الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                المبحث الخامس في محل النية محلها القلب في كل موضع ; لأن حقيقتها القصد مطلقا ، وقيل : المقارن للفعل ، وذلك عبارة عن فعل القلب . قال البيضاوي : النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا من جلب نفع أو دفع ضر ، حالا أو مآلا ، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى ، وامتثال حكمه .

                والحاصل أن هنا أصلين : الأول : أنه لا يكفي التلفظ باللسان دونه .

                والثاني : أنه لا يشترط مع القلب التلفظ .

                أما الأول فمن فروعه : لو اختلف اللسان والقلب ، فالعبرة بما في القلب ، فلو نوى بقلبه الوضوء وبلسانه التبرد ، صح الوضوء ، أو عكسه فلا ، وكذا لو نوى بقلبه الظهر وبلسانه العصر ، أو بقلبه الحج وبلسانه العمرة ، أو عكسه صح له ما في القلب .

                ومنها : إن سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصد فلا تنعقد ، ولا يتعلق به كفارة ، أو قصد الحلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره ، هذا في الحلف بالله ، فلو جرى مثل ذلك في الإيلاء أو الطلاق أو العتاق ، لم يتعلق به شيء باطنا ، ويدين ، ولا يقبل في الظاهر لتعلق حق الغير به .

                وذكر الإمام في الفرق : أن العادة جرت بإجراء ألفاظ اليمين بلا قصد ، بخلاف الطلاق والعتاق ، فدعواه فيهما تخالف الظاهر فلا يقبل .

                قال : وكذا لو اقترن باليمين ما يدل على القصد .

                وفي البحر : أن الشافعي نص في البويطي على أن من صرح بالطلاق أو الظهار أو العتاق ، ولم يكن له نية ، لا يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى طلاق ولا ظهار ولا عتق .

                ومنها : أن يقصد لفظ الطلاق والعتق دون معناه الشرعي ، بل يقصد معنى له آخر ، أو يقصد ضم شيء إليه برفع حكمه ، وفيه فروع بعضها يقبل فيه ، وبعضها لا ، وكلها لا تقتضي الوقوع في نفس الأمر ; لفقد القصد القلبي .

                قال الفوراني في الإبانة : الأصل أن كل من أفصح بشيء وقبل منه ، فإذا نواه قبل [ ص: 31 ] فيما بينه وبين الله تعالى دون الحكم ، وقال نحوه القاضي حسين والبغوي ، والإمام في النهاية وغيرهم .

                وهذه أمثلته : قال : أنت طالق : ثم قال : أردت من وثاق ، ولا قرينة ، لم يقبل في الحكم ويدين ، فإن كان قرينة ، كأن كانت مربوطة فحلها ، وقال ذلك ، قبل ظاهرا . مر بعبد له على مكاس ، فطالبه بمكسه ، فقال : إنه حر وليس بعبد ، وقصد التخليص لا العتق لم يعتق فيما بينه وبين الله تعالى ، كذا في فتاوى الغزالي ، قال الرافعي : وهو يشير إلى أنه لا يقبل ظاهرا .

                قال في المهمات : وقياس مسألة الوثاق أن يقبل ; لأن مطالبة المكاس قرينة ظاهرة في إرادة صرف اللفظ عن ظاهره ، ورد بأنه ليس قرينة دالة على ذلك ، وإنما نظير مسألة الوثاق ، أن يقال له : أمتك بغي ، فيقول : بل حرة ، فهو قرينة ظاهرة على إرادة العفة لا العتق . انتهى .

                زاحمته امرأة ، فقال تأخري يا حرة ، وكانت أمته وهو لا يشعر ، أفتى الغزالي بأنها لا تعتق . قال الرافعي : فإن أراده في الظاهر فيمكن أن يفرق بأنه لا يدري من يخاطب هاهنا ، وعنده أنه يخاطب غير أمته وهناك خاطب العبد باللفظ الصريح .

                وفي البسيط أن بعض الوعاظ طلب من الحاضرين شيئا ، فلم يعطوه ، فقال متضجرا منهم : طلقتكم ثلاثا ، وكانت زوجته فيهم ، وهو لا يعلم . فأفتى إمام الحرمين بوقوع الطلاق ، قال الغزالي وفي القلب منه شيء .

                قال الرافعي : ولك أن تقول : ينبغي أن لا تطلق ; لأن قوله " طلقتكم " لفظ عام ، وهو يقبل الاستثناء بالنية ، كما لو حلف لا يسلم على زيد ، فسلم على قوم هو فيهم ، واستثناه بقلبه لم يحنث ، وإذا لم يعلم أن زوجته في القوم كان مقصوده غيرها .

                وقال النووي : ما قاله الإمام والرافعي عجيب ، أما العجب من الرافعي فلأن هذه المسألة ليست كمسألة السلام على زيد ; لأنه هناك علم به واستثناه ، وهنا لم يعلم بها ولم يستثنها ، واللفظ يقتضي الجميع ، إلا ما أخرجه ولم يخرجها . وأما العجب من الإمام فلأن الشرط قصد لفظ الطلاق بمعنى الطلاق ، ولا يكفي قصد لفظ من غير قصد معناه ، ومعلوم أن الواعظ لم يقصد معنى الطلاق ، فينبغي أن لا تطلق لذلك لما ذكره الرافعي .

                وقال في المهمات : ونظير ذلك ما حكيناه ، عن الغزالي في مسألة " تأخري يا حرة " أنها لا تعتق ، وقال البلقيني فتح الله بتخريجين آخرين ، يقتضيان عدم وقوع الطلاق : أحدهما : أن يخرج ذلك على من حلف لا يسلم على زيد فسلم على قوم هو فيهم وهو لا يعلم أنه فيهم ، والمذهب أنه لا يحنث ، وهذا غير مسألة الرافعي التي قاس عليها ، فإنه هناك علم واستثنى وهنا لم يعلم أصلا .

                الثاني : أن الطلاق لغة : الهجر ، وشرعا : حل قيد النكاح بوجه مخصوص ، ولا يمكن حمل كلام الواعظ على المشترك ; لأنه هنا متعذر ; لأن شرط حمل المشترك على معنييه أن [ ص: 32 ] لا يتضادا ، فتعينت اللغوية ، وهو لا يفيد إيقاع الطلاق على زوجته ; بل لو صرح فقال : طلقتكم وزوجتي ، لم يقع الطلاق عليها ، كما قالوه في : " نساء العالمين طوالق وأنت يا فاطمة " من جهة أنه عطف على نسوة لم تطلق . انتهى .

                قال يا طالق وهو اسمها ; ولم يقصد الطلاق لم تطلق ، وكذا لو كان اسمها طارقا أو طالبا وقال قصدت النداء فالتف الحرف ، قال : أنت طالق ، ثم قال : أردت إن شاء زيد أو إن دخلت الدار دين ولم يقبل ظاهرا .

                قال : كل امرأة لي طالق ، وقال أردت غير فلانة دين ، ولم يقبل ظاهرا إلا لقرينة ; بأن خاصمته وقالت تزوجت ، فقال ذلك ، وقال : أردت غير المخاصمة ، ولو وقع ذلك في اليمين قبل مطلقا ; كأن يحلف لا يكلم أحدا ويريد زيدا ، أو لا يأكل طعاما ويريد شيئا معينا . قال أنت طالق ، ثم قال أردت غيرها فسبق لساني إليها دين .

                قال : طلقتك ، ثم قال ، أردت طلبتك دين .

                قال : أنت طالق إن كلمت زيدا ، ثم قال : أردت إن كلمته شهرا . قال الإمام : نص الشافعي أنه لا يقع الطلاق باطنا بعد الشهر ، فلو كان في الحلف بالله قبل ظاهرا أيضا .

                قال : أنت طالق ثلاثا للسنة وقال نويت تفريقها على الأقراء ; دين ولم يقبل ظاهرا ; لأن اللفظ يقتضي وقوع الكل في الحال إلا لقرينة ، بأن كان يعتقد تحريم الجمع في قرء واحد ولو لم يقل للسنة ، ففي المنهاج أنه كما لو قال . والذي في الشرحين والمحرر : أنه لا يقبل مطلقا ولا ممن يعتقد التحريم .

                قال : لامرأته وأجنبية : إحداكما طالق ، وقال : أردت الأجنبية قبل ، بخلاف ما لو قال : عمرة طالق ; وهو اسم امرأته ، وقال : أردت أجنبية ، فإنه يدين ولا يقبل .

                تتمة :

                استثنى مواضع يكتفى فيها باللفظ . على رأي ضعيف :

                منها : الزكاة : ففي وجه أو قول يكفي نيتها لفظا . واستدل بأنها تخرج من مال المرتد ولا تصح نيته ، وتجوز النيابة فيها ، ولو كانت نية القلب متعينة لوجب على المكلف بها مباشرتها لأن النيات سر العبادات والإخلاص فيها . قال : ولا يرد على ذلك الحج حيث تجري فيه النيابة وتشترط فيه نية القلب ، لأنه لا ينوب فيه من ليس من أهل الحج . وفي الزكاة ينوب فيها من ليس من أهلها كالعبد والكافر .

                ومنها : إذا لبى بحج أو عمرة ولم ينو ، ففي قول : إنه ينعقد ويلزمه ما سمى لأنه التزمه بالتسمية ، وعلى هذا لو لبى مطلقا انعقد الإحرام مطلقا .

                ومنها إذا أحرم مطلقا ، ففي وجه يصح صرفه إلى الحج والعمرة باللفظ ، والأصح في الكل أنه لا أثر للفظ .

                [ ص: 33 ] وأما الأصل الثاني : وهو أنه لا يشترط مع نية القلب التلفظ فيه ، ففيه فروع كثيرة منها كل العبادات .

                ومنها : إذا أحيا أرضا بنية جعلها مسجدا ، فإنها تصير مسجدا بمجرد النية ، ولا يحتاج إلى لفظ .

                ومنها : من حلف لا يسلم على زيد ، فسلم على قوم هو فيهم واستثناه بالنية ، فإنه لا يحنث ، بخلاف من حلف لا يدخل عليه ; فدخل على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه ، وقصد الدخول على غيره ، فإنه يحنث في الأصح ، والفرق أن الدخول فعل لا يدخله الاستثناء ، ولا ينتظم أن يقول : دخلت عليكم إلا على فلان ، ويصح أن يقال : سلمت عليكم إلا على فلان .

                وخرج عن هذا الأصل صور ، بعضها على رأي ضعيف .

                منها : الإحرام ، ففي وجه أو قول ، أنه لا ينعقد بمجرد النية حتى يلبي ، وفي آخر : يشترط التلبية أو سوق الهدي وتقليده ، وفي آخر : أن التلبية واجبة ، لا شرط للانعقاد فعليه دم ، والأصح أنها لا شرط ولا واجبة ، فينعقد الإحرام بدونها ولا يلزمه شيء .

                ومنها : لو نوى النذر أو الطلاق بقلبه ولم يتلفظ ، لم ينعقد النذر ولا يقع الطلاق . ومنها : اشترى شاة بنية التضحية أو الإهداء ، لم تصر كذلك على الصحيح حتى يتلفظ . ومنها : باع بألف وفي البلد نقود لا غالب فيها ، فقبل ونويا نوعا لم يصح في الأصح حتى يبيناه لفظا ، وفي نظيره من الخلع : يصح في الأصح لأنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع . وفي نظيره من النكاح لو قال من له بنات : زوجتك بنتي ، ونويا واحدة صح على الأصح .

                ومنها لو قال أنت طالق ، ثم قال أردت إن شاء الله تعالى لم يقبل . قال الرافعي : والمشهور أنه لا يدين أيضا ، بخلاف ما إذا قال : أردت إن دخلت ; أو إن شاء زيد فإنه يدين وإن لم يقبل ظاهرا ، قال : والفرق بين إن شاء الله وبين سائر صور التعليق ; أن التعليق بمشيئة الله يرفع حكم الطلاق جملة فلا بد فيه من اللفظ ، والتعليق بالدخول ونحوه لا يرفعه جملة ، بل يخصصه بحال دون حال .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية