الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1863 [ ص: 357 ] ( 8 ) باب ما جاء في إضاعة المال وذي الوجهين

                                                                                                                        1869 - مالك عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله يرضى لكم ثلاثا ، ويسخط لكم ثلاثا ، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ، ويسخط لكم قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال " .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        41443 - هكذا روى يحيى هذا الحديث مرسلا ، وتابعه القعنبي ، وابن وهب ، وابن القاسم ، ومعن بن موسى ، ومحمد بن المبارك الصوري .

                                                                                                                        41444 - ورواه ابن بكير ، وأبو المصعب ، ومصعب الزبيري ، وعبد الله بن يوسف التنيسي ، وابن عفير ، وأكثر الرواة عن مالك عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، مسندا .

                                                                                                                        41445 - وكذلك رواه جماعة عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مسندا .

                                                                                                                        [ ص: 358 ] 41446 - وعند مالك فيه إسناد آخر ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة .

                                                                                                                        41447 - وهو غريب ، قد ذكرته في " التمهيد " من طرق عنه .

                                                                                                                        41448 - قال أبو عمر : في هذا الحديث الأمر بالإخلاص في العبادة والتوحيد ، والحض على الاعتصام بحبل الله .

                                                                                                                        41449 - وقد اختلف في معنى حبل ; فقيل : القرآن . وقيل : الجماعة والخلافة ، والمعنى في ذلك متداخل ; لأن كتاب الله يأمرنا بالائتلاف وينهى عن الفرقة والاختلاف .

                                                                                                                        41450 - وقد ذكرنا في " التمهيد " من قال من العلماء بالقولين جميعا .

                                                                                                                        41451 - وقد روي عن ابن مسعود القولان جميعا .

                                                                                                                        41452 - روى منصور ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، في قوله : واعتصموا بحبل الله جميعا [ آل عمران : 103 ] قال : حبل الله هو الصراط المستقيم ، كتاب الله .

                                                                                                                        41453 - وروى أبو حصين ، عن الشعبي ، عن ثابت بن قطبة ، قال : قال عبد الله بن مسعود في خطبته : أيها الناس ، عليكم بالطاعة والجماعة ; فإنها حبل [ ص: 359 ] الله الذي أمر ، وأن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة .

                                                                                                                        41454 - قال أبو عمر : هذا التأويل أظهر في معنى حديث هذا الباب . والله أعلم .

                                                                                                                        41455 - قال ابن المبارك - رحمه الله :

                                                                                                                        إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا لولا الخلافة لم تؤمن لنا سبل
                                                                                                                        وكان أضعفنا نهبا لأقوانا



                                                                                                                        41456 - في أبيات قد ذكرتها في " التمهيد " .

                                                                                                                        41457 - وفي حديث زيد بن ثابت ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ثلاث لا يغل عليهن ; قلب امرئ مسلم ، إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم الجماعة ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " .

                                                                                                                        41458 - وقد روى هذا اللفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جبير بن مطعم ، وعبد الله بن مسعود ، وأنس بن مالك ، كما رواه زيد بن ثابت .

                                                                                                                        41459 - وقد ذكرنا أحاديثهم من طرق ، في كتاب " بيان العلم وفضله " ، [ ص: 360 ] وفي كتاب " التمهيد " أيضا ، في معنى قوله : " ثلاث لا يغل عليهن ; قلب امرئ مسلم " . أي لا يكون القلب المعتقد لهن غليلا .

                                                                                                                        41460 - وفي هذا الباب حديث عجيب بمعنى حديث سهيل ، رواه الحارث الأشعري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قد ذكرته بطوله في " التمهيد " .

                                                                                                                        41461 - وروى ابن عباس ، وأبو ذر ، وأبو هريرة ، بمعنى واحد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " من خرج عن الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات على ذلك ، فميتته جاهلية " .

                                                                                                                        41462 - ومن حديث ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من نزع يدا من طاعة ، ومات ولا طاعة عليه ، كانت ميتته ضلالة ، ولا حجة له " .

                                                                                                                        41463 - ومن حديث النعمان بن بشير ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " الجماعة رحمة ، والفرقة عذاب " .

                                                                                                                        [ ص: 361 ] 41464 - والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا ، وقد ذكرت كثيرا منها في " التمهيد " ، وتكلمت بما أحضرني في معانيها .

                                                                                                                        41465 - وأما مناصحة ولاة الأمر ، فلم يختلف العلماء في وجوبها ; إذا كان السلطان يسمعها ويقبلها ، ولما رأى العلماء أنهم لا يقبلون نصيحا ، ولا يريدون من جلسائهم إلا ما وافق هواهم ، زاد البعد عنهم ، والفرار منهم .

                                                                                                                        41466 - قال حذيفة بن اليمان : إذا كان والي القوم خيرا منهم ، لم يزالوا في عليا ، وإذا كان واليهم شرا منهم ، لم يزدادوا إلا سفالا .

                                                                                                                        41467 - حدثنا ابن خليفة ، قال : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الحميد ، قال : حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن وهب ، عن أنس بن مالك ، قال : كان الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهوننا عن سب الأمراء .

                                                                                                                        41468 - وبه عن يحيى بن يمان ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، قال : ما سب قوم أميرهم ، إلا حرموا خيرهم .

                                                                                                                        [ ص: 362 ] 41469 - وقد أشبعنا معنى الطاعة والنصيحة للولاة ، وكيف العمل في ذلك ، عند العلماء ، وما يجب للإمام على الرعية من ذلك ، ويجب عليه ويلزمه لهم ، بالآثار المرفوعة ، وأقاويل السلف ، في " التمهيد " ، والحمد لله ، وأما قوله : " ويكره لكم قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال " .

                                                                                                                        41470 - فالمعنى في : " قيل وقال - والله أعلم - الخوض في أحاديث الناس التي لا فائدة فيها ، وإنما جلها الغلط ، وحشو ، وغيبة ، وما لا يكتب فيه حسنة ، ولا سلم القائل والمستمع فيه من سيئه .

                                                                                                                        41471 - قال الشاعر :

                                                                                                                        ومن لا يملك الشفتين يسحق بسوء اللفظ من قيل وقال



                                                                                                                        41472 - وقال أبو العتاهية :

                                                                                                                        عليك ما يعنيك من كل ما ترى وبالصمت إلا عن جميل تقوله
                                                                                                                        تزود من الدنيا بزاد من التقى فكل بها ضيف وشيك رحيله


                                                                                                                        41473 - وأما قوله : " وإضاعة المال " ، فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال :

                                                                                                                        41474 - أحدها : أن المال أريد به ملك اليمين من العبيد والإماء والدواب ، وسائر الحيوان الذي في ملكه ، أن يحسن إليه ولا يضيعهم فيضيعوا .

                                                                                                                        [ ص: 363 ] 41475 - وهو قول السري بن إسماعيل ، عن الشعبي .

                                                                                                                        41476 - واحتج من ذهب هذا المذهب بحديث أنس ، وأم سلمة ، أن عامة وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حين حضرته الوفاة ، كانت قوله : " الله ، الله ، الصلاة ، الصلاة ، وما ملكت أيمانكم " .

                                                                                                                        41477 - والقول الثاني : إضاعة المال : ترك إصلاحه ، والنظر فيه ، وتنميته وكسبه .

                                                                                                                        41478 - واحتج من قال بهذا القول - قيس بن عاصم المنقري لبنيه ، حين حضرته الوفاة : يا بني ، عليكم بكسب المال واصطناعه ، فإن فيه منبهة للكريم ، ويستغنى به عن اللئيم .

                                                                                                                        41479 - ويقول عمرو بن العاص ، في خطبته حيث قال : يا معشر الناس ، إياكم وخلالا أربعة تدعو إلى النصب بعد الراحة ، وإلى الضيق بعد السعة ، وإلى المذلة بعد العز ، إياكم وكثرة العيال ، وإخفاض الحال ، والتضييع للمال ، والقيل والقال في غير درك ولا نوال .

                                                                                                                        41480 - القول الثالث : إضاعة المال : إنفاقه في غير حقه من الباطل والإسراف والمعاصي . وهذا هو الصواب عند ذوي الدين والألباب .

                                                                                                                        41481 - روى ابن وهب ، قال : حدثنا إبراهيم بن نشيط ، قال : سألت عمر مولى عفرة ، عن الإسراف ما هو ؟ فقال : كل شيء أنفقته في غير طاعة الله ، [ ص: 364 ] وفي غير ما أباحه الله ، فهو إسراف وإضاعة للمال .

                                                                                                                        41482 - وروى أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن محمد بن سوقة ، عن سعيد بن جبير ، أنه سأله رجل عن إضاعة المال ، فقال : أن يرزقك الله رزقا فتنفقه في ما حرم الله عليك .

                                                                                                                        41483 - وهكذا قال مالك - رحمه الله - وأما قوله : " وكثرة السؤال " : ففيه قولان : أحدهما : كثرة السؤال عن المسائل النوازل المعضلات ، في معاني الديانات . والآخر : كثرة السؤال في الاستكثار من المال والكسب بالسؤال .

                                                                                                                        41484 - وأما الوجه الأول ، فقد أوضحناه بالآثار في كتاب " العلم " ، وسيأتي معنى السؤال للمال في موضعه من هذا الكتاب بعد ، إن شاء الله - تعالى - .

                                                                                                                        41485 - وقد روى ابن وهب ، وابن القاسم ، وأشهب ، بمعنى واحد ، عن مالك ، أنه قال : أما نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كثرة السؤال ، فلا أدري أهو الذي أنهاكم عنه من كثرة المسائل فقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثرة المسائل ، وعابها ، أم هو مسألتك الناس .

                                                                                                                        41486 - قال أبو عمر : كان أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وجماعة من [ ص: 365 ] السلف يكرهون السؤال في العلم ، عن ما لم ينزل ، ويقولون : إن النازلة إذا نزلت المسئول عنها ، وكانوا يجعلون الكلام في ما لم ينزل تكلفا ، ويتلو بعضهم قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ] .

                                                                                                                        41487 - حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري ، قال : سمعت مالك بن أنس يقول : أدركت أهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة ، فإذا نزلت نازلة ، جمع لها الأمير من حضر من العلماء ، فما اتفقوا عليه من شيء أنفذه ، وأنتم تكثرون من المسائل ، وقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها .

                                                                                                                        41488 - قال أبو عمر : من نزل النوازل من الفقهاء وأجاب فيها ، كأبي حنيفة ، وربيعة ، وعثمان البتي ، ومن جرى مجراهم ممن استعمل الرأي ، قالوا : رأينا لمن بعدنا خير من رأيهم لأنفسهم .

                                                                                                                        41489 - وقد روي هذا عن الحسن - رحمه الله - .

                                                                                                                        41490 - وأما صعاب المسائل وما عسى ألا ينزل ، فهو باب إلى النظر ، وإلى التكسب ، وإلى التحفظ من الخصم ومخادعته ، فهذا مكروه عند جميعهم .

                                                                                                                        41491 - حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا إبراهيم بن موسى ، قال : حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : [ ص: 366 ] 41492 - حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قالا : حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ، عن عبد الله بن سعد ، عن الصنابحي ، عن معاوية بن أبي سفيان ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأغلوطات .

                                                                                                                        41493 - قال الأوزاعي : يعني صعاب المسائل .

                                                                                                                        41494 - وحدثنا أحمد بن مطرف ، قال : حدثني سعيد بن عثمان ، قال : حدثني نصر بن مرزوق ، قال : حدثني أسيد بن موسى ، قال : حدثني شريك ، عن ليث ، عن طاوس ، عن ابن عمر ، قال : لا تسألوا عما لم يكن ، فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن .

                                                                                                                        41495 - قال أبو عمر : هذا باب قد أوضحناه وبسطناه بالآثار عن السلف في كتاب " بيان العلم وفضله " بما فيه شفاء للناظر فيه ، والحمد لله .

                                                                                                                        41496 - وأما قوله الثاني ، فكأنه أقرب إلى معنى إضاعة المال ، وهو سؤال الناس أموالهم ، والتكسب بالمسألة ، فهذا مكروه عند جماعة العلماء ، وسنبين ذلك في ما بعد إن شاء الله .

                                                                                                                        41497 - ومما يدل على أن السؤال في المال أقرب وأشبه لمعنى الحديث ، ما رواه المغيرة بن شعبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        41498 - أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى ، قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا أبي ، قال : [ ص: 367 ] حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا غير واحد منهم ; منهم مغيرة ، عن الشعبي ، عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة ، أن معاوية كتب إلى المغيرة : اكتب لي بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكتب إليه المغيرة : إنني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند انصرافه من الصلاة : " لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير " ، ثلاث مرات ، وكان ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال ، ومنع وهات ، وعقوق الأمهات ، ووأد البنات .




                                                                                                                        الخدمات العلمية