الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية الرابعة والثلاثون :

                                                                                                                                                                                                              قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين } .

                                                                                                                                                                                                              وإنما نظمناها ; لأنها في قصة واحدة ; وهذه الآية من المشكلات ، وقد عسر القول فيها على المتبحرين ، فأما الشادون فالحجاب بيننا وبينهم معزف ، والسبيل الموصلة إليها لا تعرف ، وما زلنا مدة الطلب نقرع بابها ونجذب حجابها إلى أن فتح الله تعالى منها بما سردناه لكم وجلوناه عليكم في تسع وثلاثين مسألة : [ ص: 231 ]

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى : في سبب نزولها : وفيه روايات مختلفة من طرق كثيرة لو سردناها بطرقها ، وسطرناها بنصوصها ، وكشفنا عن أحوال رواتها بالتجريح والتعديل لاتسع الشرح ، وطال على القارئ البرح ، فلذا نذكر لكم من ذلك أيسره وورد في الكتاب الكبير أكثره ، فنقول : روى الترمذي عن محمد بن إسحاق عن أبي النضر عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس ، { عن تميم الداري في هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } برئ منها الناس غيري وغير عدي بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ، فأتيا الشام لتجارتهما ، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارته ، ومعه جام فضة يريد به الملك ، وهو عظم تجارته ، فمرض ، فأوصى إليهما ، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله . قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ، ثم اقتسمناها أنا وعدي بن بداء ، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا ، وفقدوا الجام ، فسألونا عنه ، فقلنا : ما ترك غير هذا ، وما دفع إلينا غيره . قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله ، فأخبرتهم الخبر ، وأديت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة ، فلم يجدوا ، فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه ، فحلف فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا } إلى قوله تعالى : { أيمان بعد أيمانهم } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا ، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء } . قال أبو عيسى : هذا حديث غريب ، وليس إسناده بصحيح .

                                                                                                                                                                                                              وقد روي شيء من هذا عن ابن عباس على الاختصار قال : { خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء ، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم ، فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب ، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجدوا [ ص: 232 ] الجام بمكة ، فقالوا : اشتريناه من عدي بن بداء وتميم ، فقام رجلان من أولياء السهمي ، فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وإن الجام لصاحبهم . قال : وفيهم نزلت : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } } . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب ، وكذلك خرجه البخاري بلفظه والدارقطني فهو صحيح .

                                                                                                                                                                                                              وذكر يحيى بن سليمان الجعفي صاحب التفسير الكبير ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا الكلبي أن أبا صالح حدثه عن ابن عباس أنه قال : { وأما قوله : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } . قال : بلغنا والله أعلم أنها نزلت في مولى من موالي قريش ، ثم لآل العاص بن وائل انطلق في تجارة نحو الشام ، ومعه تميم بن أوس الداري وعدي بن بداء ، ويروى بيداء ، وهما نصرانيان يومئذ ، فتوفي المولى في مسيره ; فلما حضره الموت كتب وصيته ثم جعلها في ماله ومتاعه ، ثم دفعها إليهما ، وقال لهما : أبلغا أهلي مالي ومتاعي ; فانطلقا لوجههما الذي توجها إليه ، ففتشا متاع المولى المتوفى بعد موته ، فأخذا ما أعجبهما منه ، ثم رجعا بالمال والمتاع الذي بقي إلى أهل الميت فدفعاه إليهم ، فلما فتش القوم المال والمتاع الذي بقي فقدوا بعض ما خرج به صاحبهم معه من عندهم ، فنظروا إلى الوصية وهي في المتاع فوجدوا المال والمتاع فيهما مسمى ، فدعوا تميما وصاحبه ، فقالوا لهما : هل باع صاحبنا شيئا مما كان عنده أو اشترى ؟ فقالوا : لا . قالوا : فهل مرض فطال مرضه فأنفق منه على نفسه ؟ قالوا : لا . قالوا : فإنا نفقد بعض الذي مضى به صاحبنا معه . قالوا : ما لنا عما مضى به من علم ، ولا بما كان في وصيته ; ولكن دفع إلينا هذا المال والمتاع ، فبلغناكموه كما دفعه إلينا . فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكروا له الأمر ، فنزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } إلى { الآثمين } فقاما فحلفا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إدبار صلاة العصر ، فخلى سبيلهما ، ثم طلعوا بعد ذلك على إناء من فضة منقوش مموه بالذهب عند تميم الداري ، فقالوا : هذا من آنية صاحبنا التي مضى بها معه ، وقد قلتما [ ص: 233 ] إنه لم يبع من متاعه شيئا ، فقالا : إنا كنا قد اشتريناه منه ، فنسينا أن نخبركم به ; فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما } إلى { الفاسقين } فقام رجلان من أولياء السهمي ، فحلفا بالله إنه في وصيته ، وإنها لحق ، ولقد خانه تميم وعدي . فأخذ تميم وعدي بكل ما وجد في الوصية لما اطلع عندهما من الخيانة } .

                                                                                                                                                                                                              وقد ذكره مقاتل بن حبان عن الحسن ، وعن الضحاك ، وعن ابن عباس نحوه إلا أنه قال : { ركبوا البحر مع المولى بمال معلوم ، وقد علمه أولياؤه وعرفوه من بين آنية وورق وهي الفضة ، فمرض المولى ، فجعل وصيته إلى تميم وعدي النصرانيين ، وذكر معنى ما تقدم ، وقال : أمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاما بعد صلاة العصر ، فحلفا بالله رب السموات ورب الأرض ما ترك مولاكم من المتاع إلا ما أتيناكم به ، وإنا لا نشتري بأيماننا ثمنا قليلا من الدنيا . قال : ثم وجد عندهما بعد ذلك إناء من آنية الذهب ، فأخذا به ، فقالا : اشتريناه منه في حياته وكذبا ، فكلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم البينة فلم يقدرا على بينة ، فرفعا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ; فأنزل الله تعالى : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } إلى { الفاسقين } . فحلف وليان من أولياء الميت : إن مال صاحبنا كذا ، وإن الذي نطلبه قبل الداريين حق } .

                                                                                                                                                                                                              وعن مجاهد أن رجلين نصرانيين من أهل دارين أحدهما تميمي ، والآخر يمان ، صحبهما مولى لقريش في تجارة ، ومع القرشي مال معلوم ، قد علمه أهله من بين آنية وورق فمرض ، فجعل وصيته إلى الداريين ، فمات وقبضها الداريان ، فدفعاها إلى أولياء الميت وخاناه ببعض ماله ، فقالوا : إن صاحبنا قد خرج ، وذكر نحو حديث الجعفي .

                                                                                                                                                                                                              وذكر سنيد أن الآية نزلت في { تميم الداري وعدي بن بداء النصرانيين وكانا يختلفان إلى مكة والمدينة بعدما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ; فبعث عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة السهمي معهما رجلا يقال له بديل بن أبي مارية الرومي مولى العاص بن وائل [ ص: 234 ] بمتاع إلى أرض الشام فيه آنية من ذهب ، وآنية من فضة ، وآنية مموهة بالذهب . فلما قدموا الشام مرض بديل ، وكان مسلما ، فكتب وصيته ، ولم يعلم بها تميم الداري ولا عدي ، وأدخلها في متاعه ، ثم توفي ولم يبع شيئا من متاعه ، فقدم تميم الداري وعدي المدينة ، ودفعا المتاع إلى عمرو بن العاص وإلى المطلب ، وأخبراهما بموت بديل ، فقال عمرو والمطلب : لقد مضى من عندنا بأكثر من هذا ، فهل باع شيئا ؟ قالا : لا . فمضوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأحلف لهما تميما وعديا بعد صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما ترك عندنا غير هذا . ثم إن عمرا والمطلب ظهرا على آنية عند تميم الداري وعدي ، فقالا : هذه الآنية لنا ، وهي مما مضى به بديل من عندنا . فقال لهم تميم وصاحبه عدي : اشترينا هذه الآنية منه . فقال عمرو والمطلب : قد سألناكما هل باع شيئا ؟ فقلتما : لا ، وقد كانت وصية بديل أنه لم يبع شيئا . فحلف عمرو والمطلب واستحقا الآنية } .

                                                                                                                                                                                                              وذكر الواقدي أن الآيات الثلاث نزلت في { تميم الداري وأخيه عدي ، وكانا نصرانيين ، وكان متجرهما إلى مكة ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة ، وهو يريد الشام تاجرا فخرج مع تميم الداري وأخيه عدي حتى إذا كانا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية ، وكتب وصيته ، ودسها في متاعه ، وأوصى إلى تميم وعدي ، فلما مات فتحا متاعه ، وأخذا منه ما أرادا ، وأوصلا بقية التركة إلى ورثة الميت ، ففتحوا فوجدوا وصيته ، وقد كتب فيها ما خرج به ، ففقدوا أشياء ، فسألوا تميما وعديا عن ذلك ، فقال : ما ندري ، هذا الذي قبضنا له ، فرفعوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية : { يا أيها الذين آمنوا } الآية . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفا بالله ما قبضنا له غير هذا ، وما كتمناه شيئا . فحلفا بعد العصر ، ثم ظهر على إناء من فضة منقوش بذهب معهما ، فقالا اشتريناه منه ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية الأخرى : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل بيت الميت فحلفا ، واستحقا الإناء } .

                                                                                                                                                                                                              ثم إن تميما أسلم ، فكان يقول : صدق الله ، وبلغ رسوله ; أنا أخذت الإناء .

                                                                                                                                                                                                              وروى الشعبي أن رجلا من خثعم خرج من الكوفة إلى السواد . فمات بدقوقاء [ ص: 235 ] فلم يجد أحدا يشهد على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، فقدما الكوفة ، فأتيا أبا موسى الأشعري ، فأخبراه ، وقدما بتركته ووصيته ، فقال أبو موسى الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحلفهما ، وأمضى شهادتهما بعد صلاة العصر بمسجد الكوفة بالله الذي لا إله إلا هو ، ما كتما ولا غيرا . قال ابن عباس : كأني أنظر إلى العلجين حتى انتهى بهما إلى أبي موسى الأشعري ، ففتح الصحيفة ; فأنكر أهل الميت وجوههما ، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد صلاة العصر ، فقلت : لا يبالون بعد العصر ، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما .

                                                                                                                                                                                                              وقد روي عن ابن مسعود .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا }

                                                                                                                                                                                                              قد تقدم في سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية