الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قوله ( والإبراء عن الدين ) بأن قال أبرأتك عن ديني على أن تخدمني شهرا أو إن قدم فلان ; لأنه تمليك من وجه حتى يرتد بالرد وإن كان فيه معنى الإسقاط فيكون معتبرا بالتمليكات فلا يجوز تعليقه بالشرط ، كذا ذكره العيني قيد بالدين ; لأن الإبراء عن الكفالة يصح تعليقه بشرط ملائم كقوله إن وافيت به غدا فأنت بريء فوافاه به برئ من المال وهو قول البعض واختاره في فتح القدير ، وقال : إنه الأوجه . معللا بأنه إسقاط لا تمليك ذكره في الكفالة ، وعلى هذا يحمل قول المصنف رحمه الله تعالى فيها وبطل تعليق البراءة من الكفالة بشرط على ما إذا كان غير ملائم ، وفي فتاوى قاضي خان من فصل في هبة المرأة من الزوج ، ولو قال الطالب لمديونه إذا مت فأنت بريء من الدين الذي لي عليك جاز وتكون وصية من الطالب للمطلوب ، ولو قال إن مت فأنت بريء من ذلك الدين لا يبرأ وهو مخاطره كقوله إن دخلت الدار فأنت بريء مما لي [ ص: 198 ] عليك لا يبرأ . ا هـ .

                                                                                        وفيها أيضا لو قالت المريضة لزوجها إن مت من مرضي هذا فمهري عليك صدقة أو أنت في حل من مهري فماتت من ذلك المرض كان مهرها على زوجها لأن هذه مخاطرة فلا تصح . ا هـ .

                                                                                        وحاصله أن التعليق بموت الدائن صحيح إلا إذا كان المديون وارثا له وعلق في مرض موته فيكون مخصصا لإطلاق الكتاب وفي البزازية من الدعوى قال المديون دفعت إلى فلان فقال إن كنت دفعت إليه فقد أبرأتك صح ; لأنه تعليق بأمر كائن . ا هـ .

                                                                                        ومن فروع عدم صحة تعليق الإبراء ما في المبسوط لو قال الطالب للخصم إن حلفت فأنت بريء فهذا باطل ; لأنه تعليق البراءة بخطر وهي لا تحتمل التعليق . ا هـ .

                                                                                        وفي الخانية من الهبة امرأة قالت لزوجها وهبت مهري منك على أن كل امرأة تتزوجها تجعل أمرها بيدي فإن لم يقبل الزوج ذلك بطلت الهبة وإن قبل ذلك في المجلس جازت الهبة ، ثم إن فعل الزوج ذلك فالهبة ماضية وإن لم يفعل فكذلك عند البعض كمن أعتق أمة على أن لا تتزوج فقبلت عتقت تزوجت أو لم تتزوج امرأة قالت لزوجها وهبت مهري إن لم تظلمني فقبل الزوج ذلك ، ثم طلقها بعد ذلك قال أبو بكر الإسكاف وأبو القاسم الصفار الهبة فاسدة ; لأنها تعليق الهبة بالشرط وهذا بخلاف ما لو قالت وهبت منك مهري على أن لا تظلمني فقبل صحت الهبة لأن هذا تعليق الهبة بالقبول ، فإذا قبلت تمت الهبة فلا يعود المهر بعد ذلك وهو نظير ما لو قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار لا تطلق ما لم تدخل ، ولو قال أنت طالق على دخولك الدار فقالت قبلت وقع الطلاق ، وقال محمد بن مقاتل في مسألة الظلم مهرها عليه على حاله إذا ظلمها ; لأن المرأة لم ترض بالهبة إلا بهذا الشرط ، فإذا فات الشرط فات الرضا ، أما الطلاق فالرضا فيه ليس بشرط والدليل على هذا ما ذكر في كتاب الحج إذا تركت المرأة مهرها على الزوج على أن يحج بها فقبل الزوج ذلك ولم يحج بها كان المهر عليه على حاله والفتوى على هذا القول قال مولانا رضي الله تعالى عنه ويمكن الفرق بين مسألة الحج وبين مسألة الظلم ووجه ذلك أن في مسألة الحج لما شرطت الحج بها فقد شرطت نفقة الحج عليه فيكون هذا بمنزلة الهبة بشرط العوض ، فإذا لم يحصل العوض لا تتم الهبة ، أما في مسألة الظلم شرطت عليه ترك الظلم وترك الظلم لا يصلح عوضا قال مولانا رضي الله تعالى عنه ، ثم ذكر في بعض النسخ إذا شرطت عليه أن لا يظلمها فقبل الزوج ، ثم ضربها وأجابا كما ذكر وعندي إذا ضربها بغير حق ، أما إذا ضربها لتأديب مستحق عليها لا يعود المهر ; لأن ما كان حقا لا يكون ظلما .

                                                                                        امرأة وهبت مهرها من زوجها ليقطع لها في كل حول ثوبا مرتين وقبل الزوج فمضى حولان ولم يقطع قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل إن كان ذلك شرطا في الهبة فمهرها عليه على حاله لأن هذا بمنزلة الهبة بشرط العوض فإذا لم يحصل العوض لا تصح الهبة ، وإذا لم يكن ذلك شرطا في الهبة سقط مهرها ولا يعود بعد ذلك ، وكذا لو وهبت مهرها على أن يحسن إليها ولم يحسن كانت الهبة باطلة ويكون بمنزلة الهبة بشرط العوض .

                                                                                        رجل قال لامرأته أبرئيني من مهرك حتى أهب لك كذا فأبرأته ، ثم أبى الزوج أن يهب منها ما قال كان المهر عليه كما كان .

                                                                                        امرأة وهبت مهرها من زوجها على أن يمسكها ولا يطلقها فقبل الزوج ذلك ، ثم طلقها قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل إن لم يكن وقت للإمساك وقتا لا يعود مهرها على الزوج وإن وقت وقتا وطلقها قبل ذلك الوقت كان المهر عليه على حاله فقيل له إذا لم يوقت لذلك وقتا كان قصدها أن يمسكها ما عاش قال نعم إلا أن العبرة لإطلاق اللفظ فإنه ذكر في كتاب الوصايا رجل أوصى لأم ولده بثلث ماله إن لم تتزوج فقبلت ذلك ، ثم تزوجت بعد انقضاء عدتها بزمان فإنها تستحق الثلث بحكم الوصية .

                                                                                        امرأة وهبت مهرها من زوجها على أن لا يطلقها فقبل الزوج قال خلف صحت الهبة طلقها [ ص: 199 ] أو لم يطلقها ; لأن ترك الطلاق لا يكون عوضا بقيت هذه هبة بشرط فاسد والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة .

                                                                                        وذكر في النوازل إذا قالت المرأة لزوجها تركت مهري عليك على أن تجعل أمري بيدي ففعل الزوج ذلك قال مهرها عليه ما لم تطلق نفسها ، ولو وهبت مهرها الذي على المطلق منه على أن يتزوجها ، ثم أبى أن يتزوجها قالوا مهرها عليه على حاله تزوجها أو لم يتزوجها ; لأنها جعلت المال على نفسها عوضا عن النكاح وفي النكاح العوض لا يكون على المرأة . ا هـ .

                                                                                        ما في الخانية فإن قلت : إن هبة الدين إبراء فكيف صح تعليقه بالشرط في بعض هذه المسائل قلت : الإبراء يصح تعليقه بالشرط المتعارف وبهذا يجب تقييد كلام المصنف رحمه الله تعالى ومن أطلق ففي المسائل التي قدمناها التي قالوا فيها بصحة التعليق إنما هو في المتعارف وما قالوا فيها بعدمها فإنما هو في غير المتعارف ويدل على هذا التقييد أيضا ما في القنية من باب مسائل الإبراء بالطلاق من كتاب الطلاق ، ولو أبرأته مطلقته بشرط الإمهار صح التعليق ; لأنه شرط متعارف وتعليق الإبراء بشرط متعارف جائز فإن قبل الإمهار وهم بأن يمهرها فأبت ولم تزوج نفسها منه لا يبرأ لفوات الإمهار الصحيح ، ولو أبرأته المبتوتة بشرط تجديد النكاح بمهر ومهر مثلها مائة ، فلو جدد لها نكاحا بدينار فأبت لا يبرأ بدون الشرط قالت المسرحة لزوجها تزوجني فقال لها هبي لي المهر الذي لك علي فأتزوجك فأبرأته مطلقا غير معلق بشرط التزوج يبرأ إذا تزوجها وإلا فلا ; لأنه إبراء معلق دلالة وقيل لا يبرأ وإن تزوجها لأن هذا الإبراء على سبيل الرشوة فلا يصح أبرأته بشرط أن يمسكها بمعروف ويحسن معاشرتها ولا يؤذيها ولا يطلقها فقبل ، ثم تزوج عليها وأغار على مالها وأذاها وطلقها فالإبراء بهذا الشرط غير صحيح وساق فيها فروعا كثيرة في بعضها لا يصح التعليق وفي بعضها يصح ، وفي جامع الفصولين لو قال كل حق لي عليك فقد أبرأتك لا يصح وكذا إضافة الإبراء إلى ما يجب في الزمن الثاني لا يصح ، ولو قال لمديونه الدنانير العشرة التي لي عليك اعطني منها خمسة ووهبت منك الخمسة صح الإبراء سواء أعطاه الخمسة أو لا لأنه تنجيز الإبراء لا تعليقه ، ولو قال أبرأتك عن الخمسة على أن تدفع الخمسة حالة فإن كانت العشرة حالة صح الإبراء ; لأن أداء الخمسة يجب عليه حالا فلا يكون هذا تعليق الإبراء بشرط تعجيل الخمسة ، ولو مؤجلة بطل الإبراء إذا لم يعطه الخمسة حالا . ا هـ .

                                                                                        ثم اعلم أن الإبراء يصح تقييده بالشرط وليس هو تعليقا وعليه فروع كثيرة مذكورة في آخر كتاب الصلح وذكر الشارح هناك أن الإبراء يصح تقييده لا تعليقه ، والله تعالى أعلم . وهذا التقرير - إن شاء الله تعالى - من خواص هذا الشرح فاغتنمه واحفظ هذا التفصيل في الإبراء .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قول المصنف والإبراء عن الدين إلخ ) قال بعض الفضلاء فيه أن الإبراء عن الدين ليس من مبادلة المال بالمال فينبغي أن لا يبطل بالشرط الفاسد وكونه معتبرا بالتمليكات لا يدل إلا على بطلان تعليقه بالشرط ولذلك فرعه عليه وعلى هذا فينبغي أن يذكر في القسم الثاني . ا هـ .

                                                                                        قلت : ويؤيده ما سنذكره عن النهر من مسألة الصلح لكن في الحواشي العزمية عن الإيضاح الإبراء عن الدين بالشرط الفاسد بأن قال لمديونه أبرأت ذمتك عن ديني بشرط أن لي الخيار في رد الإبراء وتصحيحه في أي وقت شئت أو قال إن دخلت الدار فقد أبرأتك . ا هـ .

                                                                                        أقول : ولو ثبت أنه لا يبطل بالشرط الفاسد فذكره هنا مناسب لدخوله تحت القاعدة الثانية وهي ما يبطل تعليقه بالشرط كما مر ( قوله لا يبرأ وهو مخاطرة ) لعل وجهه أن المخاطرة في موته مديونا وإلا فالموت محقق الوجود ويرد عليه أن ذلك موجود في التعليق على موت الدائن فإن فيه مخاطرة من حيث موته والدين في ذمة المديون والجواب أن التعليق على موته يجعل وصية والوصية يصح تعليقها بالشرط [ ص: 198 ] بخلاف التعليق على موت المدين فإنه إبراء محض فيبقى معلقا على ما فيه مخاطرة فلا يصح هذا ما ظهر لي فتأمله .

                                                                                        ( قوله : كان مهرها على زوجها ) قال في النهر كان ينبغي أن يقال إن أجازت الورثة تصح لأن المانع من صحة الوصية كونه وارثا . ا هـ .

                                                                                        وتأمل قوله لأن المانع إلخ مع قول الخانية لأن هذه مخاطرة فإنه يقتضي عدم الصحة وإن لم يكن لها ورثة غيره لكن في مسألة الدين لم يجعل التعليق بموت الدائن مخاطرة بل جعل وصية فالظاهر أن مراده بالمخاطرة هنا كونه وقت الموت ممن تصح له الوصية بأن يطلقها ويصير أجنبيا أو تجيز الورثة الوصية وعليه فلا فرق بين الإجازة وعدمها تأمل . ( قوله : وفي البزازية من الدعوى قال المديون إلخ ) ومثله ما في جامع الفصولين لو قال لغريمه إن كان لي عليك دين فقد أبرأتك وله عليه دين برئ إذا علق بشرط كائن فتنجز . ا هـ .

                                                                                        [ ص: 199 ] ( قوله لأنه إبراء معلق دلالة ) قال الرملي يعلم منه أن التعليق يكون بالدلالة ويتفرع على ذلك مسائل كثيرة فليحفظ ذلك .

                                                                                        ( قوله : ثم اعلم أن الإبراء يصح تقييده إلخ ) قال في النهر واعلم أنه سيأتي في الصلح أنه لو كان عليه ألف فقال أد إلي غدا نصفه على أنك بريء من الفضل ففعل برئ ، ولو قال إن أو إذا أو متى أديت لا يصح وفرق الشارح بينهما بأنه في الأول لم يعلق البراءة بصريح الشرط ، وإنما أتى بالتقييد وفي الثاني بصريحه وهي لا يحتمل التعليق بالشرط . ا هـ .

                                                                                        أقول : قد ذكر الشارح الزيلعي في الصلح من صور المسألة ما إذا قال أبرأتك من خمسمائة من الألف على أن تعطيني خمسمائة غدا يبرأ مطلقا أدى خمسمائة في الغد أو لم يؤد لأن البراءة قد حصلت بالإطلاق أولا فلا تتغير بما يوجب الشك في آخره على ما ذكرنا في الفرق بين هذه المسألة والأولى أعني قوله أد غدا نصفه على أنك بريء من الفضل ففعل برئ وإلا لا وحاصل الفرق الذي ذكره بينهما أن كلمة " على " تكون للشرط كما تكون للمعاوضة فتحمل عليه عند تعذر المعاوضة والإبراء يجوز تقييده بالشرط وإن لم يجز تعليقه به فيحمل عليه بخلاف ما إذا قدم الإبراء لأنه برئ بالبداءة فلا يعود الدين بالشك وفي الأولى لم يبرأ في أوله وآخره معلق بشرط فلا يسقط الدين بالشك وهذا لأن كلمة على محتملة أن تكون للشرط فلا يبرأ إلا بالأداء وأن تكون للعوض فيبرأ مطلقا وحينئذ فلا يبرأ بالشك والاحتمال . ا هـ .

                                                                                        ولا يخفى أن هذا صريح أن الإبراء لا يبطل بالشرط وإنما يبطل بالتعليق . ( قوله : وهذا التقرير ) الذي تحصل منه أن الإبراء عن الدين لا يصح تعليقه إلا إذا علق بموت الدائن ولم يكن المديون وارثا أو علقه بأمر كائن أو بشرط متعارف وتحصل أيضا أنه لا يبطل بالشرط فهو مما دخل تحت القاعدة الثانية من كلام الماتن .




                                                                                        الخدمات العلمية