الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال تعالى : ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ) أي : يتم نعمته عليكم باستيلائكم على بيته الذي [ ص: 23 ] جعله قبلة لكم ، وتطهيركم إياه من عبادة الأصنام والأوثان ، وهو البيت الذي في قلب بلادكم ، وموضع شرفكم وفخركم ، كما أتمها عليكم بإرساله رسولا منكم ، فالقبلة في بلادكم ، والرسول من أمتكم ، والخطاب للعرب كما هو ظاهر . ثم وصف هذا الرسول بالأوصاف التي كان بها نعمة تامة ، ورحمة شاملة فقال : ( يتلو عليكم آياتنا ) الدالة على أن ما جاء به من التوحيد والهداية هو الحق من عند الله ، وهذه الآيات أعم من أن تكون آيات القرآن أو غيرها من الدلائل والبراهين على أصول الدين ، وقد تقدم في تفسير الآيات في دعوة إبراهيم بأن الآيات يصح أن يراد بها الآيات الكونية والعقلية وأن يراد بها آيات الوحي ، والتعميم أولى ، وإنما خصها بعض المفسرين بآيات القرآن بقرينة ( يتلو ) على أن التلاوة أعم ، فكل برهان يقيمه فقد تلا عليهم عبارته ، وذكر لهم فيه آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ، ووجه المنة أنه يقودهم إلى الحق بالدليل والبرهان دون التقليد والتسليم بغير فهم ولا إذعان ، والطريقة الأولى يكون بها العقل مستقلا ، والدين مؤيدا له وهاديا ، لا مرغما ولا معطلا ، هذا ملخص ما قرره شيخنا .

                          والمختار عندنا أن المراد بالآيات آيات القرآن باعتبار ما اشتملت عليه من الآيات العقلية والعلمية على أصول العقائد والقواعد ، فهي في نفسها آية على النبوة والرسالة بأنواع إعجازها التي تقدم بيانها ( ص 159 - 191 ج1 ) وتشتمل على آيات كثيرة ; على التوحيد والبعث وأصول الإسلام كلها .

                          الآيات تتعلق بإثبات العقائد وأصول الدين وهي المقصد الأول ، ويليها تهذيب الأخلاق ; ولذلك قال : ( ويزكيكم ) أي : يطهر نفوسكم من الأخلاق السافلة ، والرذائل الممقوتة ، ويخلقها بالأخلاق الحميدة بما لكم فيه من حسن الأسوة لا بالقهر والسطوة ، وخص المفسر ( الجلال ) التزكية بالتطهير من الشرك .

                          قال الأستاذ الإمام : وهذا لا يصح فإن الإسلام كما جاء بالتوحيد الماحي للشرك ، جاء بالتهذيب المطهر من سفساف الأخلاق وقبائح العادات والمعاصي التي كانت فاشية في العرب ، فقد كانوا يئدون بناتهم - يدفنونهن حيات - ويقتلون أولادهم للتخلص من النفقة عليهم وذلك نهاية القسوة والشح ، وكانوا يسفكون الدماء فيما بينهم لأهون سبب يثير حميتهم الجاهلية ; لما اعتادوه من البغي في الثارات ومن شن الغارات ونهب بعضهم بعضا ، وكان عندهم من التسفل أن أحدهم يتزوج زوج أبيه أو يعضلها حتى تفتدي منه ، إلى غير ذلك . وقد زكاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك كله باقتدائهم بأخلاقه العظيمة في عباداته الكاملة وآدابه العالية ، وجمعهم بعد تلك الفرقة ، وألف الله بينهم على يديه حتى صاروا كرجل واحد ، وجعلت شريعته ذمتهم واحدة يسعى بها أدناهم ، فإذا أعطى مولى أو رقيق لهم أمانا لأي إنسان محارب كان ذلك كتأمين أمير المؤمنين له ، فأي تزكية أعلى من هذه التزكية ؟ . [ ص: 24 ] وأقول : إنهم بزكاة أنفسهم هذه فتحوا العالم وكانوا أئمة أمم المدنية التي كانت تحتقر جنسهم كله ، فإن الأعاجم إنما عرفوا فضل الإسلام بعدلهم وفضلهم في فتوحهم ، وما فهموا القرآن إلا بعد إسلامهم وتعلمهم العربية . والرسول الذي زكى هذه الأمة التي زكت أمما كثيرة حقيق بأن تكون نفسه أزكى الأنفس وأكملها ، ولكننا علمنا أن بعض دعاة النصرانية يستدل بآية ( لأهب لك غلاما زكيا ) ( 19 : 19 ) على تفضيل عيسى على محمد - عليهما السلام - ووصف الغلام بالزكي لا يدل على أنه أفضل من سائر الغلمان ، فضلا عمن زكى الأنام . وقد قال تعالى في قصة موسى عليه السلام مع العبد الذي علمه من لدنه علما ( أقتلت نفسا زكية بغير نفس ) ( 18 : 74 ) الآية ، فهل يزعمون أن هذا الغلام أفضل من موسى وإبراهيم عليهما السلام ; لأنهما لم يوصفا بوصفه ؟

                          وبعد ذكر التربية العملية بالأسوة الحسنة ذكر أمر التعليم فقال : ( ويعلمكم الكتاب والحكمة ) أي : الكتاب الإلهي ، أو الكتابة التي تخرجون بها من ظلمة الأمية والجهل إلى نور العلم والحضارة ، ويجوز الجمع بين المعنيين على القول الصحيح باستعمال المشترك في معنييه أو فيما يقتضيه المقام من معانيه ، وأما الحكمة : فهي العلم المقترن بأسرار الأحكام ومنافعها ، الباعث على العمل ، وفسرها بعضهم بالسنة .

                          ( أقول ) : وهو غلط فإنها أطلقت على بعض نصوص الكتاب كالعقائد والفضائل والأحكام الإيجابية والسلبية بدليل قوله تعالى بعد الوصايا المقرونة بعلل الأمر والنهي من سورة الإسراء : ( ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ) ( 17 : 39 ) وفي سورة لقمان أن الله آتاه الحكمة وذكر منها وصاياه لابنه المعللة بأسباب النهي ( راجع 31 : 12 - 19 الآيات ) فحكمة القرآن أعلى الحكم ، وتليها حكمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ( لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ) ) رواه الشيخان من حديث ابن مسعود ، وفي بعض رواياته : ( ( فهو يعمل بها ويعلمها الناس ) ) وفي لفظ من حديث ابن عمر ( ( القرآن ) ) بدل ( ( الحكمة ) ) .

                          وقد تقدم ما قاله الأستاذ الإمام في هذه الكلمات في دعاء إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وجاء هنا بتفصيل في معنى الحكمة‌‌‌‌ لم يذكر هناك ، فقال ما مثاله : دعا القرآن إلى التوحيد وأمهات الفضائل وبين ‌‌‌أصول الأحكام ، ولكنه لم يفصل سيرة الملوك والرؤساء مع السوقة والمرءوسين ، ولم يفصل سيرة الرجل مع أهل بيته في الجزئيات وهو ما يسمونه نظام البيوت - العائلات - ولم يفصل طرق الأحكام القضائية والمدنية والحربية ، وذلك أن هذه الأمور ينبغي أن تؤخذ [ ص: 25 ] بالأسوة والعمل بعد معرفة القواعد العامة التي جاءت في الكتاب ، ولذلك كانت السنة هي المبينة لذلك بالتفصيل بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيوته ومع أصحابه في السلم والحرب والسفر والإقامة ، وفي حال الضعف والقوة والقلة والكثرة ; فالسنة العملية المتواترة هي المبينة للقرآن بتفصيل مجمله وبيان مبهمه ، وإظهار ما في أحكامه من الأسرار والمنافع ; ولهذا أطلق عليها لفظ الحكمة فإنها كانت كالحكمة - بالتحريك - لتأديب الفرس ، ولولا هذه التربية بالعمل لما كان الإرشاد القولي كافيا في انتقال الأمة العربية من طور الشتات والفرقة والعداء والجهل والأمية إلى الائتلاف والاتحاد والتآخي والعلم وسياسة الأمم ، فالسنة هي التي علمتهم كيف يهتدون بالقرآن ، ومرنتهم على العدل والاعتدال في جميع الأحوال .

                          كلنا يعرف الحلال والحرام والفضيلة والرذيلة ، وقلما ترى أحدا عاملا بعلمه ، وإنما السبب في ذلك أن الأكثرين يعرفون الحكم يرون حكمته ، ودون الأسوة الحسنة في العمل به ، فهم لا يفقهون لم كان هذا حراما ؟ ولا تنفذ أفهامهم في أعماق الحكم فتصل إلى فقهه وسره ، فتعلم علما تفصيليا ما وراء المحرم من الضرر لمرتكبه وللناس ، وما وراء الواجبات والمندوبات من المنافع العامة والخاصة . ولو علموا ذلك وفقهوه بالتربية عليه وملاحظة آثاره والاقتداء بالمعلمين والمربين في العمل به - كما أخذ الصحابة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخرجوا من ظلمة الإجمال والإبهام في المعرفة إلى نور التجلي والتفصيل ، حتى تكون الجزئيات مشرقة واضحة ، ولكان هذا العلم معينا لهم على إحلال الحلال بالعمل ، وتحريم الحرام بالترك ، فقد وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ( رضي الله عنهم ) على فقه الدين ونفذ بهم إلى سره ، فكانوا حكماء علماء ، عدولا نجباء ، حتى أن كان أحدهم ليحكم المملكة العظيمة فيقيم فيها العدل ويحسن السياسة وهو لم يحفظ من القرآن إلا بعضه ، ولكنه فقهه حق فقهه . وهذا المعنى - فقه الدين ومعرفة أسرار الأحكام - غير التزكية ، بيد أنه يتصل بها ويعين عليها ، حتى يطابق العلم العمل ، فهذه الآية نبأ عن استجابة دعوة إبراهيم عليه السلام ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) ( 2 : 129 ) الآية .

                          وقد تقدم هناك ذكر تعليم الكتاب والحكمة على التزكية ، وقدم هنا ذكر التزكية على تعليم الكتاب والحكمة ، والنكتة في ذلك أن إبراهيم عليه السلام لاحظ في دعوته الطريق الطبيعي وهو أن التعليم يكون أولا ثم تكون التزكية ثمرة له ونتيجة ، وهاهنا ذكر الترتيب بحسب الوجود والوقوع ، وذلك أن أول شيء فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أن دعا الناس إلى الإيمان بما تلا عليهم من آيات الله تعالى ودلائل توحيده ، وإلى الاعتقاد بإعادة الناس ليوم لا ريب فيه يحاسب الله فيه كل نفس ويجزيها بعملها وصفاتها ، فأجاب الناس دعوته بالتدريج ، وكل من آمن له كان يقتدي به في أخلاقه وأعماله ، ولم تكن هنالك أحكام ولا شرائع ، ثم شرعت الأحكام بالتدريج ، فالتزكية بالتأسي به - عليه الصلاة والسلام - كانت متأخرة عن إقامة الآيات والدلائل على أصول الإيمان ، ومقدمة على تلقي الشرائع والتفقه في الأحكام .

                          [ ص: 26 ] ثم قال تعالى : ( ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) أي : ويعلمكم مع الكتاب والحكمة ما لم يسبق لكم به علم من شئون العالم ونظام البيوت والمعاشرة الزوجية وسياسة الحروب والأمم . وقال البيضاوي وغيره : ما لم تكونوا تعلمونه بالنظر والفكر ، إذ لا سبيل لمعرفته سوى الوحي ، وكرر الفعل ليدل على أنه جنس آخر اهـ . يعني : كأخبار عالم الغيب وسيرة الأنبياء ، وأحوال الأمم التي كانت مجهولة عندكم ، وكثير منها كان مجهولا عند أهل الكتاب أيضا ; فإنه - صلى الله عليه وسلم - صحح أغلاطهم ، وبين سقاطهم ، وخص هذا بالذكر - وإن كان مما اشتمل عليه الكتاب - اهتماما به وتنويها بشأنه ، ولكن تكرار الفعل وعطفه يقتضي أن يكون هذا غير ما قبله .

                          قال الأستاذ الإمام : ويصح أن يراد ما لم تكونوا تعلمون من شئون أنفسكم ، والسنن الإلهية الحاكمة فيكم ، وقد بلغوا بتعليمه وإرشاده - صلى الله عليه وسلم - مبلغا فاقوا فيه سائر الأمم ; أي : فالتعليم ليس محصورا في الكتاب بل هناك زيادة أعد الله تعالى نبيه لتبيينها ، والمقابلة بين هذا التعليم وتعليم الكتاب مبنية على أن المراد بالكتاب : القرآن ، وبالآيات : الدلائل ، وقد تقدم فيه وجه آخر وهو أنه مصدر كتب أي : ويعلمكم الكتابة بعد أن كنتم أميين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية