الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين

                                                                                                                                                                                                                                      في هذه الآية استشهاد على ما تقدم ذكره من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت ، وهمزة الاستفهام لإنكار النفي ، والتقرير المنفي : أي ألم ينته علمك أو نظرك إلى هذا الذي صدرت منه هذه المحاجة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفراء : " ألم تر " بمعنى هل رأيت : أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم وهو النمروذ بن كوس بن كنعان بن سام بن نوح ، وقيل : إنه النمروذ بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أن آتاه الله الملك أي لأن آتاه الله ، أو من أجل أن آتاه الله على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو ، فحاج لذلك ، أو على أنه وضع المحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر ، كما يقال : عاديتني لأني أحسنت إليك ، أو وقت أن آتاه الله الملك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : إذ قال إبراهيم هو ظرف لحاج ، وقيل : بدل من قوله : أن آتاه الله الملك على الوجه الأخير وهو بعيد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ربي الذي يحيي ويميت بفتح ياء ربي ، وقرئ بحذفها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أنا أحيي قرأ جمهور القراء أنا أحيي بطرح الألف التي بعد النون من " أنا " في الوصل وأثبتها نافع وابن أبي أويس كما في قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      أنا شيخ العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذربت السناما

                                                                                                                                                                                                                                      أراد إبراهيم عليه السلام أن الله هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد ، وأراد الكافر أنه يقدر أن يعفو عن القتل فيكون ذلك إحياء ، وعلى أن يقتل فيكون ذلك إماتة ، فكان هذا جوابا أحمق لا يصح نصبه في مقابلة حجةإبراهيم ، لأنه أراد غير ما أراده الكافر ، فلو قال له : ربه الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهل تقدر على ذلك ؟ لبهت الذي كفر بادئ بدء وفي أول وهلة ، ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى تنفيسا لخناقه ، وإرسالا لعنان المناظرة فقال : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة ولا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة ومشاغبة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فبهت الذي كفر بهت الرجل وبهت وبهت : إذا انقطع وسكت متحيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى بهت بفتح الباء والهاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جني : قرأ أبو حيوة " فبهت " بفتح الباء وضم الهاء ، وهي لغة في بهت بكسر الهاء ، قال : وقرأ ابن السميفع " فبهت " بفتح الباء والهاء على معنى : فبهت إبراهيم الذي كفر ، ف " الذي " في موضع نصب ، قال : وقد يجوز أن يكون بهت بفتحهما لغة في بهت .

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة " فبهت " بكسر الهاء ، قال : والأكثر بالفتح في الهاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عطية : وقد تأول قوم في قراءة من قرأ " فبهت " بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف ، وأن النمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم يكن له حيلة انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال سبحانه : فبهت الذي كفر ولم يقل فبهت الذي حاج ، إشعارا بأن تلك المحاجة كفر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : والله لا يهدي القوم الظالمين تذييل مقرر لمضمون الجملة التي قبله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أن الذي حاج إبراهيم في ربه هو نمروذ بن كنعان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرجه ابن جرير عن مجاهد وقتادة والربيع والسدي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن زيد بن أسلم : أن أول جبار كان في الأرض نمروذ ، وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام ، فخرج إبراهيم عليه السلام يمتار مع من يمتار ، فإذا مر به ناس قال : من ربكم ؟ قالوا : أنت ، حتى مر به إبراهيم ، فقال : من ربك ؟ قال : الذي يحيي ويميت ، قال : أنا أحيي وأميت ، قال : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر ، فرده بغير طعام .

                                                                                                                                                                                                                                      فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب من رمل أصفر فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي ، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم ، فأخذ منه فأتى أهله فوضع متاعه ثم نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه آخذ ، فصنعت له منه فقربته إليه ، وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام ، فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به ، فعرف أن الله رزقه فحمد الله .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن وأتركك على ملكك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال : فهل رب غيري ؟ فجاءه الثانية فقال له ذلك فأبى عليه ، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له الملك : فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ، فجمع الجبار جموعه فأمر الله الملك ففتح عليه بابا من البعوض وطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم فأكلت شحومهم وشربت دماءهم فلم يبق إلا العظام ، والملك كما هو لا يصيبه من ذلك شيء ، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه ثم ضرب بهما رأسه ، وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله ، وهو الذي كان بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من [ ص: 179 ] القواعد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في الآية ، قال : هو نمروذ بن كنعان يزعمون أنه أول من ملك في الأرض أتى برجلين قتل أحدهما وترك الآخر ، فقال : أنا أحيي وأميت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ عن السدي والله لا يهدي القوم الظالمين قال : إلى الإيمان .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية