الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه

                                                                                                                                                                                                                                      إذا كان هذا كله خطر الوسواس الخناس من الجنة والناس ، وهما عدو مشترك ومتربص حاقد حاسد ، فما طريق النجاة منه ؟

                                                                                                                                                                                                                                      الذي يظهر ، والله تعالى أعلم : أن طريق النجاة تعتمد على أمرين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : يؤخذ من عمومات الكتاب والسنة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 189 ] والثاني : سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه .

                                                                                                                                                                                                                                      أما الأول فهو : إذا كانت مهمة الوسوسة التشكيك والذبذبة والتردد ، فإن عمومات التكليف تلزم المسلم بالعزم واليقين والمضي دون تردد كما في قوله : فإذا عزمت فتوكل على الله [ 3 \ 159 ] ، وامتدح بعض الرسل بالعزم وأمر بالاقتداء بهم : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ 46 \ 35 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صلى الله عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .

                                                                                                                                                                                                                                      والقاعدة الفقهية " اليقين لا يرفع بشك " .

                                                                                                                                                                                                                                      والحديث : " يأتي الشيطان لأحدكم وهو في الصلاة فينفخ في مقعدته ، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث ، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا ، أو يجد ريحا " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هنا كانت التكاليف كلها على اليقين ، فالعقائد لا بد فيها من اليقين .

                                                                                                                                                                                                                                      والفروع في العبادات لا بد فيها من النية " إنما الأعمال بالنيات " .

                                                                                                                                                                                                                                      والشرط في النية الجزم واليقين ، فلو نوى الصلاة على أنه إن حضر فلان تركها ، لا تنعقد نيته ، ولو نوى صوما أنه إن شاء أفطر ، لا ينعقد صومه .

                                                                                                                                                                                                                                      ونص مالك في الموطأ : أنه إن نوى ليوم الشك في ليلته الصوم غدا ، على أنه إن صح من رمضان فهو لرمضان ، وإلا فهو نافلة ، لا ينعقد صومه لا فرضا ولا نفلا حتى لو جاء رمضان لا يعتبر له منه ، وعليه قضاؤه لعدم الجزم بالنية .

                                                                                                                                                                                                                                      والحج : لو نواه لزمه ولزمه المضي فيه ، ولا يملك الخروج منه باختياره .

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا المعاملات في جميع العقود مبناها على الجزم حتى في المزح واللعب ، يؤاخذ في البعض كالنكاح والطلاق والعتاق .

                                                                                                                                                                                                                                      فمن هذا كله كانت دوافع العزيمة مستقاة من التكاليف ، مما يقضي على نوازع الشك والتردد ، ولم يبق في قلب المؤمن مجال لشك ولا محل لوسوسة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان الشيطان يفر من طريق عمر رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 190 ] أما الذي كنت سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فقوله : لقد علمنا الله كيفية اتقاء العدو من الإنس ومن الجن .

                                                                                                                                                                                                                                      أما العدو من الإنس ففي قوله تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [ 41 \ 34 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فدل على أن مقابلة إساءة العدو بالإحسان إليه تذهب عداوته ، وتكسب صداقته ، كما قال تعالى : ادفع بالتي هي أحسن السيئة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما عدو الجن ففي قوله تعالى : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ 41 \ 36 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وهو ما يدل عليه ما تقدم من الآثار من أن الشيطان يخنس إذا سمع ذكر الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى قوله رحمه الله : فإن شيطان الجن يندفع بالاستعاذة منه بالله ، ويكفيه ذلك ; لأن كيد الشيطان كان ضعيفا .

                                                                                                                                                                                                                                      أما شيطان الإنس فهو في حاجة إلى مصانعة ومدافعة والصبر عليه ، كما يرشد إليه قوله تعالى : وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ 41 \ 35 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      رزقنا الله تعالى وجميع المسلمين حظا عظيما في الدنيا والآخرة ، إنه المسئول ، وخير مأمول .

                                                                                                                                                                                                                                      روى ابن كثير حديث أبي سعيد رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يتعوذ من أعين الجن والإنس ، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما " رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن عبد الله الأسلمي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ثم قال : " قل " : فلم أدر ما أقول . ثم قال لي : " قل " . فقلت : هو الله أحد ، ثم قال لي : قل . قلت : أعوذ برب الفلق من شر ما خلق حتى فرغت منها ، ثم قال لي قل . قلت : أعوذ برب الناس حتى فرغت منها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هكذا فتعوذ ; وما تعوذ المتعوذون بمثلهن قط " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 191 ] والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على أفضل خلقه وأكرمهم عليه ، من اصطفاه لرسالته وشرفنا ببعثته ، وختم به رسله وكرمنا به وهدانا لاتباعه ، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعلينا معهم أجمعين ، إنه سميع مجيب .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية