الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم

عطف على وأن تجمعوا والتقدير : وحرمت عليكم المحصنات من النساء إلخ . فهذا الصنف من المحرمات لعارض نظير الجمع بين الأختين .

والمحصنات بفتح الصاد من أحصنها الرجل : إذا حفظها واستقل بها عن غيره ، ويقال : امرأة محصنة بكسر الصاد أحصنت نفسها عن غير زوجها ، ولم يقرأ قوله ( والمحصنات ) في هذه الآية إلا بالفتح .

ويقال : أحصن الرجل فهو محصن بكسر الصاد لا غير ، ولا يقال محصن . ولذلك لم يقرأ أحد : محصنين غير مسافحين . بفتح الصاد ، وقرئ قوله ( محصنات ) بالفتح والكسر . وقوله : فإذا أحصن بضم الهمزة وكسر الصاد ، وبفتح الهمزة وفتح الصاد . والمراد هنا المعنى الأول ، أي وحرمت عليكم ذوات الأزواج ما دمن في عصمة أزواجهن ، فالمقصود تحريم اشتراك رجلين فأكثر في عصمة امرأة ، وذلك إبطال لنوع من النكاح كان في الجاهلية يسمى الضماد ، ولنوع آخر ورد ذكره في حديث عائشة : أن يشترك الرجال في المرأة وهم دون العشرة ، فإذا حملت ووضعت حملها أرسلت إليهم فلا يستطيع أحد منهم أن يمتنع ، فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان ، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به . ونوع آخر يسمى نكاح الاستبضاع ; وهو أن يقول الزوج لامرأته إذا طهرت من حيضها : أرسلي إلى فلان ، فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ، فإذا تبين حملها أصابها زوجها . قالت عائشة : وإنما يفعل هذا رغبة في [ ص: 6 ] نجابة الولد ، وأحسب أن هذا كان يقع بتراض بين الرجلين ، والمقصد لا ينحصر في نجابة الولد ، فقد يكون لبذل مال أو صحبة . فدلت الآية على تحريم كل عقد على نكاح ذات الزوج ، أي تحريم أن يكون للمرأة أكثر من زوج واحد . وأفادت الآية تعميم حرمتهن ولو كان أزواجهن مشركين ، ولذلك لزم الاستثناء بقوله : إلا ما ملكت أيمانكم أي إلا اللائي سبيتموهن في الحرب ، لأن اليمين في كلام العرب كناية عن اليد حين تمسك السيف .

وقد جعل الله السبي هادما للنكاح تقريرا لمعتاد الأمم في الحروب ، وتخويفا أن لا يناصبوا الإسلام لأنهم لو رفع عنهم السبي لتكالبوا على قتال المسلمين ، إذ لا شيء يحذره العربي من الحرب أشد من سبي نسوته ، ثم من أسره ، كما قال النابغة :


حذارا على أن لا تنال مقادتي ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا

واتفق المسلمون على أن سبي المرأة دون زوجها يهدم النكاح ، ويحلها لمن وقعت في قسمته عند قسمة المغانم . واختلفوا في التي تسبى مع زوجها : فالجمهور على أن سبيها يهدم نكاحها ، وهذا إغضاء من الحكمة التي شرع لأجلها إبقاء حكم الاسترقاق بالأسر . وأومأت إليها الصلة بقوله : ملكت أيمانكم وإلا لقال : إلا ما تركت أزواجهن .

ومن العلماء من قال : إن دخول الأمة ذات الزوج في ملك جديد غير ملك الذي زوجها من ذلك الزوج يسوغ لمالكها الجديد إبطال عقد الزوجية بينها وبين زوجها ، كالتي تباع أو توهب أو تورث ، فانتقال الملك عندهم طلاق . وهذا قول ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وسعيد ، والحسن البصري ، وهو شذوذ ، فإن مالكها الثاني إنما اشتراها عالما بأنها ذات زوج ، وكأن الحامل لهم على ذلك تصحيح معنى الاستثناء ، وإبقاء صيغة المضي على ظاهرها في قوله ( ملكت ) أي ما كن مملوكات لهم من قبل . والجواب عن ذلك أن المراد بقوله ( ملكت ) ما تجدد ملكها بعد أن كانت حرة ذات زوج . فالفعل مستعمل في معنى التجدد .

وقد نقل عن ابن عباس أنه تحير في تفسير هذه الآية ، وقال : لو أعلم أحدا يعلم تفسيرها لضربت إليه أكباد الإبل ، ولعله يعني من يعلم تفسيرها عن النبيء - صلى الله [ ص: 7 ] عليه وسلم - . وقد كان بعض المسلمين في الزمن الأول يتوهم أن أمة الرجل إذا زوجها من زوج لا يحرم على السيد قربانها ، مع كونها ذات زوج . وقد رأيت منقولا عن مالك : أن رجلا من ثقيف كان فعل ذلك في زمان عمر ، وأن عمر سأله عن أمته التي زوجها وهل يطؤها ، فأنكر ، فقال له : لو اعترفت لجعلتك نكالا .

وقوله : كتاب الله عليكم تذييل ، وهو تحريض على وجوب الوقوف عند كتاب الله ، فـ ( عليكم ) نائب مناب ( الزموا ) وهو مصير بمعنى اسم الفعل ، وذلك كثير في الظروف والمجرورات المنزلة منزلة أسماء الأفعال بالقرينة ، كقولهم : إليك ، ودونك ، وعليك . و ( كتاب الله ) مفعوله مقدم عليه عند الكوفيين ، أو يجعل منصوبا بـ ( عليكم ) محذوفا دل عليه المذكور بعده ، على أنه تأكيد له ، تخريجا على تأويل سيبويه في قول الراجز :


يأيها المائح دلـوي دونـك     إني رأيت الناس يحمدونك

ويجوز أن يكون " كتاب " مصدرا نائبا مناب فعله ، أي كتب الله ذلك كتابا ، و ( عليكم ) متعلقا به .

التالي السابق


الخدمات العلمية