الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          المنكرون للمعجزات وشبهة الخوارق الكسبية عليها :

                          وأما المنكرون لها فلا يمكن أن تقوم عليهم الحجة إلا بالقرآن كما تقدم فهم لا يصدقون ما ينقله اليهود والنصارى من آيات موسى وعيسى وغيرها من النبيين عليهم السلام ولا يسلمون صحة تواترها ، إذ يقيسون نقلهم لها على ما ينقله العوام في كل عصر عن بعض المعتقدين في بلادهم من الخوارق الخادعة التي مثارها الوهم والتخيل ، ويحتجون على ذلك بأن يوسيفوس المؤرخ اليهودي المعاصر للمسيح عليه السلام لم ينقل للناس أخبار عجائبه التي تقصها الأناجيل التي ألفت بعده ، ويعللونها على تقدير صحة النقل بما يعللون به الخوارق الصورية التي يشاهدونها في كل عصر ، فإن لم يستطيعوا تعليلها قالوا : إنه لا بد لها من سبب كسبي يظهر لنا أو يعترف به فاعلوها ، كما وقع في أمثالها من صوفية الهندوس ( الفقراء ) كالارتفاع في الهواء وغير ذلك مما هو أغرب منه .

                          روت إحدى الجرائد المصرية في هذه الأيام من أخبار سائحي الإفرنج في الهند حادثة لفقير من هؤلاء الفقراء اسمه سارجوها ردياس وقعت في سنة 1837 ، وخلاصتها أن هذا الفقير جاء قصر المهراجا رانجيت سنجا أمير بنجاب وعرض عليه أن يريه بعض كراماته ، وكان المهراجا لا يصدق ما ينقل من خوارق هؤلاء الفقراء ، فسأله عما يريد [ ص: 190 ] إظهاره فقال : إنه يدفن أربعين يوما ثم يعود إليهم حيا ، فأحضر المهراجا نفرا من أطباء الإنكليز والفرنسيس وأمراء بنجاب ، فجلس الفقير القرفصاء أمامهم فكفنوه بعد أن وضعوا القطن والشمع على أذنيه وأنفه - كما أوصاهم - وخاطوا عليه الكفن ووضعوه في صندوق من الخشب السميك وسمروا غطاءه ووضع المهراجا عليه ختمه ، ودفنوه في قبو داخل حجرة صغيرة في حديقة القصر وأقفلوا بابها ووضع المهراجا ختمه بالشمع على قفلها ، وأمر اثنين من رجال حرسه الأمناء بحراستها وطائفة من جنده بمعاونتهما ، وكان ذلك كله بمشهد من حضر من الأوربيين والبنجابيين وحاشية المهراجا .

                          ولما تمت الأربعون حضر هؤلاء كلهم قصر المهراجا وشاهدوا ختم الحجرة كما كان ، والعشب أمامها في الحديقة لم تطأه قدم أحد ، ثم فتحوا باب الحجرة وامتحنوا أختام القبو ثم أخرجوا الصندوق وامتحنوا أختامه فوجدوها كلها على حالها ، ففتحوه ، وأخرجوا الفقير منه فإذا هو كما وصفه أحد أولئك من الإنجليز . قال :

                          لما فتحوا الصندوق وأخرجوا الفقير منه وجدت الذراعين والساقين صلبة والرأس مائلا على إحدى الكتفين ، فخلتني أمام جثة هامدة فارقتها الحياة منذ أمد بعيد ، فطلبت من طبيبي أن يفحصها فانحنى عليها وجس القلب والصدغين والذراعين وقال : إنه لم يجد أثرا للنبض ألبتة ، ولكنه شعر بحرارة في منطقة الدماغ إلخ .

                          ثم نفذ ما أوصى الفقير أن يعمل بعد إخراجه ، فغسل الجسم بالماء الحار فرد على الأوصال لينها السابق بالتدريج ، وأزيل القطن والشمع عن الأذنين والأنف ووضعت أكياس دافئة على الرأس فدبت الحياة في الجسد المسجى ، وتقلصت الأعصاب والأطراف ثم اضطربت فسال منها عرق غزير وعادت الأعضاء إلى حالتها الأولى ، وبعد دقائق اتسعت حدقتا العينين وعاد إليهما لونهما الطبيعي ، فلما رأى الفقير المهراجا شاخصا إليه دهشا متحيرا قال له : ( ( أرأيت يا مولاي صدق قولي وفعلي ؟ وبعد نصف ساعة خرج من التابوت وأنشأ يحدث الحاضرين أحسن حديث ويطرفهم بما يحير العقول . ا هـ .

                          إن هذه الحادثة من آيات الله التي أظهرتها الرياضة المكتسبة ، وهي أعجب من رواية الإنجيل لموت ليعازر ثم حياته بدعاء المسيح بعد أربعة أيام كما تقدم في بحث عجائبه عليه السلام وأغرب من حادثة أصحاب الكهف أيضا من بعض الوجوه فإن الفقير الهندي قد سد أنفه ولف في كفن ووضع في تابوت دفن تحت الأرض ، فحيل بينه وبين الهواء الذي لا يعيش أحد بدونه عادة ، وأهل الكهف ناموا في فجوة واسعة من كهف بابه إلى الشمال ، مهب الهواء اللطيف ، وكانت الشمس تصيب مدخله من جانبيه عند شروقها وعند غروبها مائلة [ ص: 191 ] متزاورة عنهم ، فتلطف هواءه من حيث لا تصيبهم ، وإنما كان أكبر الغرابة في نومهم طول مدة لبثهم فيه وكانت طويلة جدا حتى على نقل البيضاوي وغيره من المفسرين أن قوله تعالى : ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة ) ( 18 : 25 ) الآية - حكاية عن بعض المختلفين في أمرهم ، فإن كان خلاف ظاهر السياق فقد يقويه قوله تعالى في الآية بعدها : ( قل الله أعلم بما لبثوا ) ( 18 : 26 ) والله أعلم بكل حال على كل حال وإن خفي سر آياته على خلقه ، ولا شيء من الأمرين بمحال . وقد نام بعض أهل العصر بمرض النوم عدة أشهر .

                          ولكن ما جرى للفقير الهندي مخالف لسنة الحياة العامة في الناس ، فإذا ثبت أنه وقع بطريقة كسبية من طرائق رياضة هؤلاء الصوفية لأبدانهم وأنفسهم بما تبقى به الحياة كامنة في أجسادهم مثل هذه المدة الطويلة ، مع انتفاء أسبابها العامة في أحوال الناس الاعتيادية من دورة الدم والنفس وغير ذلك ، فلا وجه لاتخاذ أحد من العقلاء إنكار كل ما يخالف السنن العامة قاعدة عامة ولا سيما فعل الخالق عز وجل لها وهو خالق كل شيء بقدرته ، وواضع نظام السنن والأسباب بمشيئته ، وأكثر منكري الخوارق يؤمنون به ، وإنما ينكرون وقوع شيء مخالف لسننه بأنه مناف لحكمته ، ومن ذا الذي أحاط بحكمه أو بسننه علما ؟ وإنما الذي يقضي به العقل ألا نصدق بوقوع شيء على خلاف السنن الثابتة المطردة في نظام الأسباب العامة إلا إذا ثبت ثبوتا قطعيا لا يحتمل التأويل ، وهذا هو المعتمد عند المحققين من المسلمين وعلماء المادة وعلماء النفس وغيرهم ، وقد ثبت في هذا العصر من خواص الكهرباء وغيرها ما لو قيل لعقلاء الناس وحكمائه قبل ثبوته بالفعل إنه من الممكنات ، لحكموا على مدعي إمكانه بالجنون لا بتصديق الخرافات ، كما قلنا من قبل .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية