باب وجوب صلاة الجماعة وقال الحسن إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة لم يطعها
618 حدثنا قال أخبرنا عبد الله بن يوسف عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج أبي هريرة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده
أبواب صلاة الجماعة والإمامة
- باب وجوب صلاة الجماعة
- باب فضل صلاة الجماعة
- باب فضل صلاة الفجر في جماعة
- باب فضل التهجير إلى الظهر
- باب احتساب الآثار
- باب فضل العشاء في الجماعة
- باب اثنان فما فوقهما جماعة
- باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد
- باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح
- باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة
- باب حد المريض أن يشهد الجماعة
- باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله
- باب هل يصلي الإمام بمن حضر وهل يخطب يوم الجمعة في المطر
- باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة
- باب إذا دعي الإمام إلى الصلاة وبيده ما يأكل
- باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج
- باب من صلى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته
- باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة
- باب من قام إلى جنب الإمام لعلة
- باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر الأول أو لم يتأخر جازت صلاته
- باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم
- باب إذا زار الإمام قوما فأمهم
- باب إنما جعل الإمام ليؤتم به
- باب متى يسجد من خلف الإمام
- باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام
- باب إمامة العبد والمولى
- باب إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه
- باب إمامة المفتون والمبتدع
- باب يقوم عن يمين الإمام بحذائه سواء إذا كانا اثنين
- باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام فحوله الإمام إلى يمينه لم تفسد صلاتهما
- باب إذا لم ينو الإمام أن يؤم ثم جاء قوم فأمهم
- باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى
- باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود
- باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء
- باب من شكا إمامه إذا طول
- باب الإيجاز في الصلاة وإكمالها
- باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي
- باب إذا صلى ثم أم قوما
- باب من أسمع الناس تكبير الإمام
- باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم
- باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس
- باب إذا بكى الإمام في الصلاة
- باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها
- باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف
- باب الصف الأول
- باب إقامة الصف من تمام الصلاة
- باب إثم من لم يتم الصفوف
- باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف
- باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام وحوله الإمام خلفه إلى يمينه تمت صلاته
- باب المرأة وحدها تكون صفا
- باب ميمنة المسجد والإمام
- باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة
- باب صلاة الليل
التالي
السابق
[ ص: 148 ] ( أبواب والإمامة ) ولم يفرده صلاة الجماعة بكتاب فيما رأينا من نسخ كتابه ، بل أتبع به كتاب الأذان لتعلقه به ، لكن ترجم عليه البخاري أبو نعيم في المستخرج " كتاب صلاة الجماعة " فلعلها رواية شيخه أبي أحمد الجرجاني .
قوله : ( باب ) هكذا بت الحكم في هذه المسألة ، وكأن ذلك لقوة دليلها عنده ، لكن أطلق الوجوب وهو أعم من كونه وجوب عين أو كفاية ، إلا أن الأثر الذي ذكره عن وجوب صلاة الجماعة الحسن يشعر بكونه يريد أنه وجوب عين ، لما عرف من عادته أنه يستعمل الآثار في التراجم لتوضيحها وتكميلها وتعيين أحد الاحتمالات في حديث الباب ، وبهذا يجاب من اعترض عليه بأن قول الحسن يستدل له لا به ، ولم ينبه أحد من الشراح على من وصل أثر الحسن ، وقد وجدته بمعناه وأتم منه وأصرح في كتاب الصيام للحسين بن الحسن المروزي بإسناد صحيح " عن الحسن في ، قال : فليفطر ولا قضاء عليه ، وله أجر الصوم وأجر البر . قيل : فتنهاه أن يصلي العشاء في جماعة ، قال : ليس ذلك لها ، هذه فريضة " وأما حديث الباب فظاهر في كونها فرض عين ، لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق ، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه . ويحتمل أن يقال : التهديد بالتحريق المذكور يمكن أن يقع في حق تاركي فرض الكفاية كمشروعية رجل يصوم - يعني تطوعا - فتأمره أمه أن يفطر ، وفيه نظر لأن التحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة ، ولأن المقاتلة إنما تشرع فيما إذا تمالأ الجميع على الترك ، وإلى القول بأنها فرض عين ذهب قتال تاركي فرض الكفاية عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر ، وبالغ وابن حبان داود ومن تبعه فجعلها شرطا في صحة الصلاة ، وأشار ابن دقيق العيد إلى أنه مبني على أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها ، فلما كان لهم المذكور دالا على لازمه وهو الحضور ، ووجوب الحضور دليلا على لازمه وهو الاشتراط ، ثبت الاشتراط بهذه الوسيلة . إلا أنه لا يتم إلا بتسليم أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها ، وقد قيل إنه الغالب . ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية قال أحمد : إنها واجبة غير شرط . انتهى .
وظاهر نص أنها فرض كفاية ، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه وقال به كثير من الحنفية والمالكية ، والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة ، وقد أجابوا عن ظاهر حديث الباب بأجوبة : منها ما تقدم . ومنها وهو ثانيها ونقله الشافعي إمام الحرمين عن ، والذي نقله عنه [ ص: 149 ] ابن خزيمة النووي الوجوب حسبما قال ابن بزيزة إن بعضهم استنبط من نفس الحديث عدم الوجوب لكونه - صلى الله عليه وسلم - هم بالتوجه إلى المتخلفين فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها إذا توجه . وتعقب بأن . الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه
قلت : وليس فيه أيضا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعة آخرين . ومنها وهو ثالثها ما قال ابن بطال وغيره : لو كانت فرضا لقال حين توعد بالإحراق من تخلف عن الجماعة لم تجزئه صلاته ، لأنه وقت البيان . وتعقبه ابن دقيق العيد بأن البيان قد يكون بالتنصيص وقد يكون بالدلالة ، فلما قال - صلى الله عليه وسلم - " لقد هممت إلخ " دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان . ومنها وهو رابعها ما قال وغيره إن الخبر ورد مورد الزجر وحقيقته غير مرادة . وإنما المراد المبالغة . ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار ، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك ، وأجيب بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار ، وكان قبل ذلك جائزا بدليل حديث الباجي الآتي في الجهاد الدال على جواز أبي هريرة ثم على نسخه ، فحمل التهديد على حقيقته غير ممتنع . ومنها وهو خامسها كونه - صلى الله عليه وسلم - ترك تحريقهم بعد التهديد ، فلو كان واجبا ما عفا عنهم ، قال القاضي التحريق بالنار عياض ومن تبعه : ليس في الحديث حجة لأنه عليه السلام هم ولم يفعل ، زاد النووي : ولو كانت فرض عين لما تركهم ، وتعقبه ابن دقيق العيد فقال : هذا ضعيف لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله ، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه ، على أنه قد جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن بلفظ : أبي هريرة الحديث . ومنها وهو سادسها أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة ، وهو متعقب بأن في رواية لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون مسلم : أي لا يحضرون ، وفي رواية لا يشهدون الصلاة عجلان عن عند أبي هريرة أحمد " " أي في الجماعة ، وفي حديث لا يشهدون العشاء في الجميع أسامة بن زيد عند ابن ماجه مرفوعا . لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم
ومنها وهو سابعها أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعل أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم لا لخصوص ترك الجماعة فلا يتم الدليل ، أشار إليه الزين بن المنير ، وهو قريب من الوجه الرابع . ومنها وهو ثامنها أن الحديث ورد في حق المنافقين ، فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه فلا يتم الدليل ، وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم ، وبأنه كان معرضا عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم وقد قال محمدا يقتل أصحابه وتعقب لا يتحدث الناس أن ابن دقيق العيد هذا التعقيب بأنه لا يتم إلا إذا ادعى أن ترك معاقبة المنافقين كان واجبا عليه ولا دليل على ذلك ، فإذا ثبت أنه كان مخيرا فليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم . انتهى . والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله في صدر الحديث الآتي بعد أربعة أبواب الحديث ، ولقوله " لو يعلم أحدهم إلخ " لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل ، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر بدليل قوله في رواية ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر عجلان " " وقوله في حديث لا يشهدون العشاء في الجميع أسامة " " وأصرح من ذلك قوله في رواية لا يشهدون الجماعة يزيد بن الأصم عن عند أبي هريرة أبي داود فهذا يدل على أن نفاقهم [ ص: 150 ] نفاق معصية لا كفر ، لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة ، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء ، نبه عليه ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة القرطبي . وأيضا فقوله في رواية المقبري يدل على أنهم لم يكونوا كفارا لأن لولا ما في البيوت من النساء والذرية لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته ، وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاق في الحديث نفاق الكفر فلا يدل على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها ، قال تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقا إلى الغلبة عليه الطيبي : خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة ، بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين ، ويدل عليه قول ابن مسعود " لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق " رواه مسلم ، انتهى كلامه .
وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن وسعيد بن منصور أبي عمير بن أنس حدثني عمومتي من الأنصار قالوا : يعني العشاء والفجر . ولا يقال فهذا يدل على ما ذهب إليه صاحب هذا الوجه لانتفاء أن يكون المؤمن قد يتخلف ، وإنما ورد الوعيد في حق من تخلف لأني أقول بل هذا يقوي ما ظهر لي أولا أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر ، فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازا لما دل عليه مجموع الأحاديث . ومنها وهو تاسعها ما ادعاه بعضهم أن فرضية الجماعة كانت في أول الإسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخ حكاه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يشهدهما منافق عياض ، ويمكن أن يتقوى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم وهو التحريق بالنار كما سيأتي واضحا في كتاب الجهاد ، وكذا ثبوت نسخ ما يتضمنه التحريق من جواز العقوبة بالمال ، ويدل على النسخ الأحاديث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ كما سيأتي بيانه في الباب الذي بعد هذا ، لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل ، ومن لازم ذلك الجواز . ومنها وهو عاشرها أن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات ، ونصره القرطبي ، وتعقب بالأحاديث المصرحة بالعشاء ، وفيه بحث لأن الأحاديث اختلفت في تعيين الصلاة التي وقع التهديد بسببها هل هي الجمعة أو العشاء ، أو العشاء والفجر معا ؟ فإن لم تكن أحاديث مختلفة ولم يكن بعضها أرجح من بعض وإلا وقف الاستدلال ، لأنه لا يتم إلا إن تعين كونها غير الجمعة ، أشار إليه ابن دقيق العيد ، ثم قال فليتأمل الأحاديث الواردة في ذلك . انتهى .
وقد تأملتها فرأيت التعيين ورد في حديث أبي هريرة وابن أم مكتوم ، أما حديث وابن مسعود فحديث الباب من رواية أبي هريرة عنه يومئ إلى أنها العشاء لقوله في آخره " لشهد العشاء " وفي رواية الأعرج مسلم " يعني العشاء " ولهما من رواية أبي صالح عنه أيضا الإيماء إلى أنها العشاء والفجر ، وعينها السراج في رواية له من هذا الوجه العشاء حيث قال في صدر الحديث " " فذكر الحديث . وفي رواية أخر العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلا فغضب من هذا الوجه " ابن حبان " وفي رواية يعني الصلاتين العشاء والغداة عجلان عند والمقبري أحمد التصريح بتعيين العشاء ، ثم سائر الروايات عن على الإبهام . وقد أورده أبي هريرة مسلم من طريق عن وكيع جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عنه فلم يسق لفظه وساقه الترمذي وغيره من هذا الوجه بإبهام الصلاة ، وكذلك رواه السراج وغيره عن طرق عن جعفر ، وخالفهم معمر عن جعفر فقال " الجمعة " أخرجه عبد الرزاق عنه ، طريقه وأشار إلى ضعفها لشذوذها ، ويدل على وهمه فيها رواية والبيهقي أبي داود في الأوسط من طريق والطبراني يزيد بن يزيد بن جابر عن يزيد بن الأصم فذكر [ ص: 151 ] الحديث ، قال يزيد : قلت ليزيد بن الأصم : يا أبا عوف الجمعة عنى أو غيرها ؟ قال : صمت أذناي إن لم أكن سمعت يأثره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ذكر جمعة ولا غيرها . فظهر أن الراجح في حديث أبا هريرة أنها لا تختص بالجمعة ، وأما حديث أبي هريرة فسأذكره قريبا وأنه موافق ابن أم مكتوم . وأما حديث لأبي هريرة ابن مسعود فأخرجه مسلم وفيه الجزم بالجمعة وهو حديث مستقل لأن مخرجه مغاير لحديث ، ولا يقدح أحدهما في الآخر فيحمل على أنهما واقعتان كما أشار إليه أبي هريرة النووي والمحب الطبري ، وقد وافق ابن أم مكتوم على ذكر العشاء ، وذلك فيما أخرجه أبا هريرة ابن خزيمة وأحمد من طريق والحاكم حصين بن عبد الرحمن عن عن عبد الله بن شداد ابن أم مكتوم فقال : يا رسول الله قد علمت ما بي ؟ وليس لي قائد - زاد ابن أم مكتوم أحمد - وأن بيني وبين المسجد شجرا ونخلا ولا أقدر على قائد كل ساعة . قال : أتسمع الإقامة ؟ قال : نعم . قال فاحضرها . ولم يرخص له أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقبل الناس في صلاة العشاء فقال : لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم . فقام من حديث ولابن حبان جابر قال وقد حمله العلماء على أنه كان لا يشق عليه التصرف بالمشي وحده ككثير من العميان . أتسمع الأذان ؟ قال : نعم . قال : فأتها ولو حبوا
واعتمد وغيره حديث ابن خزيمة هذا على فرضية الجماعة في الصلوات كلها ورجحوه بحديث الباب وبالأحاديث الدالة على الرخصة في التخلف عن الجماعة ، قالوا : لأن الرخصة لا تكون إلا عن واجب ، وفيه نظر ، ووراء ذلك أمر آخر ألزم به ابن أم مكتوم ابن دقيق العيد من يتمسك بالظاهر ولا يتقيد بالمعنى ، وهو أن الحديث ورد في صلاة معينة فيدل على وجوب الجماعة فيها دون غيرها ، وأشار للانفصال عنه بالتمسك بدلالة العموم ، لكن نوزع في كون القول بما ذكر أولا ظاهرية محضة [1] فإن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضيه ، ولا يستلزم ذلك ترك اتباع المعنى ، لأن غير العشاء والفجر مظنة الشغل بالتكسب وغيره ، أما العصران فظاهر ، وأما المغرب فلأنها في الغالب وقت الرجوع إلى البيت والأكل ولا سيما للصائم مع مضي وقتها ، بخلاف العشاء والفجر فليس للمتخلف عنهما عذر غير الكسل المذموم ، وفي المحافظة عليهما في الجماعة أيضا انتظام الألفة بين المتجاورين في طرفي النهار ، وليختموا النهار بالاجتماع على الطاعة ويفتتحوه كذلك . وقد وقع في رواية عجلان عن عند أبي هريرة أحمد تخصيص التهديد بمن حول المسجد ، وسيأتي توجيه كون العشاء والفجر أثقل على المنافقين من غيرهما . وقد أطلت في هذا الموضع لارتباط بعض الكلام ببعض ، واجتمع من الأجوبة لمن لم يقل بالوجوب عشرة أجوبة لا توجد مجموعة في غير هذا الشرح .
قوله : ( عن ) في رواية الأعرج السراج من طريق شعيب عن سمع أبي الزناد . الأعرج
قوله : ( والذي نفسي بيده ) هو قسم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يقسم به ، والمعنى أن أمر [ ص: 152 ] نفوس العباد بيد الله ، أي بتقديره وتدبيره [2]
وفيه جواز ، وفيه القسم على الأمر الذي لا شك فيه تنبيها على عظم شأنه . الرد على من كره أن يحلف بالله مطلقا
قوله : ( لقد هممت ) اللام جواب القسم ، والهم العزم وقيل دونه ، وزاد مسلم في أوله فأفاد ذكر سبب الحديث . أنه - صلى الله عليه وسلم - فقد ناسا في بعض الصلوات فقال : لقد هممت
قوله : ( بحطب ليحطب ) كذا للحموي بلام التعليل ، والمستملي والباقين " فيحطب " بالفاء ، وكذا هو في الموطأ ومعنى يحطب يكسر ليسهل اشتعال النار به . ويحتمل أن يكون أطلق عليه ذلك قبل أن يتصف به تجوزا بمعنى أنه يتصف به . وللكشميهني
قوله : ( ثم أخالف إلى رجال ) أي آتيهم من خلفهم ، وقال الجوهري : خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه ، أو المعنى أخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة وأتركه وأسير إليهم ، أو أخالف ظنهم في أني مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم ، أو معنى أخالف أتخلف - أي عن الصلاة - إلى قصدي المذكورين ، والتقييد بالرجال يخرج النساء والصبيان .
قوله : ( فأحرق ) بالتشديد ، والمراد به التكثير ، يقال حرقه إذا بالغ في تحريقه .
قوله : ( عليهم ) يشعر بأن العقوبة ليست قاصرة على المال ، بل المراد تحريق المقصودين ، والبيوت تبعا للقاطنين بها . وفي رواية مسلم من طريق أبي صالح . فأحرق بيوتا على من فيها
قوله : ( والذي نفسي بيده ) فيه إعادة اليمين للمبالغة في التأكيد .
قوله : ( عرقا ) بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف قال الخليل : العراق العظم بلا لحم ، وإن كان عليه لحم فهو عرق ، وفي الحكم عن الأصمعي : العرق بسكون الراء قطعة لحم . وقال الأزهري : العرق واحد العراق وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم ، ويبقى عليها لحم رقيق فيكسر ويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق ويتشمس العظام ، يقال عرقت اللحم واعترقته وتعرقته إذا أخذت اللحم منه نهشا ، وفي المحكم : جمع العرق على عراق بالضم عزيز ، وقول الأصمعي هو اللائق هنا .
قوله : ( أو مرماتين ) ) تثنية مرماة بكسر الميم وحكي الفتح ، قال الخليل : هي ما بين ظلفي الشاة ، وحكاه أبو عبيد وقال : لا أدري ما وجهه . ونقله المستملي في روايته في كتاب الأحكام عن الفربري قال : قال يونس عن محمد بن سليمان عن : المرماة بكسر الميم مثل مسناة وميضاة ما بين ظلفي الشاة من اللحم ، قال البخاري عياض فالميم على هذا أصلية ، وقال الأخفش : المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنصال محدودة يرمونها في كوم من تراب ، فأيهم أثبتها في الكوم غلب ، وهي المرماة والمدحاة .
قلت : ويبعد أن تكون هذه مراد الحديث لأجل التثنية ، وحكى الحربي عن الأصمعي أن المرماة سهم الهدف ، قال : ويؤيده ما حدثني . . ثم ساق من طريق أبي رافع عن نحو الحديث بلفظ أبي هريرة وقيل المرماة سهم يتعلم عليه الرمي ، وهو سهم دقيق مستو غير محدد ، قال لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان لفعل الزين [ ص: 153 ] بن المنير : ويدل على ذلك التثنية ، فإنها مشعرة بتكرار الرمي بخلاف السهام المحددة الحربية فإنها لا يتكرر رميها وقال : تفسير المرماة بالسهم ليس بوجيه ، ويدفعه ذكر العرق معه . ووجهه الزمخشري بأنه لما ذكر العظم السمين وكان مما يؤكل أتبعه بالسهمين لأنهما مما يلهى به . انتهى . وإنما وصف العرق بالسمن والمرماة بالحسن ليكون ثم باعث نفساني على تحصيلهما . وفيه الإشارة إلى ذم المتخلفين عن الصلاة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به ، مع التفريط فيما يحصل رفيع الدرجات ومنازل الكرامة . وفي الحديث من الفوائد أيضا ابن الأثير ، وسره أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفي به عن الأعلى من العقوبة ، نبه عليه تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة ابن دقيق العيد ، وفيه جواز . كذا استدل به كثير من القائلين بذلك من المالكية وغيرهم ، وفيه نظر لما أسلفناه ، ولاحتمال أن التحريق من باب ما لا يتم الواجب إلا به ، إذ الظاهر أن الباعث على ذلك أنهم كانوا يختفون في بيوتهم فلا يتوصل إلى عقوبتهم إلا بتحريقها عليهم . وفيه جواز العقوبة بالمال لأنه - صلى الله عليه وسلم - هم بذلك في الوقت الذي عهد منه فيه الاشتغال بالصلاة بالجماعة ، فأراد أن يبغتهم في الوقت الذي يتحققون أنه لا يطرقهم فيه أحد . أخذ أهل الجرائم على غرة
وفي السياق إشعار بأنه تقدم منه زجرهم عن التخلف بالقول حتى استحقوا التهديد بالفعل ، وترجم عليه في كتاب الأشخاص وفي كتاب الأحكام " باب إخراج أهل المعاصي والريب من البيوت بعد المعرفة " يريد أن من طلب منهم بحق فاختفى أو امتنع في بيته لددا ومطلا أخرج منه بكل طريق يتوصل إليه بها ، كما أراد - صلى الله عليه وسلم - إخراج المتخلفين عن الصلاة بإلقاء النار عليهم في بيوتهم . واستدل به البخاري وغيره على مشروعية ابن العربي ، ونوزع في ذلك . ورواية قتل تارك الصلاة متهاونا بها أبي داود التي فيها أنهم كانوا يصلون في بيوتهم كما قدمناه تعكر عليه . نعم يمكن الاستدلال منه بوجه آخر وهو أنهم إذا استحقوا التحريق بترك صفة من صفات الصلاة خارجة عنها سواء قلنا واجبة أو مندوبة كان من تركها أصلا رأسا أحق بذلك ، لكن لا يلزم من التهديد بالتحريق حصول القتل لا دائما ولا غالبا ، لأنه يمكن الفرار منه أو الإخماد له بعد حصول المقصود منه من الزجر والإرهاب . وفي قوله في رواية أبي داود دلالة على أن ليست بهم علة ولو قلنا إنها فرض ، وكذا الجمعة . الأعذار تبيح التخلف عن الجماعة
وفيه ، ولا بعد في أن تلحق بذلك الجمعة ، فقد ذكروا من الأعذار في التخلف عنها الرخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة لأجل إخراج من يستخفي في بيته ويتركها في حق الإمام كالغرماء . واستدل به على جواز خوف فوات الغريم وأصحاب الجرائم إذا كان في ذلك مصلحة ، قال إمامة المفضول مع وجود الفاضل ابن بزيزة : وفيه نظر لأن الفاضل في هذه الصورة يكون غائبا ، وهذا لا يختلف في جوازه ، واستدل به على جواز ابن العربي كما هو مذهب إعدام محل المعصية مالك ، وتعقب بأنه منسوخ [3] كما قيل في العقوبة بالمال ، والله أعلم .
قوله : ( باب ) هكذا بت الحكم في هذه المسألة ، وكأن ذلك لقوة دليلها عنده ، لكن أطلق الوجوب وهو أعم من كونه وجوب عين أو كفاية ، إلا أن الأثر الذي ذكره عن وجوب صلاة الجماعة الحسن يشعر بكونه يريد أنه وجوب عين ، لما عرف من عادته أنه يستعمل الآثار في التراجم لتوضيحها وتكميلها وتعيين أحد الاحتمالات في حديث الباب ، وبهذا يجاب من اعترض عليه بأن قول الحسن يستدل له لا به ، ولم ينبه أحد من الشراح على من وصل أثر الحسن ، وقد وجدته بمعناه وأتم منه وأصرح في كتاب الصيام للحسين بن الحسن المروزي بإسناد صحيح " عن الحسن في ، قال : فليفطر ولا قضاء عليه ، وله أجر الصوم وأجر البر . قيل : فتنهاه أن يصلي العشاء في جماعة ، قال : ليس ذلك لها ، هذه فريضة " وأما حديث الباب فظاهر في كونها فرض عين ، لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق ، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه . ويحتمل أن يقال : التهديد بالتحريق المذكور يمكن أن يقع في حق تاركي فرض الكفاية كمشروعية رجل يصوم - يعني تطوعا - فتأمره أمه أن يفطر ، وفيه نظر لأن التحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة ، ولأن المقاتلة إنما تشرع فيما إذا تمالأ الجميع على الترك ، وإلى القول بأنها فرض عين ذهب قتال تاركي فرض الكفاية عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر ، وبالغ وابن حبان داود ومن تبعه فجعلها شرطا في صحة الصلاة ، وأشار ابن دقيق العيد إلى أنه مبني على أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها ، فلما كان لهم المذكور دالا على لازمه وهو الحضور ، ووجوب الحضور دليلا على لازمه وهو الاشتراط ، ثبت الاشتراط بهذه الوسيلة . إلا أنه لا يتم إلا بتسليم أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها ، وقد قيل إنه الغالب . ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية قال أحمد : إنها واجبة غير شرط . انتهى .
وظاهر نص أنها فرض كفاية ، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه وقال به كثير من الحنفية والمالكية ، والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة ، وقد أجابوا عن ظاهر حديث الباب بأجوبة : منها ما تقدم . ومنها وهو ثانيها ونقله الشافعي إمام الحرمين عن ، والذي نقله عنه [ ص: 149 ] ابن خزيمة النووي الوجوب حسبما قال ابن بزيزة إن بعضهم استنبط من نفس الحديث عدم الوجوب لكونه - صلى الله عليه وسلم - هم بالتوجه إلى المتخلفين فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها إذا توجه . وتعقب بأن . الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه
قلت : وليس فيه أيضا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعة آخرين . ومنها وهو ثالثها ما قال ابن بطال وغيره : لو كانت فرضا لقال حين توعد بالإحراق من تخلف عن الجماعة لم تجزئه صلاته ، لأنه وقت البيان . وتعقبه ابن دقيق العيد بأن البيان قد يكون بالتنصيص وقد يكون بالدلالة ، فلما قال - صلى الله عليه وسلم - " لقد هممت إلخ " دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان . ومنها وهو رابعها ما قال وغيره إن الخبر ورد مورد الزجر وحقيقته غير مرادة . وإنما المراد المبالغة . ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار ، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك ، وأجيب بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار ، وكان قبل ذلك جائزا بدليل حديث الباجي الآتي في الجهاد الدال على جواز أبي هريرة ثم على نسخه ، فحمل التهديد على حقيقته غير ممتنع . ومنها وهو خامسها كونه - صلى الله عليه وسلم - ترك تحريقهم بعد التهديد ، فلو كان واجبا ما عفا عنهم ، قال القاضي التحريق بالنار عياض ومن تبعه : ليس في الحديث حجة لأنه عليه السلام هم ولم يفعل ، زاد النووي : ولو كانت فرض عين لما تركهم ، وتعقبه ابن دقيق العيد فقال : هذا ضعيف لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله ، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه ، على أنه قد جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن بلفظ : أبي هريرة الحديث . ومنها وهو سادسها أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة ، وهو متعقب بأن في رواية لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون مسلم : أي لا يحضرون ، وفي رواية لا يشهدون الصلاة عجلان عن عند أبي هريرة أحمد " " أي في الجماعة ، وفي حديث لا يشهدون العشاء في الجميع أسامة بن زيد عند ابن ماجه مرفوعا . لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم
ومنها وهو سابعها أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعل أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم لا لخصوص ترك الجماعة فلا يتم الدليل ، أشار إليه الزين بن المنير ، وهو قريب من الوجه الرابع . ومنها وهو ثامنها أن الحديث ورد في حق المنافقين ، فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه فلا يتم الدليل ، وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم ، وبأنه كان معرضا عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم وقد قال محمدا يقتل أصحابه وتعقب لا يتحدث الناس أن ابن دقيق العيد هذا التعقيب بأنه لا يتم إلا إذا ادعى أن ترك معاقبة المنافقين كان واجبا عليه ولا دليل على ذلك ، فإذا ثبت أنه كان مخيرا فليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم . انتهى . والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله في صدر الحديث الآتي بعد أربعة أبواب الحديث ، ولقوله " لو يعلم أحدهم إلخ " لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل ، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر بدليل قوله في رواية ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر عجلان " " وقوله في حديث لا يشهدون العشاء في الجميع أسامة " " وأصرح من ذلك قوله في رواية لا يشهدون الجماعة يزيد بن الأصم عن عند أبي هريرة أبي داود فهذا يدل على أن نفاقهم [ ص: 150 ] نفاق معصية لا كفر ، لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة ، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء ، نبه عليه ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة القرطبي . وأيضا فقوله في رواية المقبري يدل على أنهم لم يكونوا كفارا لأن لولا ما في البيوت من النساء والذرية لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته ، وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاق في الحديث نفاق الكفر فلا يدل على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها ، قال تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقا إلى الغلبة عليه الطيبي : خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة ، بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين ، ويدل عليه قول ابن مسعود " لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق " رواه مسلم ، انتهى كلامه .
وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن وسعيد بن منصور أبي عمير بن أنس حدثني عمومتي من الأنصار قالوا : يعني العشاء والفجر . ولا يقال فهذا يدل على ما ذهب إليه صاحب هذا الوجه لانتفاء أن يكون المؤمن قد يتخلف ، وإنما ورد الوعيد في حق من تخلف لأني أقول بل هذا يقوي ما ظهر لي أولا أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر ، فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازا لما دل عليه مجموع الأحاديث . ومنها وهو تاسعها ما ادعاه بعضهم أن فرضية الجماعة كانت في أول الإسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخ حكاه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يشهدهما منافق عياض ، ويمكن أن يتقوى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم وهو التحريق بالنار كما سيأتي واضحا في كتاب الجهاد ، وكذا ثبوت نسخ ما يتضمنه التحريق من جواز العقوبة بالمال ، ويدل على النسخ الأحاديث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ كما سيأتي بيانه في الباب الذي بعد هذا ، لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل ، ومن لازم ذلك الجواز . ومنها وهو عاشرها أن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات ، ونصره القرطبي ، وتعقب بالأحاديث المصرحة بالعشاء ، وفيه بحث لأن الأحاديث اختلفت في تعيين الصلاة التي وقع التهديد بسببها هل هي الجمعة أو العشاء ، أو العشاء والفجر معا ؟ فإن لم تكن أحاديث مختلفة ولم يكن بعضها أرجح من بعض وإلا وقف الاستدلال ، لأنه لا يتم إلا إن تعين كونها غير الجمعة ، أشار إليه ابن دقيق العيد ، ثم قال فليتأمل الأحاديث الواردة في ذلك . انتهى .
وقد تأملتها فرأيت التعيين ورد في حديث أبي هريرة وابن أم مكتوم ، أما حديث وابن مسعود فحديث الباب من رواية أبي هريرة عنه يومئ إلى أنها العشاء لقوله في آخره " لشهد العشاء " وفي رواية الأعرج مسلم " يعني العشاء " ولهما من رواية أبي صالح عنه أيضا الإيماء إلى أنها العشاء والفجر ، وعينها السراج في رواية له من هذا الوجه العشاء حيث قال في صدر الحديث " " فذكر الحديث . وفي رواية أخر العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلا فغضب من هذا الوجه " ابن حبان " وفي رواية يعني الصلاتين العشاء والغداة عجلان عند والمقبري أحمد التصريح بتعيين العشاء ، ثم سائر الروايات عن على الإبهام . وقد أورده أبي هريرة مسلم من طريق عن وكيع جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عنه فلم يسق لفظه وساقه الترمذي وغيره من هذا الوجه بإبهام الصلاة ، وكذلك رواه السراج وغيره عن طرق عن جعفر ، وخالفهم معمر عن جعفر فقال " الجمعة " أخرجه عبد الرزاق عنه ، طريقه وأشار إلى ضعفها لشذوذها ، ويدل على وهمه فيها رواية والبيهقي أبي داود في الأوسط من طريق والطبراني يزيد بن يزيد بن جابر عن يزيد بن الأصم فذكر [ ص: 151 ] الحديث ، قال يزيد : قلت ليزيد بن الأصم : يا أبا عوف الجمعة عنى أو غيرها ؟ قال : صمت أذناي إن لم أكن سمعت يأثره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ذكر جمعة ولا غيرها . فظهر أن الراجح في حديث أبا هريرة أنها لا تختص بالجمعة ، وأما حديث أبي هريرة فسأذكره قريبا وأنه موافق ابن أم مكتوم . وأما حديث لأبي هريرة ابن مسعود فأخرجه مسلم وفيه الجزم بالجمعة وهو حديث مستقل لأن مخرجه مغاير لحديث ، ولا يقدح أحدهما في الآخر فيحمل على أنهما واقعتان كما أشار إليه أبي هريرة النووي والمحب الطبري ، وقد وافق ابن أم مكتوم على ذكر العشاء ، وذلك فيما أخرجه أبا هريرة ابن خزيمة وأحمد من طريق والحاكم حصين بن عبد الرحمن عن عن عبد الله بن شداد ابن أم مكتوم فقال : يا رسول الله قد علمت ما بي ؟ وليس لي قائد - زاد ابن أم مكتوم أحمد - وأن بيني وبين المسجد شجرا ونخلا ولا أقدر على قائد كل ساعة . قال : أتسمع الإقامة ؟ قال : نعم . قال فاحضرها . ولم يرخص له أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقبل الناس في صلاة العشاء فقال : لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم . فقام من حديث ولابن حبان جابر قال وقد حمله العلماء على أنه كان لا يشق عليه التصرف بالمشي وحده ككثير من العميان . أتسمع الأذان ؟ قال : نعم . قال : فأتها ولو حبوا
واعتمد وغيره حديث ابن خزيمة هذا على فرضية الجماعة في الصلوات كلها ورجحوه بحديث الباب وبالأحاديث الدالة على الرخصة في التخلف عن الجماعة ، قالوا : لأن الرخصة لا تكون إلا عن واجب ، وفيه نظر ، ووراء ذلك أمر آخر ألزم به ابن أم مكتوم ابن دقيق العيد من يتمسك بالظاهر ولا يتقيد بالمعنى ، وهو أن الحديث ورد في صلاة معينة فيدل على وجوب الجماعة فيها دون غيرها ، وأشار للانفصال عنه بالتمسك بدلالة العموم ، لكن نوزع في كون القول بما ذكر أولا ظاهرية محضة [1] فإن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضيه ، ولا يستلزم ذلك ترك اتباع المعنى ، لأن غير العشاء والفجر مظنة الشغل بالتكسب وغيره ، أما العصران فظاهر ، وأما المغرب فلأنها في الغالب وقت الرجوع إلى البيت والأكل ولا سيما للصائم مع مضي وقتها ، بخلاف العشاء والفجر فليس للمتخلف عنهما عذر غير الكسل المذموم ، وفي المحافظة عليهما في الجماعة أيضا انتظام الألفة بين المتجاورين في طرفي النهار ، وليختموا النهار بالاجتماع على الطاعة ويفتتحوه كذلك . وقد وقع في رواية عجلان عن عند أبي هريرة أحمد تخصيص التهديد بمن حول المسجد ، وسيأتي توجيه كون العشاء والفجر أثقل على المنافقين من غيرهما . وقد أطلت في هذا الموضع لارتباط بعض الكلام ببعض ، واجتمع من الأجوبة لمن لم يقل بالوجوب عشرة أجوبة لا توجد مجموعة في غير هذا الشرح .
قوله : ( عن ) في رواية الأعرج السراج من طريق شعيب عن سمع أبي الزناد . الأعرج
قوله : ( والذي نفسي بيده ) هو قسم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يقسم به ، والمعنى أن أمر [ ص: 152 ] نفوس العباد بيد الله ، أي بتقديره وتدبيره [2]
وفيه جواز ، وفيه القسم على الأمر الذي لا شك فيه تنبيها على عظم شأنه . الرد على من كره أن يحلف بالله مطلقا
قوله : ( لقد هممت ) اللام جواب القسم ، والهم العزم وقيل دونه ، وزاد مسلم في أوله فأفاد ذكر سبب الحديث . أنه - صلى الله عليه وسلم - فقد ناسا في بعض الصلوات فقال : لقد هممت
قوله : ( بحطب ليحطب ) كذا للحموي بلام التعليل ، والمستملي والباقين " فيحطب " بالفاء ، وكذا هو في الموطأ ومعنى يحطب يكسر ليسهل اشتعال النار به . ويحتمل أن يكون أطلق عليه ذلك قبل أن يتصف به تجوزا بمعنى أنه يتصف به . وللكشميهني
قوله : ( ثم أخالف إلى رجال ) أي آتيهم من خلفهم ، وقال الجوهري : خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه ، أو المعنى أخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة وأتركه وأسير إليهم ، أو أخالف ظنهم في أني مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم ، أو معنى أخالف أتخلف - أي عن الصلاة - إلى قصدي المذكورين ، والتقييد بالرجال يخرج النساء والصبيان .
قوله : ( فأحرق ) بالتشديد ، والمراد به التكثير ، يقال حرقه إذا بالغ في تحريقه .
قوله : ( عليهم ) يشعر بأن العقوبة ليست قاصرة على المال ، بل المراد تحريق المقصودين ، والبيوت تبعا للقاطنين بها . وفي رواية مسلم من طريق أبي صالح . فأحرق بيوتا على من فيها
قوله : ( والذي نفسي بيده ) فيه إعادة اليمين للمبالغة في التأكيد .
قوله : ( عرقا ) بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف قال الخليل : العراق العظم بلا لحم ، وإن كان عليه لحم فهو عرق ، وفي الحكم عن الأصمعي : العرق بسكون الراء قطعة لحم . وقال الأزهري : العرق واحد العراق وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم ، ويبقى عليها لحم رقيق فيكسر ويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق ويتشمس العظام ، يقال عرقت اللحم واعترقته وتعرقته إذا أخذت اللحم منه نهشا ، وفي المحكم : جمع العرق على عراق بالضم عزيز ، وقول الأصمعي هو اللائق هنا .
قوله : ( أو مرماتين ) ) تثنية مرماة بكسر الميم وحكي الفتح ، قال الخليل : هي ما بين ظلفي الشاة ، وحكاه أبو عبيد وقال : لا أدري ما وجهه . ونقله المستملي في روايته في كتاب الأحكام عن الفربري قال : قال يونس عن محمد بن سليمان عن : المرماة بكسر الميم مثل مسناة وميضاة ما بين ظلفي الشاة من اللحم ، قال البخاري عياض فالميم على هذا أصلية ، وقال الأخفش : المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنصال محدودة يرمونها في كوم من تراب ، فأيهم أثبتها في الكوم غلب ، وهي المرماة والمدحاة .
قلت : ويبعد أن تكون هذه مراد الحديث لأجل التثنية ، وحكى الحربي عن الأصمعي أن المرماة سهم الهدف ، قال : ويؤيده ما حدثني . . ثم ساق من طريق أبي رافع عن نحو الحديث بلفظ أبي هريرة وقيل المرماة سهم يتعلم عليه الرمي ، وهو سهم دقيق مستو غير محدد ، قال لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان لفعل الزين [ ص: 153 ] بن المنير : ويدل على ذلك التثنية ، فإنها مشعرة بتكرار الرمي بخلاف السهام المحددة الحربية فإنها لا يتكرر رميها وقال : تفسير المرماة بالسهم ليس بوجيه ، ويدفعه ذكر العرق معه . ووجهه الزمخشري بأنه لما ذكر العظم السمين وكان مما يؤكل أتبعه بالسهمين لأنهما مما يلهى به . انتهى . وإنما وصف العرق بالسمن والمرماة بالحسن ليكون ثم باعث نفساني على تحصيلهما . وفيه الإشارة إلى ذم المتخلفين عن الصلاة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به ، مع التفريط فيما يحصل رفيع الدرجات ومنازل الكرامة . وفي الحديث من الفوائد أيضا ابن الأثير ، وسره أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفي به عن الأعلى من العقوبة ، نبه عليه تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة ابن دقيق العيد ، وفيه جواز . كذا استدل به كثير من القائلين بذلك من المالكية وغيرهم ، وفيه نظر لما أسلفناه ، ولاحتمال أن التحريق من باب ما لا يتم الواجب إلا به ، إذ الظاهر أن الباعث على ذلك أنهم كانوا يختفون في بيوتهم فلا يتوصل إلى عقوبتهم إلا بتحريقها عليهم . وفيه جواز العقوبة بالمال لأنه - صلى الله عليه وسلم - هم بذلك في الوقت الذي عهد منه فيه الاشتغال بالصلاة بالجماعة ، فأراد أن يبغتهم في الوقت الذي يتحققون أنه لا يطرقهم فيه أحد . أخذ أهل الجرائم على غرة
وفي السياق إشعار بأنه تقدم منه زجرهم عن التخلف بالقول حتى استحقوا التهديد بالفعل ، وترجم عليه في كتاب الأشخاص وفي كتاب الأحكام " باب إخراج أهل المعاصي والريب من البيوت بعد المعرفة " يريد أن من طلب منهم بحق فاختفى أو امتنع في بيته لددا ومطلا أخرج منه بكل طريق يتوصل إليه بها ، كما أراد - صلى الله عليه وسلم - إخراج المتخلفين عن الصلاة بإلقاء النار عليهم في بيوتهم . واستدل به البخاري وغيره على مشروعية ابن العربي ، ونوزع في ذلك . ورواية قتل تارك الصلاة متهاونا بها أبي داود التي فيها أنهم كانوا يصلون في بيوتهم كما قدمناه تعكر عليه . نعم يمكن الاستدلال منه بوجه آخر وهو أنهم إذا استحقوا التحريق بترك صفة من صفات الصلاة خارجة عنها سواء قلنا واجبة أو مندوبة كان من تركها أصلا رأسا أحق بذلك ، لكن لا يلزم من التهديد بالتحريق حصول القتل لا دائما ولا غالبا ، لأنه يمكن الفرار منه أو الإخماد له بعد حصول المقصود منه من الزجر والإرهاب . وفي قوله في رواية أبي داود دلالة على أن ليست بهم علة ولو قلنا إنها فرض ، وكذا الجمعة . الأعذار تبيح التخلف عن الجماعة
وفيه ، ولا بعد في أن تلحق بذلك الجمعة ، فقد ذكروا من الأعذار في التخلف عنها الرخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة لأجل إخراج من يستخفي في بيته ويتركها في حق الإمام كالغرماء . واستدل به على جواز خوف فوات الغريم وأصحاب الجرائم إذا كان في ذلك مصلحة ، قال إمامة المفضول مع وجود الفاضل ابن بزيزة : وفيه نظر لأن الفاضل في هذه الصورة يكون غائبا ، وهذا لا يختلف في جوازه ، واستدل به على جواز ابن العربي كما هو مذهب إعدام محل المعصية مالك ، وتعقب بأنه منسوخ [3] كما قيل في العقوبة بالمال ، والله أعلم .