الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون

                                                                                                                                                                                                                                        (50) أي: واعترض هؤلاء الظالمون المكذبون للرسول ولما جاء به، واقترحوا عليه نزول آيات عينوها، كقولهم: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا الآيات. فتعيين الآيات ليس عندهم، ولا عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن في ذلك تدبيرا مع الله، وأنه لو كان كذا، وينبغي أن يكون كذا، وليس لأحد من الأمر شيء.

                                                                                                                                                                                                                                        ولهذا قال: قل إنما الآيات عند الله إن شاء أنزلها أو منعها [ ص: 1320 ] وإنما أنا نذير مبين وليس لي مرتبة فوق هذه المرتبة.

                                                                                                                                                                                                                                        وإذا كان القصد بيان الحق من الباطل، فإذا حصل المقصود -بأي: طريق- كان اقتراح الآيات المعينات على ذلك ظلما وجورا، وتكبرا على الله وعلى الحق.

                                                                                                                                                                                                                                        بل لو قدر أن تنزل تلك الآيات، ويكون في قلوبهم أنهم لا يؤمنون بالحق إلا بها، كان ذلك ليس بإيمان، وإنما ذلك شيء وافق أهواءهم، فآمنوا لا لأنه حق، بل لتلك الآيات. فأي فائدة حصلت في إنزالها على التقدير الفرضي؟

                                                                                                                                                                                                                                        (51) ولما كان المقصود بيان الحق، ذكر تعالى طريقه، فقال: أولم يكفهم في علمهم بصدقك وصدق ما جئت به أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم وهذا كلام مختصر جامع، فيه من الآيات البينات، والدلالات الباهرات شيء كثير، فإنه كما تقدم إتيان الرسول به بمجرده وهو أمي، من أكبر الآيات على صدقه، ثم عجزهم عن معارضته، وتحديهم إياه آية أخرى، ثم ظهوره، وبروزه جهرا علانية، يتلى عليهم، ويقال: هو من عند الله، قد أظهره الرسول، وهو في وقت قل فيه أنصاره، وكثر مخالفوه وأعداؤه، فلم يخفه، ولم يثن ذلك عزمه، بل صرح به على رءوس الأشهاد، ونادى به بين الحاضر والباد، بأن هذا كلام ربي، فهل أحد يقدر على معارضته، أو ينطق بمباراته أو يستطيع مجاراته؟! ثم إخباره عن قصص الأولين، وأنباء السابقين والغيوب المتقدمة والمتأخرة، مع مطابقته للواقع.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم هيمنته على الكتب المتقدمة، وتصحيحه للصحيح، ونفي ما أدخل فيها من التحريف والتبديل، ثم هدايته لسواء السبيل، في أمره ونهيه، فما أمر بشيء فقال العقل: "ليته لم يأمر به" ولا نهى عن شيء فقال العقل: "ليته لم ينه عنه" بل هو مطابق للعدل والميزان، والحكمة المعقولة لذوي البصائر والعقول، ثم مسايرة إرشاداته وهدايته وأحكامه لكل حال وكل زمان بحيث لا تصلح الأمور إلا به؛ فجميع ذلك يكفي من أراد تصديق الحق، وعمل على طلب الحق، فلا كفى الله من لم يكفه القرآن، ولا شفى الله من لم يشفه الفرقان، ومن اهتدى به واكتفى، فإنه رحمة له وخير، فلذلك قال: إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون وذلك لما يحصلون فيه من العلم الكثير، والخير الغزير، وتزكية القلوب والأرواح، [ ص: 1321 ] وتطهير العقائد، وتكميل الأخلاق، والفتوحات الإلهية، والأسرار الربانية.

                                                                                                                                                                                                                                        (52) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا فأنا قد استشهدته، فإن كنت كاذبا، أحل بي ما به تعتبرون، وإن كان إنما يؤيدني وينصرني وييسر لي الأمور، فلتكفكم هذه الشهادة الجليلة من الله، فإن وقع في قلوبكم أن شهادته -وأنتم لم تسمعوه ولم تروه- لا تكفي دليلا فإنه يعلم ما في السماوات والأرض .

                                                                                                                                                                                                                                        ومن جملة معلوماته حالي وحالكم، ومقالي لكم، فلو كنت متقولا عليه، مع علمه بذلك، وقدرته على عقوبتي، لكان قدحا في علمه وقدرته وحكمته؛ كما قال تعالى: ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين

                                                                                                                                                                                                                                        والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون حيث خسروا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وحيث فاتهم النعيم المقيم، وحيث حصل لهم في مقابلة الحق الصحيح كل باطل قبيح، وفي مقابلة النعيم كل عذاب أليم، فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية