الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1488 - وعن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنهما - قال : كنت أرتمي بأسهم لي بالمدينة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كسفت الشمس ، فنبذتها فقلت : والله لأنظرن إلى ما حدث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس . قال : فأتيته وهو قائم في الصلاة رافع يديه فجعل يسبح ويهلل ، ويكبر ويحمد ، ويدعو حتى حسر عنها ، فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين . رواه مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن سمرة ، وكذا في شرح السنة عنه . وفي نسخ المصابيح عن جابر بن سمرة .

التالي السابق


1488 - ( وعن عبد الرحمن بن سمرة قال : كنت أرتمي ) أي : أطرح من القوس . ( بأسهم ) جمع سهام ( لي بالمدينة ) : وهو إما كان منفردا أو مع جماعة بالمدينة . ( في حياة رسول الله - ) صلى الله عليه وسلم - : يعني : امتثالا لقوله تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، فإنه صح : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسرها بالرمي ، وقال : من تعلم الرمي فتركه فليس منا . ( إذ كسفت الشمس ، فنبذتها ) : وضعت السهام وألقيتها . ( فقلت ) : في نفسي أو لأصحابي . ( والله لأنظرن ) أي : لأبصرن . ( إلى ما حدث ) أي : تجدد من السنة . ( لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس . قال : فأتيته وهو قائم في الصلاة رافع يديه ) أي : واقف في هيئة الصلاة من القيام والاستقبال واجتماع الناس خلفه صفوفا ، أو الصلاة بمعنى الدعاء ، إذ لم يعرف مذهب أنه يرفع يديه في صلاة الكسوف في أوقات الأذكار . وقال ابن حجر أي : في الصلاة التي للكسوف في القيام الأول رافع يديه لإرادة الركوع الأول ، فجعل في ذلك الركوع يسبح إلخ . ولا يخفى ما فيه من التكلف المناسب لمذهبه فقط ، مع أنه يأباه ما سيأتي من قوله : فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين .

[ ص: 1098 ] ( فجعل يسبح ويهلل ، ويكبر ويحمد ، ويدعو حتى حسر ) أي : أزيل الكسوف وكشف . ( عنها ) أي : عن الشمس . ( فلما حسر عنها ) قرأ سورتين وصلى ركعتين . ظاهر الحديث أنه - عليه الصلاة والسلام - إنما صلى ركعتين ، وقرأ فيهما سورتين ; لأن الواو لمطلق الجمع بعد إذهاب الكسوف ، وهو خلاف ما سبق من الأحاديث .

قال الطيبي : يعني دخل في الصلاة ، ووقف في القيام الأول ، وطول التسبيح والتهليل ، والتكبير والتحميد ، حتى ذهب الخسوف ، ثم قرأ القرآن وركع ، ثم سجد ، ثم قام في الركعة الثانية وقرأ فيها القرآن ، وركع وسجد ، وتشهد وسلم اهـ .

وهو ينافي ما قد سبق منه ومن غيره : أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يزيد في عدد الركوعات إذا تمادى الكسوف ، ولما سيأتي : أنه صلى حتى انجلت . وفي رواية الصحيحين : وانجلت الشمس قبل أن ينصرف .

( رواه مسلم في صحيحه ) قال ميرك : ورواه أبو داود ، والنسائي أيضا . ( عن عبد الرحمن بن سمرة ، وكذا في شرح السنة ) أي : للبغوي . ( عنه ) أي : عن عبد الرحمن . ( وفي نسخ المصابيح ، عن جابر بن سمرة ) أي : بدل عبد الرحمن بن سمرة . قال المؤلف : وحدث حديث عبد الرحمن بن سمرة في صحيح مسلم ، وكتاب الحميدي ، والجامع في شرح السنة بروايته ، ولم أجد لفظ المصابيح في الكتب المذكورة برواية جابر بن سمرة ذكره الطيبى .

قال في الهداية : له أي : للشافعي رواية عائشة - رضي الله عنها - . قال ابن الهمام : أخرج الستة عنها قالت : خسفت الشمس في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد ، فقام فكبر فصف الناس وراءه ، فاقترأ قراءة طويلة ، ثم كبر فركع ركوعا طويلا ، ثم رفع رأسه فقال : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ، ثم كبر فركع ركوعا طويلا هو أدنى من الأول ، ثم رفع رأسه فقال : سمع الله لمن حمده ، ربنا لك الحمد ، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك ، فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات ، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ، ثم قام فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الله ، ثم قال صاحب الهداية : ولنا حديث ابن عمر .

وقال ابن الهمام : أخرج أبو داود ، والنسائي ، والترمذي في الشمائل ، عن عطاء بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقام - عليه الصلاة والسلام - فلم يكد يركع ، ثم ركع فلم يكد يرفع ، ثم رفع فلم يكد يسجد ، ثم سجد فلم يكد يرفع ، ثم رفع فلم يكد يسجد ، ثم سجد فلم يكد يرفع ، ثم رفع . وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك . وأخرجه الحاكم وقال : صحيح .

وأخرج أبو داود ، والنسائي عن سمرة بن جندب قال : بينا أنا وغلام من الأنصار نرمي غرضين لنا ، حتى إذا كانت الشمس قيد رمحين أو ثلاثة في عين الناظر من الأفق اسودت حتى آضت أي : صارت كأنها تنومة بتشديد النون شجر ، فقال أحدهما لصاحبه : انطلق بنا إلى المسجد ، فوالله ، ليحدثن شأن هذه الشمس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمته حدثا . قال : فدفعنا فإذا هو بارز ، فاستقدم فصلى ، فقام كأطول ما قام بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتا ، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ، فوافق تجلي الشمس جلوسه في الركعة الثانية ، ثم سلم فحمد الله ، وأثنى عليه ، وشهد أن لا إله إلا الله ، وشهد أنه عبده ورسوله ، وفي أبي داود من حديث النعمان بن بشير على ما سيأتي في أصل المشكاة ، [ ص: 1099 ] ثم قال : ورواه أبو داود عن قبيصة الهلالي قال : كسفت . وفيه : فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام ، ثم انصرف وقد انجلت فقال : إنما هذه الآيات يخوف الله بها عباده ، فإذا رأيتموها فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة .

وأخرج البخاري عن أبي بكرة : خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخرج يجر رداءه حتى انتهى إلى المسجد وثاب الناس إليه ، فصلى بهم ركعتين فانجلت ، فقال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده ، فإذا كان فصلوا حتى ينكشف ما بكم . قال : فهذه الأحاديث منها الصحيح ، ومنها الحسن ، وقد دارت على ثلاثة أمور منها : ما فيه أنه صلى ركعتين ، ومنها الأمر بأن يجعلوه كأحدث صلاة من المكتوبة وهي الصبح ، فإن كسوف الشمس كان عند ارتفاعها قيد رمحين على ما في حديث سمرة . فأفاد أن السنة ركعتان . أقول : ويمكن حمل الأحدث على الأقل استعارة من حداثة السن ، فإنه يعبر بها عن صغره بمعنى قلة عمره . قال : ومنها ما فصل فأفاد تفصيله أنها بركوع واحد ، وحمل الركعتين على أن في كل ركعة ركوعين خروج عن الظاهر .

فإن قيل : إمكان الحمل عليه يكفي في الحمل عليه إذا أوجبه دليل ، وقد وجد وهو كون أحاديث الركوعين أقوى . قلنا : هذه أيضا في رتبتها ، أما حديث البخاري آخرا فلا شك ، وكذا ما قبله من حديث النسائي ، وأبي داود ، والباقي لا ينزل عن درجة الحسن ، وقد تعددت فرقه فيرتقي إلى الصحيح ، فهذه عدة أحاديث كلها صحيحة حينئذ ، فكافأت أحاديث الركوعين ، وكون بعض تلك اتفق عليه الكل أصحاب الكتب الستة ، غاية ما فيه كثرة الرواة ، ولا ترجيح عندنا بذلك ، ثم المعنى الذي رويناه أيضا في الكتب الخمسة والمغني ، وهو المنظور إليه ، وإنما تفرق في آحاد الكتب وأثنائها خصوصيات المتون .

ولو سلمنا أنها أقوى سندا فالضعيف قد يثبت مع صحة الطريق بمعنى آخر وهو كذلك فيها ، فإن أحاديث تعدد الركوع اضطربت واضطرب فيها الرواة أيضا ، فإن منهم من روى ركوعين ، ومنهم من روى ثلاثا ، ومنهم من روى أربعا ، ومنهم من روى خمسا ، والاضطراب موجب للضعف ، فوجب ترك روايات التعدد كلها إلى روايات غيرها . ولو قلنا : الاضطراب يشمل روايات صلاة الكسوف ، فوجب أن يصلي على ما هو المعهود صح ، ويكون متضمنا ترجح روايات الاتحاد ضمنا لا قصدا ، وهو الموافق لروايات الإطلاق أعني نحو قوله - عليه الصلاة والسلام - : فإذا كان ذلك فصلوا حتى ينكشف ما بكم . وعن هذا الاضطراب الكثير وفق بعض مشايخنا بحمل روايات التعدد على أنه لما أطال في الركوع أكثر من المعهود جدا ، ولا يسمعون له صوتا على ما تقدم في رواية رفع من خلفه متوقعين رفعه ، وعدم سماعهم الانتقال ، فرفع الصف الذي يلي من رفع ، فلما رأى من خلفه أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يرفع ، فلعلهم انتظروه على توهم أنه يدركهم فيه ، فلما يئسوا من ذلك رجعوا إلى الركوع ، فظن من خلفهم أنه ركوع بعد ركوع منه - عليه الصلاة والسلام - فرووا كذلك ، ثم لعل روايات الثلاث والأربع بناء على اتفاق تكرر الرفع من الذي خلف الأول ، وهذا كله إذا كان الكسوف الواقع في زمنه مرة واحدة ، فإن حمل على أنه تكرر مرارا مع بعد أن يقع نحو ست مرات في عشر سنين ; لأنه خلاف العادة كان رأينا أولى أيضا ، لأنه لم ينقل تاريخ فعله المتأخر في الكسوف المتأخر ، فقد وقع التعارض ، ووجب الإحجام عن الحكم بأنه كان المتعدد على وجه التثنية أو الجمع ثلاثا أو أربعا ، أو خمسا ، أو كان المتجدد ، فبقي المجزوم به استنان الصلاة مع التردد في كيفية معينة من المرويات فيترك ، ويصار إلى المعهود ، ثم يتضمن ما قدمناه من الترجح ، والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال اهـ . كلام المحقق ملخصا .




الخدمات العلمية