الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1586 حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة عن كريب مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعب الأيسر الذي دون المزدلفة أناخ فبال ثم جاء فصببت عليه الوضوء فتوضأ وضوءا خفيفا فقلت الصلاة يا رسول الله قال الصلاة أمامك فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المزدلفة فصلى ثم ردف الفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع قال كريب فأخبرني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن الفضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن محمد بن أبي حرملة ) هو المدني مولى آل حويطب ولا يعرف اسم أبيه وكان خصيف [ ص: 608 ] يروي عنه فيقول " حدثني محمد بن حويطب " فذكر ابن حبان أن خصيفا كان ينسبه إلى جد مواليه والإسناد من شيخ قتيبة إلخ كلهم مدنيون .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ) بكسر الدال أي ركبت وراءه ، وفيه الركوب حال الدفع من عرفة والارتداف على الدابة ومحله إذا كانت مطيقة ، وارتداف أهل الفضل ويعد ذلك من إكرامهم للرديف لا من سوء أدبه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فصببت عليه الوضوء ) بفتح الواو أي الماء الذي يتوضأ به ويؤخذ منه الاستعانة في الوضوء وللفقهاء فيها تفصيل لأنها إما أن تكون في إحضار الماء مثلا أو في صبه على المتوضئ أو مباشرة غسل أعضائه ، فالأول جائز والثالث مكروه إلا إن كان لعذر ، واختلف في الثاني والأصح أنه لا يكره بل هو خلاف الأولى فأما وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فهو إما لبيان الجواز وهو حينئذ أفضل في حقه أو للضرورة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وضوءا خفيفا ) أي خففه بأن توضأ مرة مرة وخفف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عادته وهو معنى قوله في رواية مالك الآتية بعد باب بلفظ : " فلم يسبغ الوضوء " وأغرب ابن عبد البر فقال : معنى قوله " فلم يسبغ الوضوء " أي استنجى به وأطلق عليه اسم الوضوء اللغوي لأنه من الوضاءة وهي النظافة ومعنى الإسباغ الإكمال أي لم يكمل وضوءه فيتوضأ للصلاة قال : وقد قيل إنه توضأ وضوءا خفيفا ، ولكن الأصول تدفع هذا لأنه لا يشرع الوضوء لصلاة واحدة مرتين وليس ذلك في رواية مالك . ثم قال : وقد قيل إن معنى قوله " لم يسبغ الوضوء " أي لم يتوضأ في جميع أعضاء الوضوء بل اقتصر على بعضها واستضعفه ا ه . وحكى ابن بطال أن عيسى بن دينار من قدماء أصحابهم سبق ابن عبد البر إلى ما اختاره أولا وهو متعقب بهذه الرواية الصريحة وقد تابع محمد بن أبي حرملة عليها محمد بن عقبة أخو موسى أخرجه مسلم بمثل لفظه وتابعهما إبراهيم بن عقبة أخو موسى أيضا أخرجه مسلم أيضا بلفظ : " فتوضأ وضوءا ليس بالبالغ " وقد تقدم في الطهارة من طريق يزيد بن هارون ، عن يحيى بن سعيد ، عن موسى بن عقبة بلفظ : " فجعلت أصب عليه ويتوضأ " ولم تكن عادته صلى الله عليه وسلم أن يباشر ذلك أحد منه حال الاستنجاء ، ويوضحه ما أخرجه مسلم أيضا من طريق عطاء مولى ابن سباع ، عن أسامة في هذه القصة قال فيها أيضا " ذهب إلى الغائط فلما رجع صببت عليه من الإداوة " قال القرطبي : اختلف الشراح في قوله " ولم يسبغ الوضوء " هل المراد به اقتصر به على بعض الأعضاء فيكون وضوءا لغويا أو اقتصر على بعض العدد فيكون وضوءا شرعيا ؟ قال : وكلاهما محتمل ، لكن يعضد من قال بالثاني قوله في الرواية الأخرى " وضوءا خفيفا " لأنه لا يقال في الناقص خفيف ومن موضحات ذلك أيضا قول أسامة له " الصلاة " فإنه يدل على أنه رآه يتوضأ وضوءه للصلاة ولذلك قال له أتصلي ؟ كذا قال ابن بطال وفيه نظر لأنه لا مانع أن يقول له ذلك لاحتمال أن يكون مراده أتريد الصلاة فلم لم تتوضأ وضوءها ؟ وجوابه بأن الصلاة أمامك معناه أن المغرب لا تصلى هنا فلا تحتاج إلى وضوء الصلاة وكأن أسامة ظن أنه صلى الله عليه وسلم نسي صلاة المغرب ورأى وقتها قد كاد أن يخرج أو خرج فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أنها في تلك الليلة يشرع تأخيرها لتجمع مع العشاء بالمزدلفة ولم يكن أسامة يعرف تلك السنة قبل [ ص: 609 ] ذلك وأما اعتلال ابن عبد البر بأن الوضوء لا يشرع مرتين لصلاة واحدة فليس بلازم لاحتمال أنه توضأ ثانيا عن حدث طارئ وليس الشرط بأنه لا يشرع تجديد الوضوء إلا لمن أدى به صلاة فرضا أو نفلا متفقا عليه بل ذهب جماعة إلى جوازه وإن كان الأصح خلافه وإنما توضأ أولا ليستديم الطهارة ولا سيما في تلك الحالة لكثرة الاحتياج إلى ذكر الله حينئذ وخفف الوضوء لقلة الماء حينئذ وقد تقدم شيء من هذا في أوائل الطهارة . وقال الخطابي : إنما ترك إسباغه حين نزل الشعب ليكون مستصحبا للطهارة في طريقه وتجوز فيه لأنه لم يرد أن يصلي به فلما نزل وأرادها أسبغه . وقولأسامة " الصلاة " بالنصب على إضمار الفعل أي تذكر الصلاة أو صل ، ويجوز الرفع على تقدير حضرت الصلاة مثلا . وقوله ( الصلاة أمامك ) بالرفع وأمامك بفتح الهمزة بالنصب على الظرفية أي الصلاة ستصلى بين يديك أو أطلق الصلاة على مكانها أي المصلى بين يديك أو معنى أمامك لا تفوتك وستدركها ، وفيه تذكير التابع بما تركه متبوعه ليفعله أو يعتذر عنه أو يبين له وجه صوابه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حتى أتى المزدلفة فصلى ) أي لم يبدأ بشيء قبل الصلاة ، ووقع في رواية إبراهيم بن عقبة عند مسلم " ثم سار حتى بلغ جمعا فصلى المغرب والعشاء " وقد بينه في رواية مالك بعد باب بلفظ : " حتى جاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يصل بينهما " وبين مسلم من وجه آخر عن إبراهيم بن عقبة ، عن كريب أنهم لم يزيدوا بين الصلاتين على الإناخة ولفظه : " فأقام المغرب ثم أناخ الناس ولم يحلوا حتى أقام العشاء فصلوا ثم حلوا " وكأنهم صنعوا ذلك رفقا بالدواب أو للأمن من تشويشهم بها وفيه إشعار بأنه خفف القراءة في الصلاتين ، وفيه أنه لا بأس بالعمل اليسير بين الصلاتين اللتين يجمع بينهما ولا يقطع ذلك الجمع وسيأتي البحث في ذلك بعد ثلاثة أبواب . وقوله في رواية مالك " ولم يصل بينهما " أي لم يتنفل ، وسيأتي حديث ابن عمر في ذلك بعد بابين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم ردف الفضل ) أي ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب ووقع في رواية إبراهيم بن عقبة عند مسلم " قال كريب فقلت لأسامة : كيف فعلتم حين أصبحتم ؟ قال ردفه الفضل بن العباس وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي " يعني إلى منى . وسيأتي الكلام على التلبية بعد سبعة أبواب واستدل بالحديث على جمع التأخير وهو إجماع بمزدلفة لكنه عند الشافعية وطائفة بسبب السفر وعند الحنفية والمالكية بسبب النسك وأغرب الخطابي فقال : فيه دليل على أنه لا يجوز أن يصلي الحاج المغرب إذا أفاض من عرفة حتى يبلغ المزدلفة ولو أجزأته في غيرها لما أخرها النبي صلى الله عليه وسلم عن وقتها المؤقت لها في سائر الأيام .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية