الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ 2 ] - كتاب العلم

الفصل الأول

198 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا ، فليتبوأ مقعده من النار " . رواه البخاري .

التالي السابق


[ 2 ] كتاب العلم

أي : فضله وفضل تعلمه وتعليمه وبيان ما هو علم شرعا ، وهو أعم من الكتاب والسنة ، فيكون ذكره بعد باب الاعتصام من باب التعميم بعد التخصيص ، والعلم نور في قلب المؤمن مقتبس من مصابيح مشكاة النبوة من الأقوال المحمدية ، والأفعال الأحمدية ، والأحوال المحمودية يهتدى به إلى الله وصفاته وأفعاله وأحكامه ، فإن حصل بواسطة البشر فهو كسبي ، وإلا فهو العلم اللدني المنقسم إلى الوحي والإلهام والفراسة ، فالوحي لغة إشارة بسرعة واصطلاحا كلام إلهي يصل إلى القلب النبوي . فما أنزل صورته ومعناه ولا يكون إلا بواسطة جبريل فهو الكلام الإلهي . وما نزل معناه على الشارع فعبر عنه بكلامه فهو الحديث النبوي ، وهذا قد يكون بغير واسطة في محل الشهود كما قال تعالى : فأوحى إلى عبده ما أوحى وقد يكون بواسطة نزول الملك ، أي : بنزوله من الصورة الملكية إلى الهيئة البشرية ، وتحقيقه أن المتكلم الحقيقي هو الحق ، فكلم أولا محمدا بواسطة جبريل ، وثانيا أصحابه بواسطة محمد ، وثالثا التابعين بواسطة الصحابة وهلم جرا . وقد يكون بنفثه قي قلبه بأن يلقي معناه من غير أن يتمثل بصورة أن روح القدس نفث في روعي ، والإلهام لغة الإبلاغ ، وهو علم حق يقذفه الله من الغيب في قلوب عباده : قل إن ربي يقذف بالحق والفراسة علم ينكشف من الغيب بسبب تفرس آثار الصور ، اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله فالفرق بين الإلهام والفراسة أنها كشف الأمور الغيبية بواسطة تفرس آثار الصور ، والإلهام كشفها بلا واسطة ، والفرق بين الإلهام والوحي أنه تابع للوحي من غير عكس ، ثم علم اليقين ما كان من طريق النظر والاستدلال ، وعين اليقين ما كان بطريق الكشف والنوال ، وحق اليقين ما كان بتحقيق الانفصال عن لوث الصلصال لورود رائد الوصال .

الفصل الأول

198 - ( عن عبد الله بن عمرو ) بالواو ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( بلغوا عني ) : أي : انقلوا إلى الناس ، وأفيدوهم ما أمكنكم ، أو ما استطعتم مما سمعتموه مني ، وما أخذتموه عني من قول أو فعل ، أو تقرير بواسطة أو بغير واسطة ( ولو آية ) أي : ولو كان المبلغ آية وهي في اللغة العلامة الظاهرة . قال زين العرب : وإنما قال " آية " لأنها أقل ما يفيد في باب التبليغ ، ولم يقل حديثا لأن ذلك يفهم بطريق الأولى لأن الآيات إذا كانت واجبة التبليغ مع انتشارها ، وكثرة حملتها لتواترها ، وتكفل الله تعالى بحفظها وصونها عن الضياع والتحريف لقوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فالحديث مع أنه لا شيء فيه مما ذكر أولى بالتبليغ ، وأما لشدة اهتمامه عليه الصلاة والسلام بنقل الآيات لبقائها من سائر المعجزات ، ولمساس الحاجة إلى ضبطها ونقلها إذ لا بد من تواتر ألفاظها ، والآية ما وزعت السورة عليها ا هـ .

والثاني : أظهر كما لا يخفى ، وقال المظهر : المراد بالآية الكلام المفيد ، نحو : من صمت نجا ، والدين النصيحة ، أي : بلغوا عني أحاديثي ، ولو كانت قليلة . فإن قيل : فلم قال ولو آية ولم يقل ولو حديثا مع أنه المراد ؟ قلنا : لوجهين ، أحدهما : أنه أيضا داخل في هذا الأمر لأنه عليه الصلاة والسلام مبلغهم ، وثانيهما : أن طباع المسلمين مائلة إلى قراءة القرآن وتعلمه وتعليمه ونشره ، ولأنه قد تكفل الله بحفظه ا هـ .

[ ص: 281 ] والأظهر أن المراد الكلام المفيد وهو أعم من الآية والحديث ، وإنما اختير لفظ الآية لشرفها ، أو المراد من الآية الحكم الموحى إليه - صلى الله عليه وسلم - وهو أعم من المتلوة وغيرها بحكم عموم الوحي الجلي والخفي ، أو لأن كل ما صدر عن صدره فهو آية دالة على رسالته ، فإن ظهور مثل هذه العلوم من الأمي معجزة والله أعلم . قال الطيبي : وفي الحديث فوائد ، منها : التحريض على نشر العلم ، ومنها : جواز تبليغ بعض الحديث كما هو عادة صاحب المصابيح والمشارق ولا بأس به ، إذ المقصود تبليغ لفظ الحديث مفيدا سواء كان تاما أم لا . ( وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) . الحرج : الضيق والإثم وهذا ليس على معنى إباحة الكذب عليهم ، بل دفع لتوهم الحرج في التحديث عنهم وإن لم يعلم صحته وإسناده لبعد الزمان كذا في شرح السنة ، وتبعه زين العرب ، وأشار إليه المظهر وهو مقيد بما إذا لم نر كذب ما قالوه علما أو ظنا . قال السيد جمال الدين : ووجه التوفيق بين النهي عن الاشتغال بما جاء عنهم ، وبين الترخيص المفهوم من هذا الحديث أن المراد بالتحدث هاهنا التحدث بقصص من الآيات العجيبة ، كحكاية عوج بن عنق ، وقتل بني إسرائيل أنفسهم في توبتهم من عبادة العجل ، وتفصيل القصص المذكورة في القرآن لأن في ذلك عبرة وموعظة لأولي الألباب ، وأن المراد بالنهي هناك النهي عن نقل أحكام كتبهم لأن جميع الشرائع والأديان منسوخة بشريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم . ا هـ . لكن قال ابن قتيبة : وما روي عن عوج أنه رفع جبلا قدر عسكر موسى عليه السلام وهم كانوا ثلاثمائة ألف ليضعه عليهم ، فنقره هدهد بمنقاره وثقبه ووقع في عنقه ، فكذب لا أصل له كذا نقله الأبهري ، وروى الفقيه أبو الليث السمرقندي بإسناده في تنبيه الغافلين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنه قد كانت فيهم أعاجيب " ثم أنشأ يحدث أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : خرجت طائفة من بني إسرائيل حتى انتهوا إلى مقبرة فقالوا : لو صلينا ثم دعونا ربنا حتى يخرج الله لنا بعض الموتى فيخبرنا عن الموت ففعلوا ذلك ، ثم دعوا ربهم ، فبينا هم كذلك إذا رجل قد أطلع رأسه من قبره وهو أسود خلا شيبا أي بياض رأسه يخالط سواده وقال : يا هؤلاء ما أردتم ، فوالله لقد مت منذ تسعين سنة ، فما ذهبت مرارة الموت مني حتى كأنه الآن ، فادعوا الله أن يعيدني كما كنت ، وكان بين عينيه أثر السجود . ( ومن كذب علي ) ، قال الكرماني : معنى كذب عليه نسب الكلام كاذبا إليه سواء كان عليه أو له ا هـ .

وبهذا يندفع زعم من جوز وضع الأحاديث للتحريض على العبادة ، كما وقع لبعض الصوفية الجهلة في وضع أحاديث في فضائل السور ، وفي الصلاة الليلية والنهارية وغيرهما ، والأظهر أن تعديته ب " علي " لتضمين معنى الافتراء ( متعمدا ) : نصب على الحال وليس حالا مؤكدة ، لأن الكذب قد يكون من غير تعمد ، وفيه تنبيه على عدم دخول النار فيه ( فليتبوأ مقعده من النار ) : يقال : تبوأ الدار إذا اتخذها مسكنا وهو أمر معناه الخبر يعني : فإن الله يبوئه وتعبيره بصيغة الأمر للإهانة ، ولذا قيل : الأمر فيه للتهكم والتهديد ، إذ هو أبلغ في التغليظ والتشديد من أن يقال : كان مقعده في النار ، ومن ثم كان ذلك كبيرة ، بل قال الشيخ أبو محمد الجويني : إنه كفر يعني لأنه يترتب عليه الاستخفاف بالشريعة ، ويؤخذ من الحديث أن من قرأ حديثه وهو يعلم أنه يلحن فيه ، سواء كان في أدائه أو إعرابه يدخل في هذا الوعيد الشديد ، لأنه بلحنه كاذب عليه ، وفيه إشارة إلى أن من نقل حديثا وعلم كذبه يكون مستحقا للنار إلا أن يتوب ، لا من نقل عن راو عنه عليه السلام ، أو رأى في كتاب ولم يعلم كذبه .

[ ص: 282 ] قال الطيبي : فيه إيجاب التحرز عن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يحدث عنه إلا بما يصح بنقل الإسناد . قال ابن حجر : وما أوهمه كلام شارح من حرمة التحديث بالضعيف مطلقا مردود ا هـ . والظاهر أن مراد الطيبي بقوله " إلا بما يصح " - الصحة اللغوية التي بمعنى الثبوت لا الاصطلاحية وإلا لأوهم حرمة التحديث بالحسن أيضا ولا يحسن ذلك ، ولا يظن به هذا ، إذ من المعلوم أن أكثر الأحاديث الدالة على الفروع حسان ، ومن المقرر أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال ، فيتعين حمل كلامه على ما ذكرناه ، وكلامه أيضا مشعر بذلك إذ لم يقل بنقل الإسناد الصحيح ، ولكنه موهم أنه لابد من ذكر الإسناد وليس كذلك ، لأن المراد أنه لا يحدث عنه إلا بما ثبت عنه ، وذلك الثبوت إنما يكون بنقل الإسناد ، وفائدته أنه لو روى عنه ما يكون معناه صحيحا لكن ليس له إسناد فلا يجوز أن يحدث به عنه ، واللام في الإسناد للعهد ، أي : الإسناد المعتبر عند المحدثين ، وإلا فقد يكون للحديث الموضوع إسناد أيضا . قال عبد الله بن المبارك : الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء .

قال ابن حجر : ولكون الإسناد يعلم به الموضوع من غيره كانت معرفته من فروض الكفاية . قيل : " بلغوا عني " يحتمل وجهين : أحدهما : اتصال السند بنقل الثقة عن مثله إلى منتهاه لأن التبليغ من البلوغ وهو إنهاء الشيء إلى غايته . والثاني : أداء اللفظ كما سمع من غير تغيير ، والمطلوب في الحديث كلا الوجهين لوقوع بلغوا مقابلا لقوله : حدثوا عن بني إسرائيل . ( رواه البخاري ) أي : مجموع الحديث . وكذا رواه أحمد ، والترمذي . وأما قوله : من كذب إلخ . فرواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود والحاكم والطبراني والدارقطني والخطيب وابن عدي وغيرهم ، عن جمع كثير من الصحابة . قال ابن الصلاح : حديث " من كذب علي " من المتواتر ، وليس في الأحاديث ما في مرتبته من التواتر ، فإن ناقليه من الصحابة جم غفير .

قيل : اثنان وستون من الصحابة فيهم العشرة المبشرة ، وقيل : لا نعرف حديثا اجتمع فيه العشرة إلا هذا ، ثم عدد الرواة كان في التزايد في كل قرن .




الخدمات العلمية