّلِ قَدِ اسْتَعْجَلَ أَمْرًا أَخَّرَهُ اللَّهُ
[ ص: 791 ] تَعَالَى ، وَهُوَ بِذَلِكَ قَدِ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا ، وَكَانَ مُسْتَعْجِلًا أَمْرًا قَبْلَ أَوَانِهِ ، فَلَا يَصِلُ إِلَى غَايَتِهِ ، كَمَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ مُسْتَعْجِلًا مِيرَاثَهُ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ أَمْرًا قَبْلَ أَوَانِهِ فَعُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ .
هَذِهِ خُلَاصَةُ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ ، وَهُوَ أَقْبَحُ عُقُودِ الزَّوَاجِ ، وَتَرَى مِنْهَا أَنَّ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُ حَرَامٌ ، وَأَنَّهُ خِدَاعٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَأَنَّهُ تَحَايُلٌ عَلَى إِبْطَالِ أَحْكَامِ اللَّهِ ، وَتَفْوِيتٌ لِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ ، وَأَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ لَا تَحِلُّ بِهِ لِلْأَوَّلِ ; وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ شَأْنَ عَقْدِ الْمُحَلِّلِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ النَّاسُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَمُرُوءَاتِهِمْ ، وَلِيُجَنِّبُوا أَنْفُسَهُمْ أَلْفَاظَ الطَّلَاقِ مَا اسْتَطَاعُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا ، وَلَا يُضَيِّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا أَفْسَحَ اللَّهُ لَهُمْ ; وَلْيَحْفَظُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَعْرَاضَهُمْ وَمُرُوءَاتِهِمْ فَلَا يَضْطَرُّوا إِلَى ذَلِكَ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ إِثْمٌ فِي إِثْمٍ ; وَجُرْمٍ فِي جُرْمٍ ، وَتَعْرِيضُ الْحُرُمَاتِ لِلِانْتِهَاكِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=230وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ذَيَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَامَ الطَّلَاقِ وَعَدَدَهُ ، وَدُفْعَاتِهِ ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ السَّامِيَةِ ; وَمَعْنَاهَا أَنَّ تِلْكَ الْحُقُوقَ وَالْوَاجِبَاتِ الَّتِي بَيَّنَهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الطَّلَاقِ مِنْ أَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِزَوْجَتِهِ بَعْدَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ، وَمِنْ أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَسُوغُ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ، وَمِنْ أَنَّ الطَّلَاقَ ثَلَاثٌ ، بَعْدَهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ زَوْجًا آخَرَ ، وَمِنْ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِدَاءً لِنَفْسِهَا خَشْيَةَ نُشُوزِهَا . كُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ، هِيَ الْحُدُودُ الَّتِي أَقَامَهَا سُبْحَانَهُ فَارِقًا بَيْنَ الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَالْخَطَأِ وَالصَّوَابِ ، وَهِيَ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا مَعَالِمُ الْأُسْرَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ; وَقَدْ بَيَّنَهَا لِقَوْمٍ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا الْأُمُورَ عَلَى وُجُوهِهَا وَيُدْرِكُوهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا ، وَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْهَا فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا .
وَإِنَّ ذَلِكَ التَّذْيِيلَ الْكَرِيمَ يُسْتَفَادُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ :
أَوَّلُهَا : بَيَانُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْخَاصَّةَ بِالطَّلَاقِ هِيَ حُدُودٌ حَدَّهَا الشَّارِعُ ، مَنْ يَتَجَاوَزُهَا فَقَدْ تَجَاوَزَ مَا لَهُ إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ ، وَتَرَكَ الْحَلَالَ إِلَى الْحَرَامِ ، وَتَرَكَ الْحَقَّ إِلَى
[ ص: 792 ] الْبَاطِلِ ; وَفِي ذَلِكَ حَثٌّ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَتَحْرِيضٌ عَلَى الْتِزَامِ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
ثَانِيهَا : الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ هِيَ الْمَصْلَحَةُ الْحَقُّ ، وَأَنَّ النَّاسَ إِنْ تَجَاوَزُوهَا فَقَدْ تَرَكُوا الْخَيْرَ إِلَى الشَّرِّ وَالنَّفْعِ إِلَى الضَّرَرِ .
الْأَمْرُ الثَّالِثُ : حَثُّ النَّاسِ عَلَى تَعَرُّفِ حُكْمِ الشَّارِعِ وَغَايَاتِهِ ; فَإِنَّ مَقَاصِدَ الشَّارِعِ لَا يَعْرِفُهَا عَلَى وَجْهِهَا إِلَّا الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا ، وَيَصِلُوا إِلَى لُبِّ الْحَقَائِقِ ، وَمَرَامِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَاصِيَةِ وَالدَّانِيَةِ ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ .
* * *