الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            5 - ( وعن حذيفة بن اليمان { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه وهو جنب فحاد عنه فاغتسل ثم جاء ، فقال : كنت جنبا ، فقال : إن المسلم لا ينجس } رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي . وروى الجماعة كلهم نحوه من حديث أبي هريرة )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أبي هريرة المشار إليه له ألفاظ منها { أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب فانخنس منه فذهب فاغتسل ثم جاء ، فقال له : أين كنت يا أبا هريرة ؟ قال : كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة ، فقال : سبحان الله إن المؤمن لا ينجس } قوله : ( وهو جنب ) يعني نفسه .

                                                                                                                                            وفي رواية أبي داود ( وأنا جنب ) وهذه [ ص: 35 ] اللفظة تقع على الواحد المذكر والمؤنث والاثنين والجمع بلفظ واحد .

                                                                                                                                            قال الله تعالى في الجمع : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وقال بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : إني كنت جنبا . وقد يقال جنبان وجنبون وأجناب : قوله : ( فحاد عنه ) أي مال وعدل .

                                                                                                                                            قوله : ( لا ينجس ) فيه لغتان ضم الجيم وفتحها ، وفي ماضيه أيضا لغتان نجس ونجس بكسر الجيم وضمها ، فمن كسرها في الماضي فتحها في المضارع ، ومن ضمها في الماضي ضمها في المضارع أيضا قال النووي : وهذا قياس مطرد ومعروف عند أهل العربية إلا أحرفا مستثناة من الكسر قوله : ( إن المسلم ) تمسك بمفهومه بعض أهل الظاهر وحكاه في البحر عن الهادي والقاسم والناصر ومالك فقالوا : إن الكافر نجس عين وقووا ذلك بقوله تعالى : { إنما المشركون نجس } وأجاب عن ذلك الجمهور بأن المراد منه أن المسلم طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة بخلاف المشرك لعدم تحفظه عن النجاسة ، وعن الآية بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار ، وحجتهم على صحة هذا التأويل أن الله أباح نساء أهل الكتاب ، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن ، ومع ذلك فلا يجب من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليهم من غسل المسلمة ، ومن جملة ما استدل به القائلون بنجاسة الكافر حديث إنزاله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف المسجد ، وتقريره لقول الصحابة : قوم أنجاس لما رأوه أنزلهم المسجد .

                                                                                                                                            وقوله لأبي ثعلبة لما قال له : { يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم قال : إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها } وسيأتي في باب آنية الكفار ، وأجاب الجمهور عن حديث إنزال وفد ثقيف بأنه حجة عليهم لا لهم ; لأن قوله ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء إنما أنجاس القوم على أنفسهم بعد قول الصحابة : قوم أنجاس صريح في نفي النجاسة الحسية التي هي محل النزاع ، ودليل على أن المراد نجاسة الاعتقاد والاستقذار .

                                                                                                                                            وعن حديث أبي ثعلبة بأن الأمر بغسل الآنية ليس لتلوثها برطوباتهم بل لطبخهم الخنزير وشربهم الخمر فيها . يدل على ذلك ما عند أحمد وأبي داود من حديث أبي ثعلبة أيضا بلفظ : إن أرضنا أرض أهل كتاب وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم ؟ وسيأتي .

                                                                                                                                            ومن أجوبة الجمهور عن الآية ومفهوم حديث الباب بأن ذلك تنفير عن الكفار وإهانة لهم ، وهذا وإن كان مجازا فقرينته ما ثبت في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة ، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سواري المسجد . وأكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر . وأكل من الجبن المجلوب من بلاد النصارى كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر ، وأكل من خبز الشعير والإهالة لما دعاه إلى ذلك يهودي ، .

                                                                                                                                            وسيأتي في باب آنية الكفار ، وما سلف من مباشرة الكتابيات ، والإجماع على [ ص: 36 ] جواز مباشرة المسبية قبل إسلامها ، وتحليل طعام أهل الكتاب ونسائهم بآية المائدة وهي آخر ما نزل ، وإطعامه صلى الله عليه وسلم وأصحابه للوفد من الكفار من دون غسل للآنية ، ولا أمر به ، ولم ينقل توقي رطوبات الكفار عن السلف الصالح ولو توقوها لشاع . قال ابن عبد السلام ليس من التقشف أن يقول أشتري من سمن المسلم لا من سمن الكافر ; لأن الصحابة لم يلتفتوا إلى ذلك .

                                                                                                                                            وقد زعم المقبلي في المنار أن الاستدلال بالآية المذكورة على نجاسة الكافر وهم ; لأنه حمل لكلام الله ورسوله على اصطلاح حادث وبين النجس في اللغة والنجس في عرف المتشرعة عموم وخصوص من وجه فالأعمال السيئة نجسة لغة لا عرفا ، والخمر نجس عرفا وهو أحد الأطيبين عند أهل اللغة ، والعذرة نجس في العرفين فلا دليل في الآية انتهى .

                                                                                                                                            ولا يخفاك أن مجرد تخالف اللغة والاصطلاح في هذه الأفراد لا يستلزم عدم صحة الاستدلال بالآية على المطلوب ، والذي في كتب اللغة أن النجس ضد الطاهر ، قال في القاموس : النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك وككتف وعضد ضد الطاهر انتهى .

                                                                                                                                            فالذي ينبغي التعويل عليه في عدم صحة الاحتجاج بها هو ما عرفناك ، وحديث الباب أصل في طهارة المسلم حيا وميتا ، أما الحي فإجماع ، وأما الميت ففيه خلاف . فذهب أبو حنيفة ومالك ومن أهل البيت الهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبو طالب إلى نجاسته ، وذهب غيرهم إلى طهارته ، واستدل صاحب البحر للأولين على النجاسة بنزح زمزم من الحبش ، وهذا مع كونه من فعل ابن عباس ، كما أخرجه الدارقطني عنه ، وقول الصحابي وفعله لا ينتهض للاحتجاج به على الخصم محتمل أن يكون للاستقذار لا للنجاسة ، ومعارض بحديث الباب ، وبحديث ابن عباس نفسه عند الشافعي والبخاري تعليقا بلفظ : { المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا } وبحديث أبي هريرة المتقدم . وبحديث ابن عباس أيضا عند البيهقي { إن ميتكم يموت طاهرا فحسبكم أن تغسلوا أيديكم } وترجيح رأي الصحابي على روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواية غيره من الغرائب التي لا يدرى ما الحامل عليها .

                                                                                                                                            وفي الحديث من الفوائد مشروعية الطهارة عند ملابسة الأمور العظيمة ، واحترام أهل الفضل وتوقيرهم ، ومصاحبتهم على أكمل الهيئات ، وإنما حاد حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وانخنس أبو هريرة ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعتاد مماسحة أصحابه إذا لقيهم والدعاء لهم ، هكذا رواه النسائي وابن حبان من حديث حذيفة ، فلما ظنا أن الجنب يتنجس بالحدث خشيا ، أن يماسحهما كعادته فبادرا إلى الاغتسال ، وإنما ذكر المصنف رحمه اللههذا الحديث في باب طهارة الماء المتوضأ به لقصد تكميل الاستدلال على عدم نجاسة الماء المتوضأ به ; لأنه إذا ثبت أن المسلم لا ينجس فلا وجه لجعل الماء نجسا بمجرد مماسته له ، وسيأتي في هذا الكتاب باب معقود لعدم نجاسة المسلم بالموت ، وسيشير المصنف إلى هذا الحديث هنالك .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية