[ ص: 286 ] قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين .
فيه عشر مسائل :
الأولى :
nindex.php?page=treesubj&link=29020قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا روى
المعتمر بن سليمان عن
أنس بن مالك قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831209قلت : يا نبي الله ، لو أتيت عبد الله بن أبي ؟ فانطلق إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إليك عني! فوالله لقد آذاني نتن حمارك . فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطيب ريحا منك . فغضب لعبد الله رجل من قومه ، وغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فكان بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه أنزل فيهم هذه الآية .
وقال
مجاهد : نزلت في
الأوس والخزرج . قال
مجاهد : تقاتل حيان من
الأنصار بالعصي والنعال فنزلت الآية . ومثله عن
سعيد بن جبير : أن
الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتال بالسعف والنعال ونحوه ، فأنزل الله هذه الآية فيهم .
وقال
قتادة : نزلت في رجلين من
الأنصار كانت بينهما مدارأة في حق بينهما! فقال أحدهما : لآخذن حقي عنوة ، لكثرة عشيرته . ودعاه الآخر إلى أن يحاكمه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تواقعا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال والسيوف ، فنزلت هذه الآية . وقال
الكلبي : نزلت في حرب
سمير وحاطب ، وكان
سمير قتل
حاطبا ، فاقتتل
الأوس والخزرج حتى أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنزلت . وأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أن يصلحوا بينهما . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : كانت امرأة من
الأنصار يقال لها :
أم زيد تحت رجل من غير
الأنصار ، فتخاصمت مع زوجها ، أرادت أن تزور قومها فحبسها زوجها وجعلها في علية لا يدخل عليها أحد من أهلها ، وأن المرأة بعثت إلى قومها ، فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها ، فخرج الرجل فاستغاث أهله فخرج بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها ، فتدافعوا وتجالدوا بالنعال ، فنزلت الآية .
والطائفة تتناول الرجل الواحد والجمع والاثنين ، فهو مما حمل على المعنى دون اللفظ ; لأن الطائفتين في معنى القوم والناس . وفي قراءة
عبد الله ( حتى يفيئوا إلى أمر الله فإن فاءوا فخذوا بينهم بالقسط ) وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12356ابن أبي عبلة ( اقتتلتا ) على لفظ الطائفتين . وقد مضى في آخر ( براءة ) القول فيه . وقال
ابن عباس في قوله - عز وجل - :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=2وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين قال : الواحد فما فوقه ،
[ ص: 287 ] والطائفة من الشيء القطعة منه .
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فأصلحوا بينهما بالدعاء إلى كتاب الله لهما أو عليهما .
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فإن بغت إحداهما على الأخرى تعدت ولم تجب إلى حكم الله وكتابه . والبغي : التطاول والفساد .
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله أي ترجع إلى كتابه . فإن فاءت أي فإن رجعت
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فأصلحوا بينهما بالعدل أي احملوهما على الإنصاف . وأقسطوا أيها الناس فلا تقتتلوا . وقيل : أقسطوا أي : اعدلوا .
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9إن الله يحب المقسطين أي العادلين المحقين .
الثانية : قال العلماء : لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما ، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا أو لا . فإن كان الأول فالواجب في ذلك أن يمشى بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة . فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما . وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى ، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب ، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل . فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة ، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على مراشد الحق . فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين . والله أعلم .
الثالثة : هذه الآية دليل على وجوب
nindex.php?page=treesubj&link=9537قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين ، وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين ، واحتج بقوله - عليه السلام - : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=831210قتال المؤمن كفر ) . ولو كان قتال المؤمن الباغي كفرا لكان الله تعالى قد أمر بالكفر ، تعالى الله عن ذلك! وقد قاتل
الصديق - رضي الله عنه - : من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة ، وأمر ألا يتبع مول ، ولا يجهز على جريح ، ولم تحل أموالهم ، بخلاف الواجب في الكفار . وقال
الطبري : لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حد ولا أبطل باطل ، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم
[ ص: 288 ] من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم ، بأن يتحزبوا عليهم ، ويكف المسلمون أيديهم عنهم ، وذلك مخالف لقوله - عليه السلام - : (
خذوا على أيدي سفهائكم ) .
الرابعة : قال القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=12815أبو بكر بن العربي : هذه الآية أصل في قتال المسلمين ، والعمدة في حرب المتأولين ، وعليها عول الصحابة ، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة ، وإياها عنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=831211تقتل عمارا الفئة الباغية ) .
nindex.php?page=hadith&LINKID=830256وقوله - عليه السلام - في شأن الخوارج : ( يخرجون على خير فرقة أو على حين فرقة ] ، والرواية الأولى أصح ، لقوله - عليه السلام - : ( تقتلهم أولى الطائفتين إلى الحق ) . وكان الذي قتلهم
علي بن أبي طالب ومن كان معه . فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن
nindex.php?page=treesubj&link=31313عليا - رضي الله عنه - كان إماما ، وأن كل من خرج عليه باغ وأن قتاله واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح ; لأن
عثمان - رضي الله عنه - قتل والصحابة برآء من دمه ; لأنه منع من قتال من ثار عليه وقال : لا أكون أول من خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمته بالقتل ، فصبر على البلاء ، واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الأمة . ثم لم يمكن ترك الناس سدى ، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم
عمر في الشورى ، وتدافعوها ، وكان
علي كرم الله وجهه أحق بها وأهلها ، فقبلها حوطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل ، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل . فربما تغير الدين وانقض عمود الإسلام . فلما بويع له طلب
أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة
عثمان وأخذ القود منهم ، فقال لهم
علي - رضي الله عنه - : ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه . فقالوا : لا تستحق بيعة وقتلة
عثمان معك تراهم صباحا ومساء . فكان
علي في ذلك أشد رأيا وأصوب قيلا ; لأن
عليا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربا ثالثة ، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة ، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم ، فيجري القضاء بالحق .
ولا خلاف بين الأمة أنه
nindex.php?page=treesubj&link=9131_33467يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة . وكذلك جرى
لطلحة والزبير ، فإنهما ما خلعا
عليا من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة ، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب
عثمان أولى .
قلت : فهذا قول في سبب الحرب الواقع بينهم . وقال جلة من أهل العلم : إن الوقعة
بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة ، وعلى سبيل دفع كل واحد من
[ ص: 289 ] الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به ; لأن الأمر كان قد انتظم بينهم ، وتم الصلح والتفرق على الرضا . فخاف قتلة
عثمان - رضي الله عنه - من التمكين منهم والإحاطة بهم ، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا ، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين ، ويبدءوا بالحرب سحرة في العسكرين ، وتختلف السهام بينهم ، ويصيح الفريق الذي في عسكر
علي : غدر
طلحة والزبير . والفريق الذي في عسكر
طلحة والزبير : غدر
علي . فتم لهم ذلك على ما دبروه ، ونشبت الحرب ، فكان كل فريق دافعا لمكرته عند نفسه ، ومانعا من الإشاطة بدمه . وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى ، إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذه السبيل . وهذا هو الصحيح المشهور . والله أعلم .
الخامسة : قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله أمر بالقتال . وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولذلك تخلف قوم من الصحابة - رضي الله عنهم - عن هذه المقامات ،
nindex.php?page=showalam&ids=37كسعد بن أبي وقاص nindex.php?page=showalam&ids=12وعبد الله بن عمرو ومحمد بن مسلمة وغيرهم . وصوب ذلك
علي بن أبي طالب لهم ، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه . ويروى أن
معاوية - رضي الله عنه - لما أفضى إليه الأمر ، عاتب
سعدا على ما فعل ، وقال له : لم تكن ممن أصلح بين الفئتين حين اقتتلا ، ولا ممن قاتل الفئة الباغية . فقال له
سعد : ندمت على تركي قتال الفئة الباغية . فتبين أنه ليس على الكل درك فيما فعل ، وإنما كان تصرفا بحكم الاجتهاد وإعمالا بمقتضى الشرع . والله أعلم .
السادسة : وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ومن العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال ، فإنه تلف على تأويل . وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي . وهذا أصل في المصلحة . وقد قال لسان الأمة : إن حكمة الله تعالى في حرب الصحابة التعريف منهم لأحكام قتال أهل التأويل ، إذ كان أحكام قتال أهل الشرك قد عرفت على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله .
السابعة :
nindex.php?page=treesubj&link=9537إذا خرجت على الإمام العدل خارجة باغية ولا حجة لها ، قاتلهم الإمام بالمسلمين كافة أو من فيه كفاية ، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة ، فإن أبوا من الرجوع والصلح قوتلوا .
nindex.php?page=treesubj&link=9554_9553_9552_9555_9556ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم ، ولا تسبى ذراريهم ولا أموالهم .
nindex.php?page=treesubj&link=13666وإذا قتل العادل الباغي ، أو الباغي العادل وهو وليه [ ص: 290 ] لم يتوارثا . ولا يرث قاتل عمدا على حال . وقيل : إن العادل يرث الباغي ، قياسا على القصاص .
الثامنة :
nindex.php?page=treesubj&link=9597وما استهلكه البغاة والخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤاخذوا به . وقال
أبو حنيفة : يضمنون .
nindex.php?page=showalam&ids=13790وللشافعي قولان . وجه قول
أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان فيلزم الضمان . والمعول في ذلك عندنا أن الصحابة - رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذففوا على جريح ولا قتلوا أسيرا ولا ضمنوا نفسا ولا مالا ، وهم القدوة . وقال
ابن عمر : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500514يا عبد الله أتدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة ) ؟ قال : الله ورسوله أعلم . فقال : ( لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها ) . فأما ما كان قائما رد بعينه . هذا كله فيمن خرج بتأويل يسوغ له . وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في تفسيره : إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت بعد الفيئة ما جنت ، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن ، إلا عند
محمد بن الحسن رحمه الله فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت . وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها ، فما جنته ضمنته عند الجميع . فحمل الإصلاح بالعدل في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فأصلحوا بينهما بالعدل على مذهب
محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل . وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة الباغية قليلة العدد . والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات ليس بحسن الطباق المأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : فإن قلت : لم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأول ؟ قلت : لأن المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين أو راكبتي شبهة ، وأيتهما كانت فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما إصلاح ذات البين وتسكين الدهماء بإراءة الحق والمواعظ الشافية ونفي الشبهة ، إلا إذا أصرتا فحينئذ تجب المقاتلة ، وأما الضمان فلا يتجه . وليس كذلك إذا بغت إحداهما ، فإن الضمان متجه على الوجهين المذكورين .
التاسعة : ولو تغلبوا على بلد فأخذوا الصدقات وأقاموا الحدود وحكموا فيهم بالأحكام ، لم تثن عليهم الصدقات ولا الحدود ، ولا ينقض من أحكامهم إلا ما كان خلافا للكتاب أو السنة أو الإجماع ، كما تنقض أحكام أهل العدل والسنة ، قاله
مطرف nindex.php?page=showalam&ids=12873وابن الماجشون . وقال
ابن القاسم : لا تجوز بحال . وروي عن
أصبغ أنه جائز . وروي عنه أيضا أنه لا يجوز كقول
ابن القاسم . وبه قال
أبو حنيفة ; لأنه عمل بغير حق ممن لا تجوز توليته . فلم يجز كما لو لم يكونوا بغاة . والعمدة لنا ما قدمناه من أن الصحابة - رضي الله عنهم ، لما انجلت الفتنة وارتفع الخلاف
[ ص: 291 ] بالهدنة والصلح ، لم يعرضوا لأحد منهم في حكم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : الذي عندي أن ذلك لا يصلح ; لأن الفتنة لما انجلت كان الإمام هو الباغي ، ولم يكن هناك من يعترضه والله أعلم .
العاشرة :
nindex.php?page=treesubj&link=28814لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به ، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل ، وهم كلهم لنا أئمة ، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم ، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر ، لحرمة الصحبة ولنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبهم ، وأن الله غفر لهم ، وأخبر بالرضا عنهم . هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن
طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض ، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصيانا لم يكن بالقتل فيه شهيدا . وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيرا في الواجب عليه ; لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة ، فوجب حمل أمرهم على ما بيناه . ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار
علي بأن قاتل
الزبير في النار . وقوله : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=831212بشر قاتل ابن صفية بالنار ) . وإذا كان كذلك فقد ثبت أن
طلحة والزبير غير عاصيين ولا آثمين بالقتال ; لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - في
طلحة : ( شهيد ) . ولم يخبر أن قاتل
الزبير في النار . وكذلك من قعد غير مخطئ في التأويل . بل صواب أراه الله الاجتهاد . وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم ، والبراءة منهم وتفسيقهم ، وإبطال فضائلهم وجهادهم ، وعظيم غنائهم في الدين - رضي الله عنهم . وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=134تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون .
سئل بعضهم عنها أيضا فقال : تلك دماء طهر الله منها يدي ، فلا أخضب بها لساني . يعني في التحرز من الوقوع في خطأ ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13428ابن فورك : ومن أصحابنا من قال : إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة
يوسف مع
يوسف ، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة ، فكذلك الأمر فيما
[ ص: 292 ] جرى بين الصحابة . وقال
المحاسبي : فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم . وقد سئل
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري عن قتالهم فقال : قتال شهده أصحاب
محمد - صلى الله عليه وسلم - وغبنا ، وعلموا وجهلنا ، واجتمعوا فاتبعنا ، واختلفوا فوقفنا . قال
المحاسبي : فنحن نقول كما قال
الحسن ، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا ، ونتبع ما اجتمعوا عليه ، ونقف عند ما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيا منا ، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل ، إذ كانوا غير متهمين في الدين ، ونسأل الله التوفيق .
[ ص: 286 ] قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ .
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ :
الْأُولَى :
nindex.php?page=treesubj&link=29020قَوْلُهُ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا رَوَى
الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831209قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ؟ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَرَكِبَ حِمَارًا وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ ، وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ ، فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِلَيْكَ عَنِّي! فَوَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتَنُ حِمَارِكَ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ : وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ . فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ ، وَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ ، فَبَلَغَنَا أَنَّهُ أُنْزِلَ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَقَالَ
مُجَاهِدٌ : نَزَلَتْ فِي
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ . قَالَ
مُجَاهِدٌ : تَقَاتَلَ حَيَّانِ مِنَ
الْأَنْصَارِ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ . وَمِثْلُهُ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : أَنَّ
الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِتَالٌ بِالسَّعَفِ وَالنِّعَالِ وَنَحْوِهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهِمْ .
وَقَالَ
قَتَادَةُ : نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنَ
الْأَنْصَارِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُدَارَأَةٌ فِي حَقٍّ بَيْنَهُمَا! فَقَالَ أَحَدُهُمَا : لَآخُذَنَّ حَقِّي عَنْوَةً ، لِكَثْرَةِ عَشِيرَتِهِ . وَدَعَاهُ الْآخَرُ إِلَى أَنْ يُحَاكِمَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبَى أَنْ يَتْبَعَهُ ، فَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَوَاقَعَا وَتَنَاوَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَالسُّيُوفِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ : نَزَلَتْ فِي حَرْبِ
سُمَيْرٍ وَحَاطِبٍ ، وَكَانَ
سُمَيْرٌ قَتَلَ
حَاطِبًا ، فَاقْتَتَلَ
الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى أَتَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَنَزَلَتْ . وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُصْلِحُوا بَيْنَهُمَا . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيُّ : كَانَتِ امْرَأَةٌ مِنَ
الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا :
أُمُّ زَيْدٍ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ
الْأَنْصَارِ ، فَتَخَاصَمَتْ مَعَ زَوْجِهَا ، أَرَادَتْ أَنْ تَزُورَ قَوْمَهَا فَحَبَسَهَا زَوْجُهَا وَجَعَلَهَا فِي عِلِّيَّةٍ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ بَعَثَتْ إِلَى قَوْمِهَا ، فَجَاءَ قَوْمُهَا فَأَنْزَلُوهَا لِيَنْطَلِقُوا بِهَا ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَاسْتَغَاثَ أَهْلَهُ فَخَرَجَ بَنُو عَمِّهِ لِيَحُولُوا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأَهْلِهَا ، فَتَدَافَعُوا وَتَجَالَدُوا بِالنِّعَالِ ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ .
وَالطَّائِفَةُ تَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ وَالْجَمْعَ وَالِاثْنَيْنِ ، فَهُوَ مِمَّا حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ ; لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ فِي مَعْنَى الْقَوْمِ وَالنَّاسِ . وَفِي قِرَاءَةِ
عَبْدِ اللَّهِ ( حَتَّى يَفِيئُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءُوا فَخُذُوا بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) وَقَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=12356ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ ( اقْتَتَلَتَا ) عَلَى لَفْظِ الطَّائِفَتَيْنِ . وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ ( بَرَاءَةٌ ) الْقَوْلُ فِيهِ . وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=2وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ : الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ ،
[ ص: 287 ] وَالطَّائِفَةُ مِنَ الشَّيْءِ الْقِطْعَةُ مِنْهُ .
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالدُّعَاءِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لَهُمَا أَوْ عَلَيْهِمَا .
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى تَعَدَّتْ وَلَمْ تُجِبْ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ . وَالْبَغْيُ : التَّطَاوُلُ وَالْفَسَادُ .
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ أَيْ تَرْجِعَ إِلَى كِتَابِهِ . فَإِنْ فَاءَتْ أَيْ فَإِنْ رَجَعَتْ
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ أَيِ احْمِلُوهُمَا عَلَى الْإِنْصَافِ . وَأَقْسِطُوا أَيُّهَا النَّاسُ فَلَا تَقْتَتِلُوا . وَقِيلَ : أَقْسِطُوا أَيِ : اعْدِلُوا .
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أَيِ الْعَادِلِينَ الْمُحِقِّينَ .
الثَّانِيَةُ : قَالَ الْعُلَمَاءُ : لَا تَخْلُو الْفِئَتَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي اقْتِتَالِهِمَا ، إِمَّا أَنْ يَقْتَتِلَا عَلَى سَبِيلِ الْبَغْيِ مِنْهُمَا جَمِيعًا أَوْ لَا . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُمْشَى بَيْنَهُمَا بِمَا يُصْلِحُ ذَاتَ الْبَيْنِ وَيُثَمِّرُ الْمُكَافَّةَ وَالْمُوَادَعَةَ . فَإِنْ لَمْ يَتَحَاجَزَا وَلَمْ يَصْطَلِحَا وَأَقَامَتَا عَلَى الْبَغْيِ صِيرَ إِلَى مُقَاتَلَتِهِمَا . وَأَمَّا إِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا بَاغِيَةً عَلَى الْأُخْرَى ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُقَاتَلَ فِئَةُ الْبَغْيِ إِلَى أَنْ تَكُفَّ وَتَتُوبَ ، فَإِنْ فَعَلَتْ أُصْلِحَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَبْغِيِّ عَلَيْهَا بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ . فَإِنِ الْتَحَمَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمَا لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِمَا وَكِلْتَاهُمَا عِنْدَ أَنْفُسِهِمَا مُحِقَّةٌ ، فَالْوَاجِبُ إِزَالَةُ الشُّبْهَةِ بِالْحُجَّةِ النَّيِّرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ عَلَى مَرَاشِدِ الْحَقِّ . فَإِنْ رَكِبَتَا مَتْنَ اللَّجَاجِ وَلَمْ تَعْمَلَا عَلَى شَاكِلَةِ مَا هُدِيَتَا إِلَيْهِ وَنُصِحَتَا بِهِ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ بَعْدَ وُضُوحِهِ لَهُمَا فَقَدْ لَحِقَتَا بِالْفِئَتَيْنِ الْبَاغِيَتَيْنِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ
nindex.php?page=treesubj&link=9537قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ الْمَعْلُومُ بَغْيُهَا عَلَى الْإِمَامِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ مِنْ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=831210قِتَالُ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ ) . وَلَوْ كَانَ قِتَالُ الْمُؤْمِنِ الْبَاغِي كُفْرًا لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالْكُفْرِ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ! وَقَدْ قَاتَلَ
الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : مَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِسْلَامِ وَامْتَنَعَ مِنَ الزَّكَاةِ ، وَأَمَرَ أَلَّا يُتْبَعَ مُوَلٍّ ، وَلَا يُجْهَزَ عَلَى جَرِيحٍ ، وَلَمْ تُحَلَّ أَمْوَالُهُمْ ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ فِي الْكُفَّارِ . وَقَالَ
الطَّبَرِيُّ : لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ اخْتِلَافٍ يَكُونُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْهَرَبُ مِنْهُ وَلُزُومُ الْمَنَازِلِ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ وَلَا أُبْطِلَ بَاطِلٌ ، وَلَوَجَدَ أَهْلُ النِّفَاقِ وَالْفُجُورِ سَبِيلًا إِلَى اسْتِحْلَالِ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
[ ص: 288 ] مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ نِسَائِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ ، بِأَنْ يَتَحَزَّبُوا عَلَيْهِمْ ، وَيَكُفَّ الْمُسْلِمُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُمْ ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : (
خُذُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ ) .
الرَّابِعَةُ : قَالَ الْقَاضِي
nindex.php?page=showalam&ids=12815أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْعُمْدَةُ فِي حَرْبِ الْمُتَأَوِّلِينَ ، وَعَلَيْهَا عَوَّلَ الصَّحَابَةُ ، وَإِلَيْهَا لَجَأَ الْأَعْيَانُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ ، وَإِيَّاهَا عَنَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=831211تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ) .
nindex.php?page=hadith&LINKID=830256وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي شَأْنِ الْخَوَارِجِ : ( يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فُرْقَةٍ أَوْ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ ] ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : ( تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ ) . وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُمْ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ . فَتَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَثَبَتَ بِدَلِيلِ الدِّينِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31313عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إِمَامًا ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ بَاغٍ وَأَنَّ قِتَالَهُ وَاجِبٌ حَتَّى يَفِيءَ إِلَى الْحَقِّ وَيَنْقَادَ إِلَى الصُّلْحِ ; لِأَنَّ
عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُتِلَ وَالصَّحَابَةُ بُرَآءٌ مِنْ دَمِهِ ; لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ قِتَالِ مَنْ ثَارَ عَلَيْهِ وَقَالَ : لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمَّتِهِ بِالْقَتْلِ ، فَصَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ ، وَاسْتَسْلَمَ لِلْمِحْنَةِ وَفَدَى بِنَفْسِهِ الْأُمَّةَ . ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ النَّاسِ سُدًى ، فَعُرِضَتْ عَلَى بَاقِي الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ
عُمَرُ فِي الشُّورَى ، وَتَدَافَعُوهَا ، وَكَانَ
عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ، فَقِبَلَهَا حَوْطَةً عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُسْفَكَ دِمَاؤُهَا بِالتَّهَارُجِ وَالْبَاطِلِ ، أَوْ يَتَخَرَّقَ أَمْرُهَا إِلَى مَا لَا يَتَحَصَّلُ . فَرُبَّمَا تَغَيَّرَ الدِّينُ وَانْقَضَّ عَمُودُ الْإِسْلَامِ . فَلَمَّا بُويِعَ لَهُ طَلَبَ
أَهْلُ الشَّامِ فِي شَرْطِ الْبَيْعَةِ التَّمَكُّنَ مِنْ قَتَلَةِ
عُثْمَانَ وَأَخْذَ الْقَوَدِ مِنْهُمْ ، فَقَالَ لَهُمْ
عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : ادْخُلُوا فِي الْبَيْعَةِ وَاطْلُبُوا الْحَقَّ تَصِلُوا إِلَيْهِ . فَقَالُوا : لَا تَسْتَحِقُّ بَيْعَةً وَقَتَلَةُ
عُثْمَانَ مَعَكَ تَرَاهُمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً . فَكَانَ
عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ رَأْيًا وَأَصْوَبَ قِيلًا ; لِأَنَّ
عَلِيًّا لَوْ تَعَاطَى الْقَوَدَ مِنْهُمْ لَتَعَصَّبَتْ لَهُمْ قَبَائِلُ وَصَارَتْ حَرْبًا ثَالِثَةً ، فَانْتَظَرَ بِهِمْ أَنْ يَسْتَوْثِقَ الْأَمْرُ وَتَنْعَقِدَ الْبَيْعَةُ ، وَيَقَعَ الطَّلَبُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، فَيَجْرِيَ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=9131_33467يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ إِذَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِثَارَةِ الْفِتْنَةِ أَوْ تَشْتِيتِ الْكَلِمَةِ . وَكَذَلِكَ جَرَى
لِطَلْحَةِ وَالزُّبَيْرِ ، فَإِنَّهُمَا مَا خَلَعَا
عَلِيًّا مِنْ وِلَايَةٍ وَلَا اعْتَرَضَا عَلَيْهِ فِي دِيَانَةٍ ، وَإِنَّمَا رَأَيَا أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِقَتْلِ أَصْحَابِ
عُثْمَانَ أَوْلَى .
قُلْتُ : فَهَذَا قَوْلٌ فِي سَبَبِ الْحَرْبِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ . وَقَالَ جِلَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّ الْوَقْعَةَ
بِالْبَصْرَةِ بَيْنَهُمْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ عَزِيمَةٍ مِنْهُمْ عَلَى الْحَرْبِ بَلْ فَجْأَةً ، وَعَلَى سَبِيلِ دَفْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ
[ ص: 289 ] الْفَرِيقَيْنِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِظَنِّهِ أَنَّ الْفَرِيقَ الْآخَرَ قَدْ غَدَرَ بِهِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ كَانَ قَدِ انْتَظَمَ بَيْنَهُمْ ، وَتَمَّ الصُّلْحُ وَالتَّفَرُّقُ عَلَى الرِّضَا . فَخَافَ قَتَلَةُ
عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنَ التَّمْكِينِ مِنْهُمْ وَالْإِحَاطَةِ بِهِمْ ، فَاجْتَمَعُوا وَتَشَاوَرُوا وَاخْتَلَفُوا ، ثُمَّ اتَّفَقَتْ آرَاؤُهُمْ عَلَى أَنْ يَفْتَرِقُوا فَرِيقَيْنِ ، وَيَبْدَءُوا بِالْحَرْبِ سُحْرَةً فِي الْعَسْكَرَيْنِ ، وَتَخْتَلِفَ السِّهَامُ بَيْنَهُمْ ، وَيَصِيحُ الْفَرِيقُ الَّذِي فِي عَسْكَرِ
عَلِيٍّ : غَدَرَ
طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ . وَالْفَرِيقُ الَّذِي فِي عَسْكَرِ
طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ : غَدَرَ
عَلِيٌّ . فَتَمَّ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَا دَبَّرُوهُ ، وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ ، فَكَانَ كُلَّ فَرِيقٍ دَافِعًا لِمَكْرَتِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ ، وَمَانِعًا مِنَ الْإِشَاطَةِ بِدَمِهِ . وَهَذَا صَوَابٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَطَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، إِذْ وَقَعَ الْقِتَالُ وَالِامْتِنَاعُ مِنْهُمَا عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ أَمْرٌ بِالْقِتَالِ . وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ ، وَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=37كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ nindex.php?page=showalam&ids=12وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَصَوَّبَ ذَلِكَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَهُمْ ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعُذْرٍ قَبِلَهُ مِنْهُ . وَيُرْوَى أَنَّ
مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَفْضَى إِلَيْهِ الْأَمْرُ ، عَاتَبَ
سَعْدًا عَلَى مَا فَعَلَ ، وَقَالَ لَهُ : لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ أَصْلَحَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ حِينَ اقْتَتَلَا ، وَلَا مِمَّنْ قَاتَلَ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ . فَقَالَ لَهُ
سَعْدٌ : نَدِمْتُ عَلَى تَرْكِي قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْكُلِّ دَرَكٌ فِيمَا فَعَلَ ، وَإِنَّمَا كَانَ تَصَرُّفًا بِحُكْمِ الِاجْتِهَادِ وَإِعْمَالًا بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
السَّادِسَةُ : وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَمِنَ الْعَدْلِ فِي صُلْحِهِمْ أَلَّا يُطَالَبُوا بِمَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ ، فَإِنَّهُ تَلَفٌ عَلَى تَأْوِيلٍ . وَفِي طَلَبِهِمْ تَنْفِيرٌ لَهُمْ عَنِ الصُّلْحِ وَاسْتِشْرَاءٌ فِي الْبَغْيِ . وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْمَصْلَحَةِ . وَقَدْ قَالَ لِسَانُ الْأُمَّةِ : إِنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَرْبِ الصَّحَابَةِ التَّعْرِيفُ مِنْهُمْ لِأَحْكَامِ قِتَالِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ ، إِذْ كَانَ أَحْكَامُ قِتَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ قَدْ عُرِفَتْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ .
السَّابِعَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=9537إِذَا خَرَجَتْ عَلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ خَارِجَةٌ بَاغِيَةٌ وَلَا حُجَّةَ لَهَا ، قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ بِالْمُسْلِمِينَ كَافَّةً أَوْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ ، وَيَدْعُوهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَى الطَّاعَةِ وَالدُّخُولِ فِي الْجَمَاعَةِ ، فَإِنْ أَبَوْا مِنَ الرُّجُوعِ وَالصُّلْحِ قُوتِلُوا .
nindex.php?page=treesubj&link=9554_9553_9552_9555_9556وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ ، وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيهِمْ وَلَا أَمْوَالُهُمُ .
nindex.php?page=treesubj&link=13666وَإِذَا قَتَلَ الْعَادِلُ الْبَاغِيَ ، أَوِ الْبَاغِي الْعَادِلَ وَهُوَ وَلِيُّهُ [ ص: 290 ] لَمْ يَتَوَارَثَا . وَلَا يَرِثُ قَاتِلٌ عَمْدًا عَلَى حَالٍ . وَقِيلَ : إِنَّ الْعَادِلَ يَرِثُ الْبَاغِي ، قِيَاسًا عَلَى الْقِصَاصِ .
الثَّامِنَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=9597وَمَا اسْتَهْلَكَهُ الْبُغَاةُ وَالْخَوَارِجُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ تَابُوا لَمْ يُؤَاخَذُوا بِهِ . وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : يَضْمَنُونَ .
nindex.php?page=showalam&ids=13790وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ . وَجْهُ قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِتْلَافٌ بِعُدْوَانٍ فَيَلْزَمُ الضَّمَانُ . وَالْمُعَوِّلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي حُرُوبِهِمْ لَمْ يَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا ذَفَّفُوا عَلَى جَرِيحٍ وَلَا قَتَلُوا أَسِيرًا وَلَا ضَمِنُوا نَفْسًا وَلَا مَالًا ، وَهُمُ الْقُدْوَةُ . وَقَالَ
ابْنُ عُمَرَ : قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500514يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَدْرِي كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ) ؟ قَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَقَالَ : ( لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا وَلَا يُقْسَمُ فَيْؤُهَا ) . فَأَمَّا مَا كَانَ قَائِمًا رُدَّ بِعَيْنِهِ . هَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ خَرَجَ بِتَأْوِيلٍ يُسَوِّغُ لَهُ . وَذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ : إِنْ كَانَتِ الْبَاغِيَةُ مِنْ قِلَّةَ الْعَدَدِ بِحَيْثُ لَا مَنَعَةَ لَهَا ضَمِنَتْ بَعْدَ الْفَيْئَةِ مَا جَنَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً ذَاتَ مَنَعَةٍ وَشَوْكَةٍ لَمْ تَضْمَنْ ، إِلَّا عِنْدَ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِأَنَّ الضَّمَانَ يَلْزَمُهَا إِذَا فَاءَتْ . وَأَمَّا قَبْلَ التَّجَمُّعِ وَالتَّجَنُّدِ أَوْ حِينَ تَتَفَرَّقُ عِنْدَ وَضْعِ الْحَرْبِ أَوْزَارِهَا ، فَمَا جَنَتْهُ ضَمِنَتْهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ . فَحَمْلُ الْإِصْلَاحِ بِالْعَدْلِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ عَلَى مَذْهَبِ
مُحَمَّدٍ وَاضِحٌ مُنْطَبِقٌ عَلَى لَفْظِ التَّنْزِيلِ . وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ وَجْهُهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كَوْنِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ قَلِيلَةَ الْعَدَدِ . وَالَّذِي ذَكَرُوا أَنَّ الْغَرَضَ إِمَاتَةُ الضَّغَائِنِ وَسَلُّ الْأَحْقَادِ دُونَ ضَمَانِ الْجِنَايَاتِ لَيْسَ بِحُسْنِ الطِّبَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْعَدْلِ وَمُرَاعَاةِ الْقِسْطِ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : فَإِنْ قُلْتَ : لِمَ قَرَنَ بِالْإِصْلَاحِ الثَّانِي الْعَدْلَ دُونَ الْأَوَّلِ ؟ قُلْتُ : لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاقْتِتَالِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنْ يَقْتَتِلَا بَاغِيَتَيْنِ أَوْ رَاكِبَتَيْ شُبْهَةٍ ، وَأَيَّتُهُمَا كَانَتْ فَالَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ فِي شَأْنِهِمَا إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَتَسْكِينُ الدَّهْمَاءِ بِإِرَاءَةِ الْحَقِّ وَالْمَوَاعِظِ الشَّافِيَةِ وَنَفْيِ الشُّبْهَةِ ، إِلَّا إِذَا أَصَرَّتَا فَحِينَئِذٍ تَجِبُ الْمُقَاتَلَةُ ، وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلَا يَتَّجِهُ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا بَغَتْ إِحْدَاهُمَا ، فَإِنَّ الضَّمَانَ مُتَّجِهٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ .
التَّاسِعَةُ : وَلَوْ تَغَلَّبُوا عَلَى بَلَدٍ فَأَخَذُوا الصَّدَقَاتِ وَأَقَامُوا الْحُدُودَ وَحَكَمُوا فِيهِمْ بِالْأَحْكَامِ ، لَمْ تُثَنَّ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَاتُ وَلَا الْحُدُودُ ، وَلَا يُنْقَضُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ إِلَّا مَا كَانَ خِلَافًا لِلْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ ، كَمَا تُنْقَضُ أَحْكَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالسُّنَّةِ ، قَالَهُ
مُطَّرِفٌ nindex.php?page=showalam&ids=12873وَابْنُ الْمَاجِشُونِ . وَقَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا تَجُوزُ بِحَالٍ . وَرُوِيَ عَنْ
أَصْبَغَ أَنَّهُ جَائِزٌ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ
ابْنِ الْقَاسِمِ . وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ تَوْلِيَتُهُ . فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُونُوا بُغَاةً . وَالْعُمْدَةُ لَنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، لَمَّا انْجَلَتِ الْفِتْنَةُ وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ
[ ص: 291 ] بِالْهُدْنَةِ وَالصُّلْحِ ، لَمْ يَعْرِضُوا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابْنُ الْعَرَبِيِّ : الَّذِي عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ ; لِأَنَّ الْفِتْنَةَ لَمَّا انْجَلَتْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْبَاغِي ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَعْتَرِضُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْعَاشِرَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=28814لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خَطَأٌ مَقْطُوعٌ بِهِ ، إِذْ كَانُوا كُلَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِيمَا فَعَلُوهُ وَأَرَادُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهُمْ كُلُّهُمْ لَنَا أَئِمَّةٌ ، وَقَدْ تَعَبَّدْنَا بِالْكَفِّ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، وَأَلَّا نَذْكُرَهُمْ إِلَّا بِأَحْسَنَ الذِّكْرِ ، لِحُرْمَةِ الصُّحْبَةِ وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبِّهِمْ ، وَأَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُمْ ، وَأَخْبَرَ بِالرِّضَا عَنْهُمْ . هَذَا مَعَ مَا قَدْ وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ
طَلْحَةَ شَهِيدٌ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، فَلَوْ كَانَ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَرْبِ عِصْيَانًا لَمْ يَكُنْ بِالْقَتْلِ فِيهِ شَهِيدًا . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ خَطَأً فِي التَّأْوِيلِ وَتَقْصِيرًا فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِقَتْلٍ فِي طَاعَةٍ ، فَوَجَبَ حَمْلُ أَمْرِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدْ صَحَّ وَانْتَشَرَ مِنْ أَخْبَارِ
عَلِيٍّ بِأَنَّ قَاتِلَ
الزُّبَيْرِ فِي النَّارِ . وَقَوْلُهُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=831212بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ ) . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ
طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ غَيْرُ عَاصِيَيْنِ وَلَا آثِمَيْنِ بِالْقِتَالِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
طَلْحَةَ : ( شَهِيدٌ ) . وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّ قَاتِلَ
الزُّبَيْرِ فِي النَّارِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَعَدَ غَيْرَ مُخْطِئٍ فِي التَّأْوِيلِ . بَلْ صَوَابٌ أَرَاهُ اللَّهُ الِاجْتِهَادَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَعْنَهُمْ ، وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَتَفْسِيقَهُمْ ، وَإِبْطَالَ فَضَائِلِهِمْ وَجِهَادَهُمْ ، وَعَظِيمَ غِنَائِهِمْ فِي الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُهُمِ عَنِ الدِّمَاءِ الَّتِي أُرِيقَتْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=134تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
سُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْهَا أَيْضًا فَقَالَ : تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ مِنْهَا يَدِي ، فَلَا أُخَضِّبُ بِهَا لِسَانِي . يَعْنِي فِي التَّحَرُّزِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي خَطَأٍ ، وَالْحُكْمِ عَلَى بَعْضِهِمْ بِمَا لَا يَكُونُ مُصِيبًا فِيهِ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13428ابْنُ فَوْرِكٍ : وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إِنَّ سَبِيلَ مَا جَرَتْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُنَازَعَاتِ كَسَبِيلِ مَا جَرَى بَيْنَ إِخْوَةِ
يُوسُفَ مَعَ
يُوسُفَ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا بِذَلِكَ عَنْ حَدِّ الْوَلَايَةِ وَالنُّبُوَّةِ ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِيمَا
[ ص: 292 ] جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ . وَقَالَ
الْمُحَاسِبِيُّ : فَأَمَّا الدِّمَاءُ فَقَدْ أَشْكَلَ عَلَيْنَا الْقَوْلُ فِيهَا بِاخْتِلَافِهِمْ . وَقَدْ سُئِلَ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ قِتَالِهِمْ فَقَالَ : قِتَالٌ شَهِدَهُ أَصْحَابُ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغِبْنَا ، وَعَلِمُوا وَجَهِلْنَا ، وَاجْتَمَعُوا فَاتَّبَعْنَا ، وَاخْتَلَفُوا فَوَقَفْنَا . قَالَ
الْمُحَاسِبِيُّ : فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ
الْحَسَنُ ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَا دَخَلُوا فِيهِ مِنَّا ، وَنَتَّبِعُ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ ، وَنَقِفُ عِنْدَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلَا نَبْتَدِعُ رَأْيًا مِنَّا ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا وَأَرَادُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ، إِذْ كَانُوا غَيْرَ مُتَّهَمِينَ فِي الدِّينِ ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ .