الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الفرق بين المعجزة والكرامة :

                          أن الله تعالى لم يؤيد رسله بما أيدهم به من المعجزات إلا لتكون حجة لهم على أقوامهم يهدي بها المستعد للهداية ، وتحق بها الكلمة على الجاحدين المعاندين فتقع عليهم العقوبة ، وذلك لا يكون إلا بإظهارها ، فهو واجب لإتمام تبليغ الدعوة التي أرسلوا لتبليغها ، وما كان الأنبياء يدعون الله تعالى بشيء من خوارق العادات غير حجة الرسالة إلا لضرورة كالاستسقاء وكان خاتمهم وأكرمهم على الله تعالى يصبر هو وأهل بيته وأصحابه على المرض والجوع والعطش ، ولا يدعو لهم - صلى الله عليه وسلم - بما يزيل ذلك إلا نادرا ، وقد سألته المرأة التي كانت تصرع أن يدعو الله لها بالشفاء فأرشدها إلى أن الصبر على مصيبتها خير لها . فشكت إليه أنها تتكشف عند النوبة وأن يدعو لها ألا تتكشف ، فدعا لها واستجاب الله دعاءه .

                          [ ص: 187 ] والأصل في الكرامة الإخفاء والكتمان ، وكثيرا ما يكون ظهورها فتنة للناس ، وما كان أهلها يظهرون ما لهم كسب فيه منها كالمكاشفة إلا لضرورة ، وقد صرح بهذا العلماء والصوفية فهو متفق عليه بينهم خلافا للمشهور بين العامة .

                          قال التاج السبكي في سياق حجج منكري جواز وقوع الكرامات من طبقات الشافعية : ( الحجة الثانية ) قالوا : لو جازت الكرامة لاشتبهت بالمعجزة ، فلا تدل المعجزة على ثبوت النبوة . والجواب : منع الاشتباه ، بقرن المعجزة بدعوى النبوة ، دون الكرامة فهي إنما تقترن بكمال اتباع النبي من الولي - وأيضا فالمعجزة يجب على صاحبها الاشتهار ، والكرامة مبناها على الإخفاء ، ولا تظهر إلا على الندرة والخصوص ، لا على الكثرة والعموم ، وأيضا فالمعجزة يجوز أن تقع بجميع خوارق العادات والكرامة تختص ببعضها ، كما بيناه من كلام القشيري وهو الصحيح ا هـ . ثم قال :

                          ( الحجة الرابعة ) قالوا : لو جاز ظهور خوارق العادات على أيدي الصالحين لما أمكن أن يستدل على نبوة الأنبياء بظهورها على أيديهم ، لجواز أن تظهر على يد الولي سرا ، فإن من أصول معظم جماعتكم أن الأولياء لا يظهرون الكرامات ولا يدعون بها ، وإنما تظهر سرا وراء ستور ، ويتخصص بالاطلاع عليها آحاد الناس ، ويكون ظهورها سرا مستمرا بحيث لا يلتحق بحكم المعتاد ، فإذا ظهر نبي وتحدى بمعجزة ، جاز أن تكون مما اعتاده أولياء عصره من الكرامات فلا يتحقق في حقه خرق العادة ، فكيف السبيل إلى تصديقه مع عدم تحقق خرق العوائد في حقه ؟ وأيضا تكرر الكرامة يلحقها بالمعتاد في حق الأولياء ، وذلك يصدهم عن تصحيح النظر في المعجزة إذا ظهر نبي في زمنهم ) )

                          وقال في الجواب : لأئمتنا وجهان الأول منع توالي الكرامات واستمرارها حتى تصير في حكم العوائد ، وإنما يجوز ظهورها على وجه لا تصير عادة فلا يلزم ما ذكروه والثاني - وهو لمعظم أئمتنا - قالوا : إنه يجوز توالي الكرامات على وجه الاختفاء بحيث لا يظهر ولا يشيع ولا يعتاد ، لئلا تخرج الكرامات عن كونها كرامات . انتهى من مجلد المنار الثاني .

                          وأقول : إن المحققين من الصوفية يوافقون علماء الكلام والأصول على منع توالي الكرامات وتكرارها ، ومنع إظهارها ، وقال الشيخ محيي الدين بن عربي : إن ما يتكرر لا يكون كرامة لأنه يكون عادة ، وإنما الكرامة من خوارق العادات وقال الشيخ أحمد الرفاعي إن الأولياء يستترون من الكرامة كما تستتر المرأة من دم الحيض ، فأين هذه الأقوال مما عليه الدجالون الخرافيون وسدنة القبور المعتقدة من زعمهم أن الكرامة الواحدة تتكرر لأولياء كثيرين من الأحياء والأموات مرارا كثيرة وكلها ظاهرة ذائعة شائعة ، بل صناعة ذات بضاعة رابحة ؟

                          [ ص: 188 ] الكافرون بالآيات صنفان . مكذبون ومشركون ، وعلاج كل منهما :

                          الكافرون بآيات الله تعالى صنفان : صنف يكذبها كلها ولا يؤمنون بشيء منها ، وصنف يشرك بالله غيره فيها ، فينحله ما هو خاص به عز وجل لا يقدر عليه سواه ، ويشرع للناس أن يعبدوا هؤلاء الأغيار بدعائهم من دونه ، واستغاثتهم فيما لا يقدر عليه غيره ، بدعوى أن الله تعالى هو الذي أعطاهم القدرة الغيبية على ذلك لمحبته لهم وجاههم عنده ، ومعناه أنه سبحانه هو الذي أشركهم معه فأعطاهم هذا التصرف في عباده ، وإنما يتحامون ألفاظ العبادة والشرك والخلق دون معانيها ، فيكذبون على الله تعالى وعليهم بما يكذبهم به كتابه المنزل ، ونبيه المرسل ، ولكنهم يحرفون آيات الكتاب فيحتجون بها على جهلهم ، فيذكرون أن الله كان يرزق مريم عليها السلام بغير حساب ، وما كان رزقها من فعلها ، ولا يدري أحد كيف سخره الله لها ، وروي أنه كان بتسخير بعض الناس لها ، ووحيه إلى أم موسى وما هو من فعلها . وقد قيل بنبوتها .

                          وإن إفساد هؤلاء الخرافيين للبشر في دينهم ودنياهم لأشد من إفساد المنكرين للآيات المكذبين بها ، بأنهم أكبر أسباب هذا الإنكار والتكذيب بزعمهم أن الأنبياء ومن دونهم من الصالحين يتصرفون في الخلق بما يخالف سنن الله تعالى فيه ، أو يبدلها بغيرها ويحولها عما وضعت له . وزعمهم أن الله هو الذي دعا الناس إلى هذا الاعتقاد وجعله أساس دينه ، فكذبوا بالدين من أساسه ، فتكون فتنتهم شاملة لفريقي الكفار بالآيات - فريق المكذبين وفريق المشركين وهو مع هذا قول على الله بغير علم ، وافتراء على الله بكونه شرعا لم يأذن به الله ، وهو أشد أنواع الكفر بالله ; لأن ضرره متعد بما فيه من إضلال الناس باعتقاد باطل يتبعه عبادة باطلة غير مشروعة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية