الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1341 حدثنا علي بن أبي هاشم سمع هشيما أخبرنا حصين عن زيد بن وهب قال مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه فقلت له ما أنزلك منزلك هذا قال كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله قال معاوية نزلت في أهل الكتاب فقلت نزلت فينا وفيهم فكان بيني وبينه في ذاك وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني فكتب إلي عثمان أن اقدم المدينة فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذاك لعثمان فقال لي إن شئت تنحيت فكنت قريبا فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا علي سمع هشيما ) كذا للأكثر ، وفي رواية أبي ذر عن مشايخه : " حدثنا علي بن أبي هاشم " وهو المعروف بابن طبراخ بكسر المهملة وسكون الموحدة وآخره معجمة ، ووقع في " أطراف المزي " عن علي بن عبد الله المديني ، وهو خطأ .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن زيد بن وهب ) هو التابعي الكبير الكوفي أحد المخضرمين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بالربذة ) بفتح الراء والموحدة والمعجمة مكان معروف بين مكة والمدينة ، نزل به أبو ذر في عهد عثمان ومات به ، وقد ذكر في هذا الحديث سبب نزوله ، وإنما سأله زيد بن وهب عن ذلك ، لأن مبغضي عثمان كانوا يشنعون عليه أنه نفى أبا ذر ، وقد بين أبو ذر أن نزوله في ذلك المكان كان باختياره . نعم أمره عثمان بالتنحي عن المدينة لدفع المفسدة التي خافها على غيره من مذهبه المذكور ، فاختار الربذة ، وقد كان يغدو إليها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما رواه أصحاب السنن من وجه آخر عنه ، وفيه قصة له في التيمم . وروينا في فوائد أبي الحسن بن جذلم بإسناده إلى عبد الله بن الصامت ، قال : " دخلت مع أبي ذر على عثمان ، فحسر عن رأسه ، فقال : والله ما أنا منهم يعني الخوارج . فقال . إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة . فقال : لا حاجة لي في ذلك ، ائذن لي بالربذة . قال : نعم . ورواه أبو داود الطيالسي من هذا الوجه دون آخره ، وقال بعد قوله ما أنا منهم : ولا أدركهم ، سيماهم التحليق ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، والله لو أمرتني أن أقوم ما قعدت . وفي " طبقات ابن سعد " من وجه آخر : أن ناسا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة : إن هذا الرجل فعل بك وفعل ، هل أنت ناصب لنا راية - يعني فنقاتله - فقال : لا ، لو أن عثمان سيرني من المشرق إلى المغرب لسمعت وأطعت .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كنت بالشام ) يعني بدمشق ، ومعاوية إذ ذاك عامل عثمان عليها . وقد بين السبب في سكناه الشام ما أخرجه أبو يعلى من طريق أخرى ، عن زيد بن وهب ، حدثني أبو ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا بلغ البناء - أي بالمدينة - سلعا فارتحل إلى الشام ، فلما بلغ البناء سلعا قدمت الشام فسكنت بها . فذكر الحديث نحوه . وعنده أيضا بإسناد فيه ضعف عن ابن عباس قال استأذن أبو ذر على عثمان فقال : إنه يؤذينا ، فلما دخل قال له عثمان : أنت الذي تزعم أنك خير من أبي بكر ، وعمر ؟ قال . لا ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أحبكم إلي وأقربكم مني من بقي على العهد الذي عاهدته عليه ، وأنا باق على عهده . قال فأمر أن يلحق بالشام . وكان يحدثهم ويقول : لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله ، أو يعده لغريم ، فكتب معاوية إلى عثمان : إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر . فكتب إليه عثمان أن اقدم علي ، فقدم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( في : والذين يكنزون الذهب والفضة ) سيأتي في تفسير : ( براءة ) من طريق جرير ، عن حصين بلفظ : فقرأت : والذين يكنزون الذهب والفضة إلى آخر الآية .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 323 ] قوله : ( نزلت في أهل الكتاب ) في رواية جرير " ما هذه فينا "

                                                                                                                                                                                                        . قوله : ( فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني ) في رواية الطبري . أنهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام ، قال : فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إن شئت تنحيت ) في رواية الطبري : " فقال له : تنح قريبا . وقال : والله لن أدع ما كنت أقوله " . وكذا لابن مردويه من طريق ورقاء ، عن حصين بلفظ " والله لا أدع ما قلت " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حبشيا ) في رواية ورقاء " عبدا حبشيا " ولأحمد ، وأبي يعلى من طريق أبي حرب بن أبي الأسود ، عن عمه ، عن أبي ذر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : كيف تصنع إذا أخرجت منه ؟ أي المسجد النبوي ، قال : آتي الشام . قال : كيف تصنع إذا أخرجت منها ؟ قال . أعود إليه . أي المسجد . قال : كيف تصنع إذا أخرجت منه ؟ قال : أضرب بسيفي . قال : أدلك [1] على ما هو خير لك من ذلك وأقرب رشدا ، قال : تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك . وعند أحمد أيضا من طريق شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد ، عن أبي ذر نحوه ، والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ، ولا ينفقونه في وجهه . وتعقبه النووي بالإبطال ، لأن السلاطين حينئذ كانوا مثل أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وهؤلاء لم يخونوا . قلت : لقوله محمل . وهو أنه أراد من يفعل ذلك ، وإن لم يوجد حينئذ من يفعله .

                                                                                                                                                                                                        وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم : أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لاتفاق أبي ذر ، ومعاوية على أن الآية نزلت في أهل الكتاب . وفيه ملاطفة الأئمة للعلماء ، فإن معاوية لم يجسر على الإنكار عليه حتى كاتب من هو أعلى منه في أمره ، وعثمان لم يحنق على أبي ذر مع كونه كان مخالفا له في تأويله . وفيه التحذير من الشقاق والخروج على الأئمة ، والترغيب في الطاعة لأولي الأمر ، وأمر الأفضل بطاعة المفضول خشية المفسدة ، وجواز الاختلاف في الاجتهاد ، والأخذ بالشدة في الأمر بالمعروف وإن أدى ذلك إلى فراق الوطن ، وتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة لأن في بقاء أبي ذر بالمدينة مصلحة كبيرة من بث علمه في طالب العلم ، ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقع من المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذه المسألة ، ولم يأمره بعد ذلك بالرجوع عنه ، لأن كلا منهما كان مجتهدا .

                                                                                                                                                                                                        الحديث الثالث :



                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية