الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب النهي عن سفر المرأة للحج أو غيره إلا بمحرم

                                                                                                                                            1802 - ( عن ابن عباس أنه سمع النبي يخطب يقول : { لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، قال : فانطلق فحج مع امرأتك } ) .

                                                                                                                                            1803 - ( وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تسافر المرأة ثلاثة إلا ومعها ذو محرم } متفق عليهما ) .

                                                                                                                                            1804 - ( وعن أبي سعيد { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين أو ليلتين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم } . متفق عليه وفي لفظ قال : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو زوجها أو ابنها أو أخوها أو ذو محرم منها " رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي ) .

                                                                                                                                            1805 - ( وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : لا يحل لامرأة تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها } متفق عليه .

                                                                                                                                            وفي رواية " مسيرة يوم " وفي رواية " مسيرة ليلة " وفي رواية " لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم " رواهن [ ص: 344 ] أحمد ومسلم .

                                                                                                                                            وفي رواية لأبي داود " بريدا " )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            . قوله : ( لا يخلون رجل بامرأة . . . إلخ ) فيه منع الخلو بالأجنبية وهو إجماع كما قال في الفتح ، وتجوز الخلوة مع وجود المحرم . واختلفوا هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا كالنسوة الثقات ؟ فقيل : يجوز لضعف التهمة . وقيل : لا يجوز بل لا بد من المحرم وهو ظاهر الحديث قوله : ( ولا تسافر المرأة ) أطلق السفر ههنا وقيده في الأحاديث المذكورة بعده . قال في الفتح : وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقديرات . قال النووي : ليس المراد من التحديد ظاهره بل كل ما يسمى سفرا ، فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم ، وإنما وقع التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمفهومه .

                                                                                                                                            وقال ابن التين : وقع الاختلاف في مواطن بحسب السائلين . وقال المنذري : يحتمل أن يقال إن اليوم المفرد والليلة المفردة بمعنى اليوم والليلة ، يعني فمن أطلق يوما أراد بليلته أو ليلة أراد بيومها . قال : ويحتمل أن يكون هذا كله تمثيلا لأوائل الأعداد ، فاليوم أول العدد ، والاثنان أول التكثير ، والثلاث أول الجمع . ويحتمل أن يكون ذكر الثلاث قبل ذكر ما دونها ، فيؤخذ بأقل ما يورد من ذلك ، وأقله الرواية التي فيها ذكر البريد كما في رواية أبي هريرة المذكورة في الباب ، وقد أخرجها الحاكم والبيهقي . وقد ورد في حديث ابن عباس عند الطبراني ما يدل على اعتبار المحرم فيما دون البريد ، ولفظ { لا تسافر المرأة ثلاثة أميال إلا مع زوج أو ذي محرم } وهذا هو الظاهر : أعني الأخذ بأقل ما ورد لأن ما فوقه منهي عنه بالأولى ، والتنصيص على ما فوقه كالتنصيص على الثلاث واليوم والليلة واليومين والليلتين لا ينافيه لأن الأقل موجود في ضمن الأكثر ، وغاية الأمر أن النهي عن الأكثر يدل بمفهومه على أن ما دونه غير منهي عنه ، والنهي عن الأقل منطوق وهو أرجح من المفهوم

                                                                                                                                            وقالت الحنفية . : إن المنع مقيد بالثلاث لأنه متحقق وما عداه مشكوك فيه فيؤخذ بالمتيقن . ونوقض بأن الرواية المطلقة شاملة لكل سفر فينبغي الأخذ بها وطرح ما سواها فإنه مشكوك فيه ، والأولى أن يقال : إن الرواية المطلقة مقيدة بأقل ما ورد وهي رواية الثلاثة الأميال إن صحت ، وإلا فرواية البريد . وقال سفيان : يعتبر المحرم في المسافة البعيدة لا القريبة . وقال أحمد : لا يجب الحج على المرأة إذا لم تجد محرما . وإلى كون المحرم شرطا في الحج ذهب العترة وأبو حنيفة والنخعي وإسحاق والشافعي في أحد قوليه على خلاف بينهم هل هو شرط أداء أو شرط وجوب . وقال مالك وهو مروي عن أحمد : إنه لا يعتبر المحرم في سفر الفريضة .

                                                                                                                                            وروي عن الشافعي وجعلوه مخصوصا من عموم الأحاديث بالإجماع . ومن جملة سفر الفريضة سفر الحج . وأجيب بأن الجمع عليه إنما هو سفر الضرورة فلا يقاس عليه سفر الاختيار ، كذا قال صاحب المغني ، وأيضا قد وقع عند الدارقطني بلفظ [ ص: 345 ] لا تحجن امرأة إلا ومعها زوج " وصححه أبو عوانة .

                                                                                                                                            وفي رواية للدارقطني أيضا عن أبي أمامة مرفوعا { لا تسافر المرأة سفر ثلاثة أيام أو تحج إلا ومعها زوجها } فكيف يخص سفر الحج من بقية الأسفار

                                                                                                                                            وقد قيل : إن اعتبار المحرم إنما هو في حق من كانت شابة لا في حق العجوز لأنها لا تشتهى . وقيل : لا فرق لأن لكل ساقط لاقطا وهو مراعاة للأمر النادر . وقد احتج أيضا من لم يعتبر المحرم في سفر الحج بما في البخاري من حديث عدي بن حاتم مرفوعا بلفظ { يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها } وتعقب بأنه يدل على وجود ذلك لا على جوازه . وأجيب عن هذا بأنه خبر في سياق المدح ورفع منار الإسلام فيحمل على الجواز ، والأولى حمله على ما قال المتعقب جمعا بينه وبين أحاديث الباب قوله : ( إلا مع ذي محرم ) يعني فيحل لها السفر . قال في الفتح : وضابط المحرم عند العلماء من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها ، فخرج بالتأبيد زوج الأخت والعمة ، وبالمباح أم الموطوءة بشبهة وبنتها وبحرمتها الملاعنة . واستثنى أحمد الأب الكافر فقال : لا يكون محرما لبنته المسلمة لأنه لا يؤمن أن يفتنها عن دينها ، ومقتضاه إلحاق سائر القرابة بالأب لوجود العلة

                                                                                                                                            وروي عن البعض أن العبد كالمحرم وقد روى سعيد بن منصور من حديث ابن عمر مرفوعا { سفر المرأة مع عبدها ضيعة } قال الحافظ : لكن في إسناده ضعف . قال : وينبغي لمن قال بذلك أن يقيده بما إذا كانا في قافلة بخلاف ما إذا كانا وحدهما فلا لهذا الحديث قوله : ( فحج مع امرأتك ) فيه دليل على أن الزوج داخل في مسمى المحرم أو قائم مقامه . قال في الفتح : وقد أخذ بظاهر الحديث بعض أهل العلم ، فأوجب على الزوج السفر مع امرأته إذا لم يكن لها غيره . وبه قال أحمد وهو وجه للشافعي ، والمشهور أنه لا يلزمه كالولي في الحج عن المريض ، فلو امتنع إلا بأجرة لزمتها لأنه من سبيلها ، فصار في حقها كالمئونة . واستدل به على أنه ليس للزوج منع امرأته من حج الفرض ، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية ، والأصح عندهم أن له منعها لكون الحج على التراخي .

                                                                                                                                            وقد روى الدارقطني عن ابن عمر مرفوعا في { امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها } . وأجيب عنه بأنه محمول على حج التطوع جمعا بين الحديثين . ونقل ابن المنذر الإجماع على أن للرجل منع زوجته عن الخروج في الأسفار كلها ، وإنما اختلفوا فيما إذا كان واجبا . وقد استدل ابن حزم بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة السفر بغير زوج ولا محرم لكونه صلى الله عليه وسلم لم يعب عليها ذلك السفر بعد أن أخبره زوجها . وتعقب بأنه لو لم يكن ذلك شرطا ما أمر زوجها بالسفر معها وترك الغزو الذي كتب فيه قوله : ( إلا ومعها أبوها . . . إلخ ) وقع في هذه الرواية بيان بعض المحارم

                                                                                                                                            وقوله : ( أو ذو محرم منها ) من عطف العام [ ص: 346 ] على الخاص . وأحاديث الباب تدل على أنه لا يجب الحج على المرأة إلا إذا كان لها محرم . قال ابن دقيق العيد : هذه المسألة تتعلق بالعامين إذا تعارضا ، فإن قوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت } الآية ، عام في الرجال والنساء ، فمقتضاه أن الاستطاعة على السفر إذا وجدت وجب الحج على الجميع . وقوله صلى الله عليه وسلم : { لا تسافر المرأة إلا مع محرم } عام في كل سفر فيدخل فيه الحج ، فمن أخرجه عنه خص الحديث بعموم الآية ، ومن أدخله فيه خص الآية بعموم الحديث فيحتاج إلى الترجيح من خارج انتهى . ويمكن أن يقال : إن أحاديث الباب لا تعارض الآية لأنها تضمنت أن المحرم في حق المرأة من جملة الاستطاعة على السفر التي أطلقها القرآن وليس فيها إثبات أمر غير الاستطاعة المشروطة حتى تكون من تعارض العمومين . لا يقال : الاستطاعة المذكورة قد بينت بالزاد والراحلة كما تقدم

                                                                                                                                            لأنا نقول : قد تضمنت أحاديث الباب زيادة على ذلك البيان باعتبار النساء غير منافية فيتعين قبولها ، على أن التصريح باشتراط المحرم في سفر الحج لخصوصه كما في الرواية التي تقدمت مبطل لدعوى التعارض




                                                                                                                                            الخدمات العلمية