الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 316 ] وأيضا فإن الله أمر بالجهاد في سبيله بالنفس والمال مع أن الجهاد مظنة القتل ، بل لا بد منه في العادة من القتل . وذم الذين ينكلون عنه خوف القتل ، وجعلهم منافقين ، فقال تعالى : ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس إلى قوله : في بروج مشيدة . وقال تعالى : ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا .

فأخبر سبحانه أن الفرار من الموت أو القتل لا ينفع ، بل لا بد أن يموت العبد ، وما أكثر من يفر فيموت أو يقتل ، وما أكثر من ثبت فلا يقتل .

ثم قال : ولو عشتم لم تمتعوا إلا قليلا ثم تموتوا . ثم أخبر أنه لا أحد يعصمهم من الله إن أراد أن يرحمهم أو يعذبهم ، فالفرار من طاعته لا ينجيهم . وأخبر أنه ليس لهم من دون الله ولي ولا نصير .

وقد بين في كتابه أن ما يوجبه الجبن من الفرار هو من الكبائر الموجبة للنار ، فقال : إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار [ ص: 317 ] ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير .

وأخبر أن الذين يخافون العدو خوفا منعهم من الجهاد منافقون ، فقال : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون .

وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عد الكبائر; فذكر الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، والسحر ، واليمين الغموس ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . وذكر منها الفرار من الزحف في الصفين .

[و] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "شر ما في المرء : شح هالع ، أو جبن خالع" .

وأما دلالة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فمن وجوه كثيرة :

منها : أن المسلمين يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، وكان عدوهم بقدرهم ثلاث مرات أو أكثر ، وبدر أفضل الغزوات وأعظمها .

فعلم أن القوم يشرع لهم أن يقاتلوا من يزيدون على ضعفهم ، ولا فرق في ذلك بين الواحد والعدد ، فمقاتلة الواحد للثلاثة كمقاتلة الثلاثة للعشرة . [ ص: 318 ]

وأيضا فالمسلمون يوم أحد كانوا نحوا من ربع العدو; فإن العدو كانوا ثلاثة آلاف أو نحوها ، وكان المسلمون نحو السبعمائة أو قريبا منها .

وأيضا فالمسلمون يوم الخندق كان العدو بقدرهم مرات ، فإن العدو كان أكثر من عشرة آلاف ، وهم الأحزاب الذين تحزبوا عليهم من قريش وحلفائها وأحزابها الذين كانوا حول مكة وغطفان وأهل نجد ، واليهود الذين نقضوا العهد وهم بنو قريظة جيران أهل المدينة ، وكان المسلمون بالمدينة دون الألفين .

وأيضا فقد كان الرجل وحده على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل على العدو بمرأى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وينغمس فيهم ، فيقاتل حتى يقتل . وهذا كان مشهورا بين المسلمين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه .

وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة رهط عينا ، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان ، فنهدوا إليهم بقريب من مائة رجل رام -وفي رواية : مائتي رجل- فاقتفوا آثارهم ، حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه فقالوا [هذا] تمر يثرب .

فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع -وفي رواية إلى فدفد ، أي إلى مكان مرتفع- فأحاط بهم القوم ، فقالوا لهم : [ ص: 319 ]

انزلوا فأعطوا أيديكم ولكم العهد والميثاق ، لا يقتل منكم أحد . فقال عاصم بن ثابت : أيها القوم! أما أنا فلا أنزل على ذمة كافر ، اللهم أخبر عنا نبيك - صلى الله عليه وسلم - . فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة .

ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق ، منهم خبيب وزيد بن الدثنة ، ورجل آخر . فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها .

قال الرجل الثالث : هذا أول الغدر ، والله لا أصحبكم ، لي بهؤلاء أسوة; يريد القتلى . فجرروه وعالجوه; فأبى أن يصحبهم ، فقتلوه ، وانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر .

فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف خبيبا ، وكان خبيب هو قتل الحارث بن عمرو يوم بدر . ولبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله . فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها ، فأعارته فدرج بني لها وهي غافلة حتى أتاه [قالت : فوجدته] مجلسه على فخذه والموسى بيده; قالت : ففزعت فزعة عرفها خبيب . فقال : أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك . قالت : والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب ، فوالله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده ، وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر .

وكانت تقول : إنه لرزق رزقه الله خبيبا . فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل ، قال لهم خبيب : دعوني أصلي ركعتين . فتركوه فركع ركعتين . فقال . والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت ، اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم أحدا . قال :


فلست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان لله مصرعي [ ص: 320 ]     وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع

ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله ، وكان خبيب هو سن لكل مسلم قتل صبرا الصلاة . وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة يوم أصيبوا خبرهم . وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا أنه قد قتل أن يؤتى بشيء منه يعرف ، وكان قتل رجلا من عظمائهم . فبعث الله لعاصم مثل الظلة [من الدبر] ، فحمته من رسلهم ، فلم يقدروا على أن يقطعوا منه شيئا .

فهؤلاء عشرة أنفس قاتلوا أولئك المئة أو المئتين ، ولم يستأسروا لهم حتى قتلوا منهم سبعة . ثم لما استأسروا الثلاثة امتنع الواحد من اتباعهم حتى قتلوه . وهؤلاء من فضلاء المؤمنين وخيارهم .

وعاصم هذا هو جد عاصم بن عمر ، وعاصم بن عمر جد عمر بن عبد العزيز ; فإن عمر بن الخطاب كان قد نهى الناس أن يشوب أحد اللبن بالماء للبيع ، فبينما عمر ذات ليلة يعس إذ سمع امرأة تقول لأخرى : قومي فشوبي اللبن . فقالت : إن أمير المؤمنين قد نهى عن ذلك . فقالت : وما يدري أمير المؤمنين؟ فقالت : لا والله [ ص: 321 ] لا نطيعه في العلانية ونعصيه في السر . فعلم عمر على [الباب] ، فلما أصبح سأل عن أهل ذلك البيت ، فإذا به أهل بيت عاصم هذا الأمير المستشهد ، والمرأة المطيعة ابنته ، فخطبها وتزوجها .

وقد روي أنه زوجها ابنه عاصما هذا ، وإن كان عمر قبل ذلك تزوج ابنة عاصم هذا فولدت له عاصما ابنه ، وصدق عمر بن عبد العزيز من ذرية عاصم .

التالي السابق


الخدمات العلمية