الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5328 - وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه خرج يوما إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد معاذ بن جبل قاعدا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ قال : يبكيني شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن يسير الرياء شرك ، ومن عادى لله وليا فقد بارز الله بالمحاربة ، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يتفقدوا ، وإن حضروا لم يدعوا ولم يقربوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، يخرجون من كل غبراء مظلمة " . رواه ابن ماجه ، والبيهقي في ( شعب الإيمان ) .

التالي السابق


5328 - ( وعن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - أنه خرج يوما إلى مسجد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فوجد معاذ بن جبل قاعدا عند قبر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يبكي ، فقال ) أي : عمر - رضي الله تعالى عنه - ( ما يبكيك ؟ ) أي : أي شيء يجعلك باكيا أشوقا إلى اللقاء ، أم وقوعا من الله بعض البلاء ، أو غير ذلك من أسباب البكاء ؟ ( قال : يبكيني شيء سمعته من رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ) جواب سؤال مقدر ( يقول : " إن يسير الرياء " ) أي : قليله ( " شرك " ) ، أي : عظيم ، أو نوع من الشرك ، يعني وهو في غاية من الخفاء ، لأنه أدق من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، وقلما يسلم منه الأقوياء ، فكيف الضعفاء ؟ فهو من جملة أسباب البكاء ، وسبب آخر أذى الأولياء وغالبهم أخفياء ، كما في الحديث القدسي : ( أوليائي تحت قبائي لا يعرفهم غيري ) والإنسان لا يخلو عن بذاذة اللسان مع الإخوان مما يجر إلى العصيان ، وكأنه أراد هذا المعنى بقوله : ( " ومن عادى " ) أي : آذى وأغضب بالفعل أو القول ( " لله وليا " ) أي : واحدا من أوليائه تعالى ( " فقد بارز الله " ) أي : أظهر له نفسه ( " بالمحاربة " ) ، وفي التعبير عن المخالفة بالمحاربة إشارة إلى أنها جراءة عظيمة وجناية جسيمة .

قال الطيبي - رحمه الله - : قوله : ( لله ) لا يجوز أن يكون متعلقا ( بعادى ) ، فهو إما متعلق بقوله وليا ، أو صفة له قدم فصار حالا منه . ( " إن الله يحب الأبرار " ) أي : الذين يعملون عمل البر وهو الطاعة للحق ، والإحسان للخلق ، ولذا قال بعض العارفين : مدار الدين على التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ( " الأتقياء " ) أي : عن الشرك الجلي والخفي ، وعن المناهي ، والملاهي ( " الأخفياء " ) أي : عن نظر الخلق من عامتهم ، وعن مخالطتهم ومعاشرتهم ( " الذين إذا غابوا " ) أي : من غاية الخمول ( " لم يتفقدوا " ) : بصيغة المجهول ، ففي القاموس : تفقده طلبه عند غيبته ، ومنه قوله تعالى : وتفقد الطير ( " وإن حضروا " ) أي : فيما بينهم ( " لم يدعوا " ) : بصيغة المفعول ، أي : لم يطلبوا إلى الدعوة وغيرها ( " ولم يقربوا " ) بالمجهول أيضا ، أي : ولم يقربهم العامة ، ولم يعرفوا قدر قربهم ، ومقدار منزلتهم .

قال الطيبي - رحمه الله - قوله : إن الله ، استئناف مبين لحقيقة الولي ، وذكر لهم أحوالا ثلاثة : إذا كانوا سفرا لم يتفقدوا ، وإذا كانوا حاضرين لم يدعوا إلى مأدبة ، وإن حضروها لم يقربوا وتركوا في صف النعال ، وهذا تفصيل ما ورد : " رب أشعث أغبر لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره " . ( " قلوبهم مصابيح الهدى " ) أي : هم أدلة الهداية ، وهداة العناية فيستحقون الرعاية ، بل ينبغي أن يطلب منهم الحماية ( " يخرجون من كل غبراء مظلمة " ) أي : من عهدة كل مسألة مشكلة ، أو بلية معضلة ، وقال الطيبي - رحمه الله - : كناية عن حقارة مساكنهم وأنها مظلمة مغبرة لفقدان أداة ما يتنور ويتنظف به . ( رواه ابن ماجه ) ، أي : في سننه ( والبيهقي في " شعب الإيمان " ) . وقد جاء في صدر حديث من أحاديث الأربعين مما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب " . قال شارح له : أي أعلمته بمحاربته ومعاداته معي ، أو بأني سأحاربه ، وأقهره ، وأنتصر منه ، وأنتقم له .

وفي رواية : وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث للجرو ، أي : لولده ، وفي أخرى : أنه ينتقم بعدوه ، ثم الولي بحسب التركيب يدل على القرب ، فكأنه قريب منه سبحانه لاستغراقه في نور معرفته ، وجماله ، وجلاله ، وكمال مشاهدته ، واختلفوا في تعريفه ، فقال المتكلمون : الولي من كان آتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ، وبالأعمال الشرعية أي كذلك ، ويؤيده ما قاله بعض الكبراء أنه إن كان العلماء ليسوا بأولياء ، فليس لله ولي .

[ ص: 3340 ] وقال الغزالي - رحمه الله تعالى - : الولي من كوشف ببعض المغيبات ، ولم يؤمر بإصلاح الناس ، وفي كل منهما نظر ، إذ أكثر الأولياء لا سيما من السلف الصالحين لم يظهر عليهم كرامة وكشف حالة ، بخلاف بعض الخلف المتأخرين ، فقيل : لقوة قلوب الأولين وضعف دين الآخرين ؛ ولأن الأولياء وهم العلماء العاملون ، لا شك أنهم كاملون في أنفسهم ، مكملون لغيرهم ، فهم الآمرون بالمعروف ، والناهون عن المنكر ، والحافظون لحدود الله ، والواعظون عن الاشتغال بها سواه ، كما أشار إليه الحديث بقوله : مصابيح الهدى ، فطوبى لمن بهم اقتدى وبنورهم استضاء واهتدى ، فالأقرب في معناه ما ذكره القشيري - رحمه الله - : من أن الولي إما فعيل بمعنى المفعول ، وهو من يتولى الله حفظه وحراسته على التوالي ، أو بمعنى الفاعل ، أي : من يتولى عبادة الله وطاعته ، ويتوالى عليها من غير تخلل معصية ، وكلا الوصفين شرط في الولاية ، انتهى كلامه . وفيه إشعار بأن ( أو ) للتنويع ، وإيماء في الأول إلى المجذوب السالك المعبر عنه بالمراد ، وفي الثاني إلى السالك المجذوب المعبر عنه بالمريد ، وقد أشار إليهما سبحانه في قوله : الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وتحقيقه أن يقال : الولي هو من يتولى الله بذاته أمره ، فلا تصرف له أصلا إذ لا وجود له ، ولا ذات ، ولا فعل ، ولا وصف ، فهو الفاني بيد الباقي ، كالميت بين يدي الغاسل ، يفعل به ما يشاء حتى يمحو رسمه واسمه ، ويمحو عينه وأثره ، ويحييه بحياته ، ويبقيه ببقائه ، ويوصله إلى لقائه .




الخدمات العلمية