الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          ولا تصح الصلاة في المقبرة ، والحمام ، والحش ، وأعطان الإبل ، وهي التي تقيم فيها وتأوي إليها ، والموضع المغصوب ، وعنه : تصح مع التحريم ، وقال بعض أصحابنا : حكم المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق وأسطحتها كذلك ، وتصح الصلاة إليها إلا المقبرة والحش في قول ابن حامد ، ولا تصح الفريضة في الكعبة ، ولا على ظهرها ، وتصح النافلة ، إذا كان بين يديه شيء منها .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          ( ولا تصح الصلاة في المقبرة ) هي بتثليث الباء ، لكن بفتحها هو القياس ، وبضمها المشهور ، وبكسرها قليل ، والشيء إذا كثر في مكان جاز أن يبنى من اسمه كقولهم : أرض مسبعة إذا كثر فيها السباع ( والحمام ) مشدد واحد الحمامات المبنية ( والحش ) بفتح الحاء وضمها البستان ، ويطلق على المخرج ، لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين ، وهي الحشوش ، فسميت الأخلية في الحضر حشوشا بذلك ( وأعطان الإبل ) واحدها عطن بفتح الطاء ، وهي المعاطن الواحد معطن بكسرها ( وهي التي تقيم فيها ، وتأوي إليها ) قاله أحمد ، وقيل : مكان اجتماعها إذا صدرت عن المنهل ، زاد بعضهم : وما تقف فيه لترد الماء ، قال في " المغني " و " الشرح " : والأول أجود ، لأنه جعله في مقابلة مراح الغنم لا نزولها في سيرها . قال جماعة : أو لعلفها للنهي ، وما ذكره من عدم صحة الصلاة في هذه المواضع هو المجزوم به في المذهب ، وعليه الأصحاب ، لما روى أبو سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : جعلت لي الأرض كلها مسجدا ، إلا المقبرة والحمام رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصحح أنه مرسل ، وابن حبان ، والحاكم ، وقال : أسانيده صحيحة ، وقال ابن حزم : خبر صحيح ، وعن سمرة بن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك رواه مسلم ، وعن البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في مبارك الإبل رواه أحمد ، وأبو داود ، وصححه أحمد ، وإسحاق ، وقال ابن خزيمة : لم نر خلافا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح ، والمنع منها تعبد ، فيتناول ما يقع [ ص: 394 ] عليه الاسم ، وفي آخر بأنها مظنة النجاسة ، فأقيمت مقامها ، وظاهره أن صلاة الجنازة لا تصح في المقبرة كغيرها ، وهو إحدى الروايات ، قدمه في " الرعاية " وعنه : يكره ، ذكرها السامري ، وفي ثالثة ، وهي المذهب : صحتها فيها من غير كراهة ، فعلى هذا يستثنى ، ولا فرق فيها بين القديمة والجديدة ، تكرر نبشها أو لا ، ولا يضر قبران ، لأنه لا يتناولها الاسم ، وقيل : بلى ، واختاره الشيخ تقي الدين . قال في " الفروع " : وهو أظهر ، بناء على أنه هل تسمى مقبرة أم لا ، وظاهر كلامهم أن الخشخاشة فيها جماعة قبر واحد ، فلا تمنع كما لو دفن بداره موتى ، ونص أحمد ، وهو المذهب : أنه لا يصلى في مشلح حمام ، ومثله أتونه ، وما تبعه في بيع ، وكره أحمد الصلاة فوق الحمام ، والصحيح : قصر النهي على ما يتناوله النص ، وأن الحكم لا يتعدى إلى غيره ، لأن الحكم إن كان تعبدا لم يقس عليه ، وإن علل فإنما يعلل بمظنة النجاسة ، ولا يتخيل هذا في أسطحتها ، لكن يصلى فيها للعذر ، وفي الإعادة روايتان ، وظاهره أنه لا يصلي فيها من أمكنه الخروج ، ولو فات الوقت ، والحش ثبت الحكم فيه بالتنبيه لكونه معدا للنجاسة ، ومقصودا لها ؛ ولأنه قد منع من ذكر الله تعالى ، ومن الكلام فيه ، فمنع الصلاة فيه أولى ، وقال في " المغني " : لا أعلم فيه نصا ( والموضع المغصوب ) على المذهب ، لأنها عبادة أتى بها على الوجه المنهي عنه ، فلم تصح كصلاة الحائض ، ولا فرق في الغصب بين دعوى الملك أو المنفعة ، ويلحق به ما إذا أخرج ساباطا في موضع لا يحل له ، أو غصب راحلة وصلى عليها ، أو سفينة أو لوحا فجعله سفينة ، وصلى عليه ، أو مسجدا وغيره عن هيئته ، أو بسط طاهرا على أرض [ ص: 395 ] مغصوبة أو مغصوبا على أرض مباحة ، فإن لم يغير المسجد عن هيئته ، بل منع الناس الصلاة فيه ، فصلاته فيه صحيحة مع الكراهة في الأصح ، ولا يضمنه بذلك ، فإن كانت الأبنية مغصوبة ، والبقعة حلالا فروايتان ، وقيل : هذا إن استند إليها ، وإلا كرهت وصحت ، فإن صلى في أرض غيره بلا إذنه ، أو صلى على مصلاه بلا إذنه ، ولم يغصبه ، أو أقام غيره من المسجد وصلى فيه ، فوجهان ، ويستثنى منه الجمعة ، فإنها تصح في موضع غصب ، نص عليه ، لأنها تختص ببقعته ، وفي طريق ضرورة وحافتيها ، نص عليها ، وعلى راحلة فيها ، وذكر جماعة ، وطريق أبيات يسيرة ، وكذا عيد وجنازة ، جزم به في " الشرح " وقيل : وكسوف ، واستسقاء ( وعنه : تصح ) في هذه المواضع لما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته متفق عليه ، ولأنه موضع طاهر ، فصحت الصلاة فيه كالصحراء ، ولم ينقل عن أحد من العلماء أنهم أمروا بإعادتها ، ولأن النهي لمعنى في غير الصلاة ، أشبه ما لو صلى ، وفي يده خاتم ذهب ( مع التحريم ) للنهي ، وعنه : مع الكراهة وفاقا ، وعنه : لا تصح إن علم النهي لخفاء دليله ، وقيل : إن خاف فوت الوقت صحت .



                                                                                                                          ( وقال بعض أصحابنا : حكم المجزرة ) وهي ما أعد للذبح ( والمزبلة ) أي : مرمى الزبالة ، وإن كانت طاهرة ( وقارعة الطريق ) أي : التي تقرعها الأقدام مثل الأسواق والشوارع ، دون ما علا عن جادة المارة يمنة ويسرة ، نص عليه ، وألحق صاحب " الروضة " بذلك المدبغة ، والمذهب خلافه ( وأسطحتها كذلك ) أي : لا تصح الصلاة فيها في اختيار الأكثر ، وجزم به في " الوجيز " وصححه ابن [ ص: 396 ] الجوزي ، وفي " الفروع " وقدمه في " المحرر " وغيره ، لما روى ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلى في سبع مواطن : المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، وفي الحمام ، وفي معاطن الإبل ، وفوق ظهر بيت الله رواه ابن ماجه ، ، والترمذي ، وقال : ليس إسناده بالقوي ، وقد رواه الليث بن سعد عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر مرفوعا ، وعلم منه أن الصلاة تصح فيها ، وهو الصحيح عنده ، وهو قول أكثر العلماء ، ويحتمله كلام الخرقي ، لأنه لم يذكرها ، ولعموم الأحاديث الصحيحة ، واستثنى في بعضها المقبرة والحمام ، فيبقى فيما عداها على العموم ، مع أن حديث ابن عمر يرويه زيد بن جبيرة ، ، وعبد الله بن عمر العمري ، وقد تكلم فيهما من قبل حفظهما ، وفي لفظ ومحجة الطريق بدل قارعة ، وهي الطريق الجادة المسلوكة في السفر ، وليس المراد كل طريق ، لأنه لا يخلو موضع من المشي فيه ، ولهذا ذكر ابن تميم ، وصاحب " الشرح " لا بأس بطرق الأبيات القليلة .



                                                                                                                          تنبيه : أسطحة مواضع النهي كهي عند أحمد ، وأكثر الأصحاب ، لأن الهواء تابع للقرار بدليل الجنب يمنع من اللبث على سطح المسجد ، ويحنث بدخول سطح الدار إذا حلف لا يدخلها ، فيعود الضمير إلى الكل ، وهو ظاهر " المغني " وظاهر كلامه هنا أن الأسطحة لا يكون لها حكم القرار ، وصححه في " المغني " و " الشرح " لما ذكرنا ، قال أبو الوفاء : لا سطح نهر ، لأن الماء لا يصلى عليه ، [ ص: 397 ] واختار أبو المعالي وغيره الصحة ، كالسفينة ، قال : ولو جمد الماء فكالطريق ، وذكر بعضهم الصحة .

                                                                                                                          ( وتصح الصلاة إليها ) مع الكراهة ، نص عليه ، وجزم به في " الوجيز " وقدمه جماعة لقوله عليه السلام : وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ( إلا المقبرة ) اختاره الشيخان ، قال في " الفروع " : وهو أظهر لما روى أبو مرثد الغنوي أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تصلوا إلى القبور ، ولا تجلسوا إليها رواه مسلم ( والحش في قول ابن حامد ) وهو رواية عن أحمد ، وقيل : وحمام ، وشرطه لا حائل ، ولو كمؤخرة الرحل ، وظاهره ليس كسترة صلاة ، فيكفي الخط ، بل كسترة المتخلي ، ولا يضر بعد كثير عرفا ، وعنه : لا يكفي حائط المسجد ، جزم به جماعة ، لكراهة السلف الصلاة في مسجد في قبلته حش ، وتأول ابن عقيل النص على سراية النجاسة تحت مقام المصلي ، واستحسنه صاحب " التلخيص " وعنه : لا يصلي إلى ذلك ، وقارعة الطريق فإن فعل ، فقال أبو بكر : في الإعادة قولان ، والصحيح أن الإعادة على الجميع ، قاله ابن تميم وغيره ، واختار أبو بكر خلافه ، قال القاضي : يقاس على ذلك سائر مواضع النهي إلا الكعبة ، وفيه نظر ، لأن النهي عنده تعبد ، وشرطه فهم المعنى .



                                                                                                                          تذنيب : مازال اسمه مما نهي عنه زال المنع منه في الأشهر ، والمصلي في مسجد بني في مقبرة ، كالمصلي فيها ، لأنه لا يخرج بذلك عن أن يكون مقبرة ، لكن إن حدث حول المسجد لم يمنع الصلاة فيه ، زاد في " الشرح " : بغير خلاف ؛ لأنه لم يبع ما حدث بعده ، وكذا إن حدث في قبلته فهو كالمصلي إليها .

                                                                                                                          [ ص: 398 ] مسألة : تصح الصلاة في أرض السباخ على الأصح ، وفي " الرعاية " يكره كأرض الخسف ، نص عليه ، لأنه موضع مسخوط عليه ، ولا تصح في عجلة سائرة ، ولا أرجوحة تحرك ، لأنه ليس بمستقر القدمين على الأرض ، كما لو سجد على بعض أعضاء السجود ، وترك الباقي معلقا ، وفيه وجه ، وقدم في " الشرح " أنها تصح على العجلة إذا أمكنه ذلك ، والمربوط في الهواء يومئ .



                                                                                                                          ( ولا تصح الفريضة في الكعبة ، ولا على ظهرها ) هذا هو المشهور ، وجزم به أكثر الأصحاب لقوله تعالى وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره [ البقرة : 144 ] وللخبر .

                                                                                                                          والمصلي فيها أو عليها غير مستقبل لجهتها ، ولأن المصلي فيها يستدبر منها ما يصلح أن يكون قبلة مع القدرة ، وذلك يبطل الفرض ، والمصلي عليها ليس مصليا ، وقد أمر بالصلاة إليها ، وظاهره لا فرق بين أن يسجد على منتهى الكعبة أو يقف عليه أو لا ، ذكره ابن هبيرة ، وصاحب " التلخيص " وجزم في " المحرر " وهو ظاهر كلام أحمد أنه إذا وقف على منتهاها ، بحيث إنه لم يبق وراءه شيء منها أو قام خارجها وسجد فيها فإنه يصح ، لأنه استقبله ، ولم يستدبر منه شيئا ، كما لو صلى إلى أحد أركانه ، وظاهر كلام الأكثر بخلافه ، وعنه : يصح ، وهو ظاهر ما قدمه في " الكافي " واختاره الآجري كمن نذر الصلاة فيها ، وعنه : مع الكراهة ، وعنه : إن جهل النهي لأنه معذور ( وتصح النافلة ) فيها على الأصح ، وعليها لا نعلم فيه خلافا قاله في " المغني " و " الشرح " لما روى ابن عمر قال : دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت هو ، وأسامة بن زيد ، وبلال ، وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم ، فلما فتحوا كنت أول من ولج ، فلقيت بلالا فسألته : هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : نعم بين العمودين اليمانيين متفق عليه .

                                                                                                                          [ ص: 399 ] لا يقال : فابن عباس قال : لم يصل فيها ، لأنه نفي ، والإثبات مقدم عليه ، خصوصا ممن كان حاضر القصة ، ولأن مبناها على التخفيف والمسامحة ، بدليل صحتها قاعدا ، أو إلى غير القبلة على الراحلة ، وقدم في " الرعاية " أنه لا يصح نفل فوقها في الأصح ، ويصح فيها على الأصح ، واقتصر جماعة على الصحة هنا ، وشرطها ( إذا كان بين يديه شيء منها ) ليكون مستقبلا بعضها ، فعلى هذا لو صلى إلى جهة الباب أو على ظهرها ، ولا شاخص متصل بها ، لم يصح ، وذكره في " الشرح " عن الأصحاب لأنه غير مستقبل بشيء منها ، فإن لم يكن شاخصا ، فوجهان ، قال في " المغني " : والأولى أنه لا يشترط كون شيء منها بين يديه ، لأن الواجب استقبال موضعها وهوائها دون حيطانها ، بدليل ما لو انهدمت والعياذ بالله تعالى ، ولهذا تصح على أبي قبيس فإنه أعلى منها ، وقيل : لا تصح على ظهرها ، وقيل : لا تصح فيها إن نقض البناء ، وصلى إلى الموضع ، والحجر منها ، نص عليه ، وهو ستة أذرع وشيء فيصح التوجه إليه ، وقال ابن حامد ، وابن عقيل : لا ، وقاله أبو المعالي في المكي ، ويسن النفل فيه ، والفرض كداخلها في ظاهر كلامهم .

                                                                                                                          مسألة : يستحب نفله فيها ، وعنه : لا ، ونقل الأثرم : يصلي فيها إذا دخل وجاهة ، كذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصلي حيث شاء ، ونقل أبو طالب يقوم كما قام عليه السلام بين الأسطوانتين .




                                                                                                                          الخدمات العلمية