الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        599 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت عمرو بن عامر الأنصاري عن أنس بن مالك قال كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء قال عثمان بن جبلة وأبو داود عن شعبة لم يكن بينهما إلا قليل

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله في حديث أنس ( كان المؤذن إذا أذن ) في رواية الإسماعيلي " إذا أخذ المؤذن في أذان المغرب " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قام ناس ) في رواية النسائي " قام كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وكذا تقدم للمؤلف في أبواب ستر العورة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يبتدرون ) أي يستبقون .

                                                                                                                                                                                                        و ( السواري ) جمع سارية ، وكأن غرضهم بالاستباق إليها الاستتار بها ممن يمر بين أيديهم لكونهم يصلون فرادى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وهم كذلك ) أي في تلك الحال . وزاد مسلم من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس : " فيجيء الغريب فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولم يكن بينهما ) أي الأذان والإقامة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( شيء ) التنوين فيه للتعظيم ، أي لم يكن بينهما شيء كثير ، وبهذا يندفع قول من زعم أن الرواية المعلقة معارضة للرواية الموصولة ، بل هي مبينة لها ، ونفي الكثير يقتضي إثبات القليل ، وقد أخرجها الإسماعيلي موصولة من طريق عثمان بن عمر عن شعبة بلفظ " وكان بين الأذان والإقامة قريب " ولمحمد بن نصر من طريق أبي عامر عن شعبة نحوه ، وقال ابن المنير : يجمع بين الروايتين بحمل النفي المطلق على المبالغة مجازا ، والإثبات للقليل على الحقيقة . وحمل بعض العلماء حديث الباب على ظاهره فقال : دل قوله " ولم يكن بينهما شيء " على أن عموم قوله " بين كل أذانين صلاة " مخصوص بغير المغرب ، فإنهم لم يكونوا يصلون [ ص: 128 ] بينهما بل كانوا يشرعون في الصلاة في أثناء الأذان ويفرغون مع فراغه . قال : ويؤيد ذلك ما رواه البزار من طريق حيان بن عبيد الله عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مثل الحديث الأول ، وزاد في آخره " إلا المغرب " اهـ . وفي قوله " ويفرغون مع فراغه " نظر لأنه ليس في الحديث ما يقتضيه ، ولا يلزم من شروعهم في أثناء الأذان ذلك ، وأما رواية حيان وهو بفتح المهملة والتحتانية فشاذة لأنه وإن كان صدوقا عند البزار وغيره لكنه خالف الحفاظ من أصحاب عبد الله بن بريدة في إسناد الحديث ومتنه ، وقد وقع في بعض طرقه عند الإسماعيلي : وكان بريدة يصلي ركعتين قبل صلاة المغرب فلو كان الاستثناء محفوظا لم يخالف بريدة روايته . وقد نقل ابن الجوزي في الموضوعات عن الفلاس أنه كذب حيان المذكور ، وقال القرطبي وغيره : ظاهر حديث أنس أن الركعتين بعد المغرب وقبل صلاة المغرب كان أمرا أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عليه وعملوا به حتى كانوا يستبقون إليه ، وهذا يدل على الاستحباب ، وكأن أصله قوله - صلى الله عليه وسلم - : بين كل أذانين صلاة . وأما كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلهما فلا ينفي الاستحباب ، بل يدل على أنهما ليستا من الرواتب .

                                                                                                                                                                                                        وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث ، وروي عن ابن عمر قال : ما رأيت أحدا يصليهما على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن الخلفاء الأربعة وجماعة من الصحابة أنهم كانوا لا يصلونهما . وهو قول مالك والشافعي ، وادعى بعض المالكية نسخهما فقال : إنما كان ذلك في أول الأمر حيث نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، فبين لهم بذلك وقت الجواز ، ثم ندب إلى المبادرة إلى المغرب في أول وقتها ، فلو استمرت المواظبة على الاشتغال بغيرها لكان ذلك ذريعة إلى مخالفة إدراك أول وقتها . وتعقب بأن دعوى النسخ لا دليل عليها ، والمنقول عن ابن عمر رواه أبو داود من طريق طاوس عنه ، ورواية أنس المثبتة مقدمة على نفيه ، والمنقول عن الخلفاء الأربعة رواه محمد بن نصر وغيره من طريق إبراهيم النخعي عنهم ، وهو منقطع ، ولو ثبت لم يكن فيه دليل على النسخ ولا الكراهة . وسيأتي في أبواب التطوع أن عقبة بن عامر سئل عن الركعتين قبل المغرب فقال : كنا نفعلهما على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قيل له : فما يمنعك الآن ؟ قال : الشغل . فلعل غيره أيضا منعه الشغل . وقد روى محمد بن نصر وغيره من طرق قوية عن عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وأبي الدرداء وأبي موسى وغيرهم أنهم كانوا يواظبون عليهما . وأما قول أبي بكر بن العربي : اختلف فيها الصحابة ولم يفعلها أحد بعدهم ، فمردود بقول محمد بن نصر ، وقد روينا عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون الركعتين قبل المغرب ، ثم أخرج ذلك بأسانيد متعددة عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى وعبد الله بن بريدة ويحيى بن عقيل والأعرج وعامر بن عبد الله بن الزبير وعراك بن مالك ، ومن طريق الحسن البصري أنه سأل عنهما فقال : حسنتين والله لمن أراد الله بهما . وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول : حق على كل مؤمن إذا أذن المؤذن أن يركع ركعتين . وعن مالك قول آخر باستحبابهما . وعند الشافعية وجه رجحه النووي ومن تبعه ، وقال في شرح مسلم : قول من قال إن فعلهما يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها خيال فاسد منابذ للسنة ، ومع ذلك فزمنهما زمن يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ومجموع الأدلة يرشد إلى استحباب تخفيفهما كما في ركعتي الفجر ، قيل والحكمة في الندب إليهما رجاء إجابة الدعاء ، لأن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد ، وكلما كان الوقت أشرف كان ثواب العبادة فيه أكثر ، واستدل بحديث أنس على امتداد وقت المغرب ، وليس ذلك بواضح .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 129 ] ( تنبيهان ) : ( أحدهما ) مطابقة حديث أنس للترجمة من جهة الإشارة إلى أن الصحابة إذا كانوا يبتدرون إلى الركعتين قبل صلاة المغرب مع قصر وقتها فالمبادرة إلى التنفل قبل غيرها من الصلوات تقع من باب الأولى ، ولا يتقيد بركعتين إلا ما ضاهى المغرب في قصر الوقت كالصبح .

                                                                                                                                                                                                        ( الثاني ) : لم تتصل لنا رواية عثمان بن جبلة - وهو بفتح الجيم والموحدة - إلى الآن . وزعم مغلطاي ومن تبعه أن الإسماعيلي وصلها في مستخرجه ، وليس كذلك ، فإن الإسماعيلي إنما أخرجه من طريق عثمان بن عمر ، وكذلك لم تتصل لنا رواية أبي داود وهو الطيالسي فيما يظهر لي ، وقيل هو الحفري بفتح المهملة والفاء . وقد وقع لنا مقصود روايتهما من طريق عثمان بن عمر وأبي عامر ولله الحمد .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية