الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قال رحمه الله ( فإن حابا فحرر فهي أحق ، وبعكسه استويا ) أي إذا حابا ثم أعتق فالمحاباة أولى فإن أعتق ثم حابا فهما سواء ، وهو المراد بقوله وبعكسه استويا ، وأطلق في المحاباة فشمل الدراهم والدنانير والأجل والبيع والإقالة ، وهذا عند أبي حنيفة ، وقالا هما سواء في المسألتين ، والأصل فيهما أن الوصايا إذا لم يكن فيها ما جاوز الثلث فلكل واحد من أصحاب الوصايا أن يضرب بجميع وصيته في الثلث لا يقدم [ ص: 493 ] البعض على البعض إلا بالعتق الموقع في المرض ، والعتق المعلق بموت الموصي كالتدبير الصحيح سواء كان مطلقا أو مقيدا ، والمحاباة في المرض بخلاف ما إذا قال إذا مت فهو حر بعد موتي بيوم ، والمعنى فيه أن كل ما يكون منفذا عقيب الموت من غير حاجة إلى التقييد فهو في المعنى أسبق مما يحتاج إلى تقييد بعد الموت ، والترجيح يقع بالسبق لأن ما ينفذ بعد الموت من غير تنفيذ ينزل منزلة الديوان فإن صاحب الدين ينفرد باستيفاء دينه إذا ظفر بجنس حقه .

                                                                                        وفي هذه الأشياء يصير مستوفيا بنفس الموت ، والدين مقدم على الوصية فكذا الحق الذي في معناه وغيرها من الوصايا قد تساوت في السبب ، والتساوي فيه يوجب التساوي في الاستحقاق فإذا ثبت هذا فهما يقولان إن العتق أقوى لأنه لا يلحقه الفسخ والمحاباة يلحقها الفسخ ولا معتبر بالتقدم في الذكر لأنه لا يوجب التقديم إلا إذا اتحد المستحق ، واستوت الحقوق على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى وأبو حنيفة يقول أن المحاباة أقوى لأنها تثبت في ضمن عقد المعاوضة فكان تبرعا بمعناها لا بصفتها حتى يأخذه الشفيع ، ويملكه العبد والصبي المأذون لهما ، والإعتاق تبرع صيغة ومعنى فإذا وجدت المحاباة أولا دفعت الأضعف ، وإذا وجد العتق أولا ، وثبت ، وهو لا يحتمل الدفع كان من ضروراته المزاحمة ، وعلى هذا قال أبو حنيفة إذا حابى ثم أعتق يقسم الثلث بين المحابتين نصفين ثم ما أصاب المحاباة الأخيرة قسم بينهما وبين العتق لأن العتق مقدم عليهما فيستويان ، ولو أعتق ثم حابى ثم أعتق قسم الثلث بين العتق الأول وبين المحاباة وما أصاب العتق قسم بينه وبين العتق الثاني ولا يقال إن أصحاب المحاباة تسترد ما أصاب العتق الذي بعده في المسألتين لكونه أولى منه لأنا نقول لا يمكن ذلك لأنه لا يلزم منه الدور .

                                                                                        بيانه أن صاحب المحاباة الأول في المسألة الأولى لو استرد من العتق لكونه أولى لاسترد منه صاحب المحاباة الثاني لاستوائهما ثم استرد العتق لأنه يساوي صاحب المحاباة الثاني ، وفي المسألة الثانية لو استرد صاحب المحاباة ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، والسبيل في الدور قطعه ، وعندهما العتق أولى من الكل ، وفي المحيط إذا أسلم الرجل في مرضه مائة درهم في عشرة أكرار حنطة تساوي مائة درهم ثم مات قبل حلوله فإن شاء الذي عليه السلم يعجل ثلثي الطعام ، وكان الثلث عليه إلى أجله ، وإن شاء رد عليهم رأس المال لأن المريض حابى بالأجل لأنه اشترى بمائة طعاما يساوي مائة ، وأجله في جميع ماله ، وتأجيل المال بمعنى الوصية بجميع المال لأن الوارث يصير ممنوعا من جميع المال إلى الأجل متى صحت الوصية بجميعه ، وإن أبوا فالوصية تصح بقدر الثلث فيصح التأجيل بقدر الثلث ، وبطل في الثلثين فإذا بطل الأجل في الثلث يخير المسلم إليه لأنه لزمه زيادة شيء لم يرض منه لأن المسلم إليه إنما رضي أن يكون جميع الطعام عليه مؤجلا فإذا لزمه تعجيل ثلثي الطعام ، والمعجل خير من المؤجل فقد لزمه زيادة شيء لم يرض به فيخير ، ولو كان الطعام يساوي خمسين فإن شاء عجل الطعام كله ورد سدس المال ، وإن شاء فسخ ورد كل المال لأنه حابى بالثمن وبالأجل .

                                                                                        وقد تقدم اعتبار المحابتين جميعا لأنه ينقسم ثلثا المال عليهما نصفين لأنه لو حابى بالثمن لا غير كان لصاحب المحاباة ثلث المائة ، وكذلك لو حابى بالأجل كان له ثلث الطعام إلى أجله فإذا صار نصف المال للمحاباة كان بالثمن كان نصف ثلث الطعام إلى أجله ، وإذا صار الثلث للمحابتين جميعا متى اختار المسلم إليه المضي في السلم أنه يرد ثلث رأس المال إلى رب السلم حتى ينقسم ثلث المال على المحابتين جميعا ينقض السلم في الثلث فإذا دخل الأجل ، وأدى المسلم إليه سدس الطعام يسترد منه نصف الثلث من رأس المال لأنه بحلول الأجل ذهب بالمحاباة في الأجل ، وبقيت المحاباة في الثمن ، ومتى استرد نصف الثلث تنقض الإقالة في السلم بعد استقرارها في رأس المال ، وأنه لا يجوز فلهذه الضرورة تعذر اعتبار المحاباة بالأجل مع المحاباة بالثمن فكان إلغاء المحاباة بالأجل أولى لأنه بيع ، وإذا لغت المحاباة بالأجل صار كأنه حابى بالثمن لا غير فيخير ، وإذا أسلم المريض عشرة دراهم في كر يساوي عشرين ثم أقاله ثم مات جازت الإقالة في ثلثي الكر ، ويقال للمسلم إليه أد ثلث الكر ، ورد عليهم ثلثي رأس المال لأن المحاباة في مرض الموت وصية والوصية معتبرة في الثلث ، ولو أسلم عشرة دراهم في كر يساوي ثلاثين درهما ، وقد حابى بعشرين ، والعشرة من عشرين قدر نصفه ، ولو أخذ منه رأس المال ، وأنفقه جازت الإقالة في ثلث الكر ، وبطلت في ثلثيه .

                                                                                        ويقال للمسلم إليه أد إلى الورثة ثلثي الكر ، وارجع عليهم [ ص: 494 ] بثلثي العشرة لأن ثلث ماله مثل ثلث المحاباة لأن ماله يوم القسمة ستة دراهم وثلاثين ، وقد حاباه بعشرين فيكون ثلث ماله مثل ثلث المحاباة فتجوز الإقالة في ثلثي الكر ، وبطلت في ثلثه فرد المسلم إليه إلى الورثة ثلثي الكر ، وقيمته عشرون إلا أن على رب السلم ستة دراهم وثلاثين دينا لأنه قبض عشرة دراهم من المسلم إليه رأس المال ثلثه بحق جواز في ثلثي الكر وثلثه بغير حق لبطلان الإقالة في ثلثي الكر ، وقد استهلكها فصار ذلك دينا عليه ، والإقالة قبل قبض السلم ، وبعده سواء عندهما ، وعند أبي حنيفة هو بعد القبض ابتداء بيع لما عرف أن الإقالة فسخ عندهما ، وعنده بيع جديد ، وإذا اشترى في مرضه عبدا قيمته مائة بخمسين درهما فلم يتقابضا حتى تقايلا البيع فالبائع بالخيار إن شاء رد العبد ، وأخذ ثمنه ، وبطلت الإقالة ، وإن شاء سلم لهم ثلث العبد ، وأخذ منهم ثلث الخمسين لأن ثلث المال مثل ثلث المحاباة لأن ثلث المال المشترى ثلاثة وثلاثون وثلث لأن ماله عند قسمته مائة ، وقد حابى بخمسين فتجوز الإقالة في ثلثي العبد ولا تجوز في ثلثه ثم يخير بين فسخ الإقالة وبين أن يجيزه أو لم يجيزه في السلم لأن الإقالة في البيع تحتمل الفسخ ما دام المعقود عليه قائما .

                                                                                        وفي السلم لا تحتمل الفسخ لأنه لا يمكن أن يجعل بيعا مستقلا لأن الاستدلال بالسلم فيه قبل القبض لا يجوز ، ولو أسلم عشرين درهما في كر يساوي عشرة في مرضه ، وله على الناس ديون فلم يخرج حتى أبطل القاضي السلم أو أعطى الكر ورد سدس رأس المال ثم خرج الدين جاز ذلك ، ولم يرد على المسلم إليه شيء إلا أن يخرج الدين قبل أن يختصموا فإن خرج مقدار ما يخرج المحاباة من الثلث سلم له المحاباة لأن المحاباة عشرة لأن ماله العين عشرون درهما ، والدين لا يعد مال الميت ما لم يقبض لأنه قد لا يخرج فيكون ثلث ماله ستة دراهم وثلثان فتصح المحاباة بقدر ، ويتخير بين الفسخ والمضي لأن السلم يحتمل الفسخ ، وقد تعين على المسلم إليه شرط عقده فيتخير فإذا أبى المسلم إليه الفسخ ، ونقض القاضي السلم فإنه لا ينتقض النقض بعد ذلك فإن زال السبب المقتضي للنقض ، وهو عدم خروج المحاباة من ثلث ماله لأن القضاء بالنقض لا يحتمل البطلان كما لو قضى بفسخ البيع بسبب العيب ثم زال العيب لا يعود البيع ، وإن زال المقتضي للفسخ ، وهو العيب فكذا هذا ، وإن خرج من الدين قبل النقض مقدار ما يخرج المحاباة من الثلث سلم له المحاباة لأن الدين بالقبض صار عينا فيعتبر ماله يوم القسمة ، وإذا أسلم إلى مريض عشرة دراهم في كر يساوي أربعين فأنفق رأس المال ثم مات ولا مال له غير الكر فرب السلم بالخيار إن شاء نقض السلم ، ورجع على الورثة بدراهمه ، وإن شاء أخذ الكر ، وأعطى عشرين درهما لأنه تغير عليه شرط عقده فإن رضي أن يسلم له جميع الكر بعشرة دراهم ، والآن لا يسلم له الجميع بعشرة .

                                                                                        وعقده مما لا يحتمل الفسخ فيتخير فإن مضى في السلم أخذ جميع الكر ورد عشرين لأن المسلم إليه حاباه بقدر ثلاثين فإنه باع ما يساوي أربعين بعشرة ، والمحاباة أكثر من ثلث ماله فتنفذ الوصية من الثلث ، وجميع ماله بعد الدين ثلاثون لأن عشرة من الكر مشغول بالعشرة التي استهلكها المسلم إليه فالمشغول بالدين لا يعدل مال الميت لأن الدين مقدم على الوصية ، والفارغ من الدين قدر ثلثين فيكون له عشرة بالوصية ، ويرد عشرا على الورثة هكذا ذكره الحاكم في مختصره ، وذكر الفقيه أبو بكر البلخي في ، وجيزه أنه متى اختار المضي يأخذ نصف الكر ، ويترك النصف لأنه يكون لرب السلم نصف الكر قيمته عشرون عشرة منها تعوض ما قبض ، وهو رأس المال ، وعشرة بغير عوض بالمحاباة ، وهو ثلث مال الميت ، والصحيح ما ذكر الحاكم لأن في هذا تبعيض على ورثة المسلم إليه بغير رضاهم ، وهذا لا يجوز كما في العبد والثوب الواحد فإن كان على الميت دين يحيط بتركته لم تجز المحاباة في التركة لأن المحاباة في المرض وصية والوصية تنفذ من ثلث المال الفارغ عن الدين ، ولم يوجد ، ولو أسلم إلى مريض عشرة في كر قيمته مائة فقبض رأس المال ، وأنفقه ومات ، وقد أوصى بثلث ماله فإن شاء رب السلم نقض السلم ، وأخذ دراهمه ، ويجوز للآخر وصيته ، وإن شاء أخذ الكر ، وأعطى الورثة ستين درهما ولا شيء لصاحب الوصية في قول أبي حنيفة ، وعندهما يتحاصان في الثلث يضرب فيه رب السلم بتسعين وصاحب الوصية بثلاثين ، وهو ثلث المال فيكون الثلث بينهما على أربعة فيأخذ رب السلم الكر .

                                                                                        ويؤدي سبعة وستين درهما ونصفا منها تسعة ربع الثلث لصاحب الوصية ، وتخريجه أن عند أبي حنيفة المحاباة أولى من الوصية ومال الميت قيمته مائة إلا أن عشرة منها مشغولة بالدين [ ص: 495 ] فيبقى ماله الفارغ بين رب السلم والموصى له على أربعة لأن الوصية بالمحاباة وصية بجميع ماله ، وذلك تسعون والوصية الأخرى بالثلث ، وذلك ثلاثون فيقسم الثلث على سبيل العول عندهما على أربعة ثلاثة أرباعه لصاحب المحاباة ، وذلك ثلاث وعشرون ونصف وأربعة للموصى له الآخر ، وإذا كان للمريض على رجلين كر حنطة يساوي ثلاثين ، ورأس ماله عشرة ، وأقالهما ومات ، وأحدهما غائب قيل للحاضر رد ثلاثة أعشار نصف رأس المال ، وذلك درهم ونصف ، وأد سبعة أعشار نصف الكر ، وذلك يساوي عشرة ونصفا فإذا قدم الغائب جازت الإقالة في نصف الكر فيؤدي القادم نصف رأس المال حصته درهم ونصف ، وربع الكر قيمته سبعة دراهم ونصف ، وترد الورثة على الحاضر الطعام الذي أخذوه قدر ثلثه من عشرة ونصف ، ويأخذون منه درهما من رأس المال ، والثلث على سهمين ، والجميع على ستة للغائب فيطرح نصيبه لأنه مستوفى وصيته بقي خمسة خمس للحاضر وأربعة للورثة فيكون للحاضر خمس ما عليه ، وعليه نصف كر قيمته خمسة عشر ، وخمس خمسة ثلاثة دراهم فيكون له ثلاثة دراهم ثلاثة أعشار ثلث ماله فصحت الإقالة بقدر ثلاثة أعشار ثلث ماله فصحت الإقالة بقدر ثلاثة أعشار نصف الكر ، وذلك أربعة ونصف .

                                                                                        وبطلت في سبعة أعشار نصف الكر فيرد ذلك ، وقيمته عشرة ونصف إلا أن درهما ونصفا العوض ما أدى من درهم من رأس المال وثلاثة محاباة ، وإذا ظهرت وصية الحاضر ثلاثة دراهم ظهر أن وصية الغائب مثل ذلك فقد نفذنا الوصية في ستة ، وأعطينا الورثة ضعفها اثني عشر فقد استقام الثلث والثلثان ، وإذا حضر الغائب فقد صحت الإقالة في نصف الكر رجل اشترى أبويه ، وأخاه في مرضه بثلاثة آلاف درهم ، وقيمتهم سواء ففي قياس قول أبي حنيفة تجوز الوصية بالعتق للأم والأخ ، والثلث بينهما ، وللأب ما بقي ، وتسعى الأم في نصف قيمتها ، والأخ في نصف قيمته ، وقال محمد الوصية كلها للأخ جائزة لأنه لا يرث بأن يعتق مع الأبوين ولا وصية للأم ، ولها الميراث مع الأب ، وتسعى فيما زاد على حصتها .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية