الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1643 حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس عن معاوية رضي الله عنهم قال قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن الحسن بن مسلم ) في رواية يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج " حدثني الحسن بن مسلم " أخرجه مسلم ، والإسناد سوى أبي عاصم مكيون ، وفيه رواية صحابي عن صحابي .

                                                                                                                                                                                                        ومعاوية هو ابن أبي سفيان الخليفة المشهور .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن معاوية ) في رواية مسلم " أن معاوية بن أبي سفيان أخبره " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قصرت ) أي أخذت من شعر رأسه ، وهو يشعر بأن ذلك كان في نسك ، إما في حج أو عمرة ، وقد ثبت أنه حلق في حجته فتعين أن يكون في عمرة ، ولا سيما وقد روى مسلم في هذا الحديث أن ذلك كان بالمروة ولفظه : قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة . أو : رأيته يقصر عنه بمشقص وهو على المروة . وهذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة ، لكن وقع عند مسلم من طريق أخرى عن طاوس بلفظ : أما علمت أني قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة ؟ فقلت له لا أعلم هذه إلا حجة عليك " وبين المراد من ذلك في رواية النسائي فقال بدل قوله : " فقلت له لا إلخ " يقول ابن عباس " وهذه على معاوية أن ينهى الناس عن المتعة وقد تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولأحمد من وجه آخر عن طاوس ، عن ابن عباس قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه [ ص: 661 ] وسلم حتى مات . الحديث وقال " وأول من نهى عنها معاوية . قال ابن عباس : فعجبت منه ، وقد حدثني أنه قصر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص " . انتهى . وهذا يدل على أن ابن عباس حمل ذلك على وقوعه في حجة الوداع لقوله لمعاوية " إن هذه حجة عليك " إذ لو كان في العمرة لما كان فيه على معاوية حجة . وأصرح منه ما وقع عند أحمد من طريق قيس بن سعد ، عن عطاء " أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام العشر بمشقص معي وهو محرم : وفي كونه في حجة الوداع نظر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله فكيف يقصر عنه على المروة . وقد بالغ النووي هنا في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع فقال : هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنا وثبت أنه حلق بمنى وفرق أبو طلحة شعره بين الناس ، فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع ، ولا يصح حمله أيضا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان ، هذا هو الصحيح المشهور ، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا لأن هذا غلط فاحش ، فقد تظاهرت الأحاديث في مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له " ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر . قلت : ولم يذكر الشيخ هنا ما مر في عمرة القضية ، والذي رجحه من كون معاوية إنما أسلم يوم الفتح صحيح من حيث السند ، لكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية وكان يكتم إسلامه ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح . وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق من ترجمة معاوية تصريح معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضية وأنه كان يخفي إسلامه خوفا من أبويه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل في عمرة القضية مكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظرونه وأصحابه يطوفون بالبيت ، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة لسبب اقتضاه ، ولا يعارضه أيضا قول سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه مسلم وغيره " فعلناها - يعني العمرة - في أشهر الحج وهذا يومئذ كافر بالعرش " بضمتين يعني بيوت مكة ، يشير إلى معاوية لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله ولم يطلع على إسلامه لكونه كان يخفيه . ويعكر على ما جوزه أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة ولم يستصحب أحدا معه إلا بعض أصحابه المهاجرين ، فقدم مكة فطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة فأصبح بها كبائت ، فخفيت عمرته على كثير من الناس . كذا أخرجه الترمذي وغيره ، ولم يعد معاوية فيمن صحبه حينئذ ، ولا كان معاوية فيمن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين حتى يقال لعله وجده بمكة ، بل كان مع القوم وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة مع جملة المؤلفة ، وأخرج الحاكم في : " الإكليل " في آخر قصة غزوة حنين أن الذي حلق رأسه صلى الله عليه وسلم في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة ، فإن ثبت هذا وثبت أن معاوية كان حينئذ معه أو كان بمكة فقصر عنه بالمروة أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أولا وكان الحلاق غائبا في بعض حاجته ثم حضر فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق لأنه أفضل ففعل ، وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضية وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق فيها جاء هذا الاحتمال بعينه وحصل التوفيق بين الأخبار كلها ، وهذا مما فتح الله علي به [ ص: 662 ] في هذا الفتح ولله الحمد أبدا . قال صاحب " الهدي " الأحاديث الصحيحة المستفيضة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر كما أخبر عن نفسه بقوله " فلا أحل حتى أنحر " وهو خبر لا يدخله الوهم بخلاف خبر غيره ، ثم قال : ولعل معاوية قصر عنه في عمرة الجعرانة فنسي بعد ذلك وظن أنه كان في حجته . انتهى . ولا يعكر على هذا إلا رواية قيس بن سعد المتقدمة لتصريحه فيها بكون ذلك في أيام العشر ، إلا أنها شاذة ، وقد قال قيس بن سعد عقبها : والناس ينكرون ذلك . انتهى . وأظن قيسا رواها بالمعنى ثم حدث بها فوقع له ذلك ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون في قول معاوية : قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص . حذف تقديره قصرت أنا شعري عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى . ويعكر عليه قوله في روايةأحمد : قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة . أخرجه من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن ابن عباس ، وقال ابن حزم يحتمل أن يكون معاوية قصر عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شعر لم يكن الحلاق استوفاه يوم النحر ، وتعقبه صاحب " الهدي " بأن الحالق لا يبقي شعرا يقصر منه ، ولا سيما وقد قسم صلى الله عليه وسلم شعره بين الصحابة الشعرة والشعرتين ، وأيضا فهو صلى الله عليه وسلم لم يسع بين الصفا والمروة إلا سعيا واحدا في أول ما قدم فماذا يصنع عند المروة في العشر . قلت : وفي رواية العشر نظر كما تقدم ، وقد أشار النووي إلى ترجيح كونه في الجعرانة وصوبه المحب الطبري ، وابن القيم ، وفيه نظر لأنه جاء أنه حلق في الجعرانة ، واستبعاد بعضهم أن معاوية قصر عنه في عمرة الحديبية لكونه لم يكن أسلم ليس ببعيد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بمشقص ) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح القاف وآخره صاد مهملة ، قال القزاز : هو نصل عريض يرمى به الوحش . وقال صاحب " المحكم " : هو الطويل من النصال وليس بعريض . وكذا قال أبو عبيد والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية