الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  49 2 - (أخبرنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس قال: أخبرني عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، التمسوها في السبع، والخمس).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا الحديث للترجمة الأولى، ووجه تطابقه إياها من حيث إن فيه ذم التلاحي، وإن صاحبه ناقص لأنه يشتغل عن كثير من الخير بسببه سيما إذا كان في المسجد، وعند جهر الصوت بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم بل ربما ينجر إلى بطلان العمل، وهو لا يشعر قال تعالى: ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون وقال بعضهم بعد أن أخذ هذا الكلام من الكرماني: ومن هنا يتضح مناسبة الحديث للترجمة ومطابقتها له، وقد خفيت على كثير [ ص: 280 ] من المتكلمين على هذا الكتاب، قلت: إن هذا عجيب شديد يأخذ كلام الناس وينسبه إلى نفسه مدعيا أن غيره قد خفي عليه ذلك على أن هذا الذي ذكره الكرماني في وجه المطابقة إنما يقاد بالجر الثقيل على ما لا يخفى على من يتأمله، فإذا أمعن الناظر فيه لا يجد لذكر هذا لحديث هنا مناسبة ولا مطابقا للترجمة.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم خمسة: قتيبة بن سعيد، وقد مر ذكره في باب السلام من الإسلام، الثاني: إسماعيل بن جعفر الأنصاري المدني، وقد مر في باب علامات المنافق، الثالث: حميد بضم الحاء ابن أبي حميد، واسم أبي حميد تير بكسر التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره راء، ومعناه بالعربية السهم، وقيل: تيرويه، وقيل: اسمه طرخان، وقيل: مهران كنيته أبو عبيدة بضم العين الخزاعي البصري مولى طلحة الطلحات، وهو مشهور بحميد الطويل، قيل: كان قصيرا طويل اليدين، فقيل له ذلك، وكان يقف عند الميت فتصل إحدى يديه إلى رأسه، والأخرى إلى رجليه، وقال الأصمعي: رأيته ولم يكن بذلك الطويل بل كان في جيرانه رجل يقال له: حميد القصير، فقيل له: الطويل للتمييز بينهما، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة، الرابع أنس بن مالك وقد مر ذكره، الخامس عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقد مر ذكره في باب علامة الإيمان حب الأنصار.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث والإخبار بالإفراد والعنعنة، ولكن في رواية الأصيلي، حدثنا أنس، فعلى روايته أمن من تدليس حميد، ومنها أن فيه رواية صحابي عن صحابي، ومنها أن رواته ما بين بلخي ومدني وبصري.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه أيضا في الصوم عن محمد بن المثنى عن خالد بن الحارث، وفي الأدب عن مسدد عن بشر بن المفضل بن مغفل ثلاثتهم عن حميد الطويل عنه به، وأخرجه النسائي في الاعتكاف عن محمد بن المثنى به، وعن علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر به، وعن عمران بن موسى، عن يزيد بن زريع، عن حميد به.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات) قوله: "فتلاحى" بفتح الحاء من التلاحي بكسر الحاء وهو التنازع، قال الجوهري: تلاحوا إذا تنازعوا، وقال الشيخ قطب الدين: الملاحاة الخصومة والسباب، والاسم اللحاء بكسر اللام ممدودا، قلت: الذي ذكره من باب المفاعلة والذي في الحديث من باب التفاعل لأن تلاحى أصله تلاحي بفتح الياء على وزن تفاعل قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والمصدر تلاح أصله تلاحي فأعل إعلال قاض فإن قلت: قد علم أن باب التفاعل لمشاركة الجماعة نحو تخاصم القوم، وباب المفاعلة لمشاركة اثنين نحو قاتل زيد وعمرو، وكان القياس هنا أن يذكر من باب الملاحاة لأنها كانت بين رجلين، قلت: التحقيق في هذا الباب أن وضع فاعل لنسبة الفعل إلى الفاعل متعلقا بغيره مع أن الغير فعل مثل ذلك، ووضع تفاعل لنسبته إلى المشتركين فيه من غير قصد إلى تعلق له، فلذلك جاء الأول زائدا على الثاني بمفعول أبدا، فإن كان تفاعل من فاعل المتعدي إلى مفعول كضارب لم يتعد، وإن كان من المتعدي إلى مفعولين كجاذبته الثوب يتعدى إلى واحد وقد يفرق بينهما من حيث المعنى فإن البادئ في فاعل معلوم دون تفاعل، وجاء تلاحى هاهنا من باب التفاعل لأجل اشتراك الاثنين فيه من غير قصد إلى تعلق له، وكذا البادئ فيه غير معلوم، ولما كان تلاحى هاهنا من لاحيته لم يتعد إلى مفعول فافهم، فإنه موضع دقيق، قوله: "التمسوها" من الالتماس وهو الطلب.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب)، قوله: "خرج" أي من الحجرة جملة في محل الرفع لأنها خبر "أن"، قوله: "يخبر" جملة مستأنفة، والأولى أن تكون حالا، وقد علم أن المضارع إذا وقع حالا وكان مثبتا لا يجوز فيه الواو، فإن قلت: الخروج لم يكن في حال الإخبار قلت: هذه تسمى حالا مقدرة أي خرج مقدر الإخبار، وذلك كما في قوله تعالى: فادخلوها خالدين أي مقدرين الخلود، ولا شك أن الخروج حالة تقدير الإخبار كالدخول حالة تقدير الخلود، قوله "فتلاحى" فعل ورجلان فاعله، وكلمة "من" بيانية مع ما فيها من معنى التبعيض، قوله: "إني خرجت" مقول القول، قوله: "لأخبركم" بنصب الراء بأن المقدرة بعد لام التعليل إذ أصله: لأن أخبركم، وأخبر يقتضي ثلاثة مفاعيل الأول: كاف الخطاب، وقوله: بليلة القدر سد مسد المفعول الثاني، والثالث لأن التقدير: أخبركم بأن ليلة القدر هي الليلة الفلانية، ولا يجوز أن يكون بليلة القدر المفعول الثاني، ويكون الثالث محذوفا لأن المفعول الأول في هذا الباب كمفعول أعطيت، والمفعول الثاني والثالث كمفعول علمت بمعنى إذا ذكر أحدهما يجب ذكر الآخر، لأنهما في المعنى كالمبتدأ والخبر فلا بد من ذكر أحدهما إذا ذكر الآخر، قوله: "وإنه" [ ص: 281 ] بكسر الهمزة عطف على قوله: "إني" والضمير فيه للشأن، وقوله: "تلاحى فلان" جملة في محل الرفع على أنه خبر إن، قوله: "فرفعت" عطف على تلاحى، والفاء تصلح للسببية، قوله: "وعسى أن يكون" قد علم أن فاعل عسى على نوعين أحدهما أن يكون اسما نحو عسى زيد أن يخرج، فزيد مرفوع بالفاعلية، وأن يخرج في موضع نصب لأنه بمنزلة قارب زيد الخروج، والثاني أن تكون أن مع جملتها في موضع الرفع نحو: عسى أن يخرج زيد، فتكون إذ ذاك بمنزلة قرب أن يخرج أي خروجه إلا أن المصدر لم يستعمل، وقوله: "عسى أن يكون" من قبيل الثاني، والضمير في "يكون" يرجع إلى الرفع الدال عليه قوله: "فرفعت" وقوله: "خيرا" نصب بأنه خبر يكون.

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني) قوله: "فتلاحى رجلان" هما عبد الله بن أبي حدرد بفتح الحاء المهملة وفتح الراء وسكون الدال المهملة وفي آخره دال أخرى، وكعب بن مالك كان على عبد الله دين لكعب يطلبه فتنازعا فيه ورفعا صوتيهما في المسجد، قوله: "فرفعت" قال النووي: أي رفع بيانها أو علمها وإلا فهي باقية إلى يوم القيامة قال: وشذ قوم فقالوا: رفعت ليلة القدر، وهذا غلط لأن آخر الحديث يرد عليهم، فإنه قال عليه الصلاة والسلام: "التمسوها" ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمرهم بالتماسها لا يقال: كيف يؤمر بطلب ما رفع علمه لأنا نقول المراد طلب التعبد في مظانها وربما يقع العمل مصادفا لها لا أنه مأمور بطلب العلم بعينها، والأوجه أن يقال: رفعت من قلبي بمعنى نسيتها يدل عليه ما جاء في رواية مسلم من حديث أبي سعيد: "فجاء رجلان يحتقان" بتشديد القاف أي يدعي كل منهما أنه المحق "معهما الشيطان فنسيتها" ويعلم من حديث عبادة أن سبب الرفع التلاحي، ومن حديث أبي سعيد هو النسيان، ويحتمل أن يكون السبب هو المجموع ولا مانع منه، قوله: "وعسى أن يكون خيرا لكم" لتزيدوا في الاجتهاد وتقوموا في الليالي لطلبها فيكون زيادة في ثوابكم، ولو كانت معينة لاقتنعتم بتلك الليلة فقل عملكم، قوله: "التمسوها في السبع" أي ليلة السبع والعشرين من رمضان والتسع والعشرين منه، والخمس والعشرين منه، وهكذا وقع في معظم الروايات بتقديم السبع الذي أولها السين على التسع الذي أولها التاء، وفي بعض الروايات بالعكس، وهكذا وقع في مستخرج أبي نعيم، فإن قلت: من أين استفيد التقييد بالعشرين وبرمضان؟ قلت: من الأحاديث الأخر الدالة عليهما، وقد مر في باب قيام ليلة القدر الأقوال التي ذكرت فيها.

                                                                                                                                                                                  (بيان استنباط الأحكام) الأول فيه ذم الملاحاة ونقص صاحبها، الثاني أن الملاحاة والمخاصمة سبب العقوبة للعامة بذنب الخاصة، فإن الأمة حرمت إعلام هذه الليلة بسبب التلاحي بحضرته الشريفة لكن في قوله: "وعسى أن يكون خيرا" بعض التأنيس لهم، وقال النووي: أدخل البخاري في هذا الباب لأن رفع ليلة القدر كان بسبب تلاحيهما ورفعهما الصوت بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام ففيه مذمة الملاحاة، ونقصان صاحبها، وقال الكرماني: فإن قلت: إذا جاز أن يكون الرفع خيرا فلا مذمة فيه، ولا شر، ولا حبط عمل، قلت: إن أريد بالخير اسم التفضيل، فمعناه أن الرفع عسى أن يكون خيرا من عدم الرفع من جهة أخرى وهي جهة كونه سببا لزيادة الاجتهاد المستلزمة لزيادة الثواب، وإلا فمعناه أن الرفع عسى أن يكون خيرا، وإن كان عدم الرفع أزيد خيرا، وأولى منه، ثم إن خيرية ذاك كانت محققة، وخيرية هذا مرجوة لأن مفاد عسى هو الرجاء لا غير، الثالث فيه الحث على طلب ليلة القدر، الرابع قال القاضي عياض: فيه دليل على أن المخاصمة مذمومة وأنها مثل العقوبة المعنوية، وقال بعضهم: فإن قيل: كيف تكون المخاصمة في طلب الحق مذمومة؟ قلنا: إنما كانت كذلك لوقوعها في المسجد، وهو محل الذكر لا اللغو سيما في الوقت المخصوص أيضا بالذكر وهو شهر رمضان، قلت: طلب الحق غير مذموم لا في المسجد ولا في الوقت المخصوص، وإنما المذمة فيها ليست راجعة إلى مجرد الخصومة في الحق، وإنما هي راجعة إلى زيادة منازعة حصلت بينهما عن القدر المحتاج إليه، وتلك الزيادة هي اللغو، والمسجد ليس بمحل اللغو مع ما كان فيها من رفع الصوت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فافهم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية