الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب الحكم في التعدي

                                                                                                                                                                                        ومن المدونة قيل لابن القاسم: لو كسرت صحفة لرجل فصيرتها فلقتين، أو كسرتها كسرا غير فاسد، أو شققت ثوبا فأفسدت الثوب، شققته نصفين أو شقا قليلا، قال : قال مالك في رجل أفسد لرجل ثوبا: إن كان الفساد يسيرا رأيت أن يرفوه ثم يغرم ما نقصه بعد الرفو، وإن كان الفساد كثيرا أغرمه قيمته يوم أفسده، قال ابن القاسم: فإن قال رب الثوب لا أسلمه -وقد كان الفساد كثيرا- ولكن أتبعه بما أفسد، قال ذلك له، ولقد كان مالك -دهره- يقول لنا في الفساد: يغرم ما نقصه، ولا يقول قليلا ولا كثيرا حتى وقف بعد، فقال هذا القول في الفساد الكثير .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ: التعدي على أربعة أوجه: يسيرا لم يبطل الغرض المقصود منه، ويسيرا بطل ذلك منه، وكثيرا لم يبطل الغرض منه ، وكثيرا بطل ذلك منه.

                                                                                                                                                                                        فإن كان التعدي يسيرا أو لم يبطل الغرض منه لم يضمنه بذلك، قال مالك: فإن كان ثوبا رفاه أو قصعة أصلحها وغرم ما نقصها بعد الإصلاح فألزمه إصلاحه؛ لأن صاحبه لا يقدر على استعماله إلا بعد [ ص: 5759 ] إصلاحه وقد كان في مندوحة عن ذلك وليس ذلك من باب القضاء بالمثل في ما قل قدره ولو كان ذلك ما غرم والنقص بعد الإصلاح؛ لأن من غرم مثل ما تعدى عليه لم يكن عليه غرم آخر وقد يكون قيمة الثوب سالما مائة ومعيبا تسعين ويغرم في رفوه عشرة، ثم تكون قيمته بعد ذلك خمسة وتسعون، فيغرم المتعدي خمسة، وقد لا يزيد الإصلاح في قيمته معيبا شيئا، ومثل ذلك إذا حلق رأس محرم مكرها أنه يطعم عنه أو ينسك؛ لأنه أدخله في ذلك، فإن كان الحالق فقيرا افتدى المحرم ورجع عليه متى أيسر.

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف في هذا الأصل هل يغرم الجارح أجر الطبيب؟ فقيل ذلك عليه فإن برئ على شين غرمه أيضا، وهذا موافق لما تقدم في الرفو أنه على المتعدي، وقيل ذلك على المجروح، ويلزم على هذا إذا كانت الجناية على عبد لا توجب غرم قيمته أن يكون علاجه على سيده، فإن برئ من غير شين لم يكن على الجارح شيء.

                                                                                                                                                                                        والأول أحسن أن على الجاني الرفو وأجرة الطبيب إلا أن يحب صاحب الثوب أن يغرمه قيمة العيب قبل الإصلاح فذلك له؛ لأن إصلاحه من مقال ربه لا عليه، فإن كانت الجناية كثيرة لم تبطل الغرض المقصود منه، كان حكمها حكم اليسير.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كانت يسيرة وأفسدته وقد تقدم قول مالك في ذلك.

                                                                                                                                                                                        واختلف بعد القول إن له أن يضمنه إذا أحب أن يأخذه هل له ما نقص [ ص: 5760 ] العيب؟ فقال مالك وابن القاسم: ذلك له، وقال أشهب ومحمد: لا شيء له ؛ لأنه ملك أن يضمن فرضي به ناقصا، وقاله ابن القاسم في كتاب الحد في القذف .

                                                                                                                                                                                        والأول أصوب؛ لأنه يقول: آخذ ما وجدت من ملكي وأضمن ما لم أجد ولي غرض في الباقي أن لا أخرجه عن ملكي.

                                                                                                                                                                                        ويختلف إذا بطل باليسير الغرض المقصود منه والذي يكتسب لأجله هل يضمن جميعه قياسا على أحد قولي مالك في الكثير؟ فقال أبو الحسن بن القصار: إذا أبطلت الجناية الغرض المقصود منه ضمن جميعه، قال: فإن قطع ذنب حمار القاضي أو أذنه أو رماه بشيء حتى عرج ضمنه، قال: ومركوب القاضي والشاهد والكاتب وكل ما يعلم أن مثله لا يركب مثل ذلك فذلك سواء، وسواء كان حمارا أو بغلا أو غيره ولا فرق بين المركوب والملبوس كقلنسوة القاضي وطيلسانه وعمامته وكذلك نظير القاضي ممن لا يعلم أنه لا يلبس ذلك المجني عليه ولا يستعمله فيما قصد إليه قال: هذه الرواية المشهورة عن مالك . يريد: أن ليس له أن يضمنه على أحد قولي مالك في التعدي أنه لا يضمن في الكثير. [ ص: 5761 ]

                                                                                                                                                                                        وفي كتاب ابن حبيب: لا يضمن إذا أفسد الأذن بخلاف الذنب . والأول أصوب، وشين ذهاب الأذنين كثير لا يركبهما أحد ممن تقدم ذكره.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن الماجشون في ثمانية أبي زيد في الفرس تفقأ عينه: عليه ما نقصه فإن فقأ عينه ضمنه ، وإن ضرب ضرع شاة أو بقرة فانقطع لبنها ضمنها إذا كان شأنها اللبن، وهو عظيم ما يراد منها، وتقتنى له.

                                                                                                                                                                                        ولو كانت رمكة أو ناقة أو حمارة فقطع ذنبها كان عليه ما نقصها؛ لأن هذه للركوب والحمولة أكثر ما يراد منها .

                                                                                                                                                                                        وقال في كتاب ابن حبيب: ما نقصها لأن فيها منافع غير ذلك.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية